يتم التحميل...

صفات الله الثبوتية الذاتية (العلم)

صفات وأسماء الخالق

أجمع الإِلهيون على أنَّ العلم من صفات الله الذاتيَّة الكماليَّة، وأنَّ العالِمْ من أسمائه العليا، وهذا لم يختلف فيه اثنان على إجماله. ولتبيين الحال تُمهد بمقدمة: ما هو العلم؟ عُرِّف العلمُ بأنَّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن، أو أنه انعكاس الخارج على الذهن عند اتصال الإِنسان بالخارج.

عدد الزوار: 77

العِلْم
أجمع الإِلهيون على أنَّ العلم من صفات الله الذاتيَّة الكماليَّة، وأنَّ العالِمْ من أسمائه العليا، وهذا لم يختلف فيه اثنان على إجماله. ولتبيين الحال تُمهد بمقدمة:

ما هو العلم؟
عُرِّف العلمُ بأنَّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن، أو أنه انعكاس الخارج على الذهن عند اتصال الإِنسان بالخارج. وقد أخذ الحكماء هذا التعريف من العلوم الرائجة عن الإِنسان.

ولكن التَّعريف ناقص لعدم شموله لبعض أقسام العلم. فإِنَّ العلم ينقسم إلى حصولي وحضوري، والتعريف المذكور يناسب الأول دون الثاني. وإليك توضيح القسمين:

إنَّ الإِنسان عندما يُطلُّ بنظره إلى الخارج ويلاحظ ما يحيط به في الكون من شجر وحجر، وشمس وقمر، يصبح مُدرِكاً والشَّيء الخارجيُ مدرَكاً ولكن بتوسط صورة بين المدرِك والمدرَك تُنْتَزَعُ تلك الصورة من الخارج بأدوات المعرفة ثم تَنْتَقِلُ إلى مراكز الإِدراك. فالشجرُ هو المعلوم بالعَرَض، والصورةُ هي المعلوم بالذَّات، والإِنسان هو العالم وإنما أسمينا الشيء الخارجي معلوماً بالعرَض والصورة معلوماً بالذَّات، لأن الخارجَ معلوم لنا بواسطة هذه الصورة ولولاها لا نقطعت صلة الإِنسان بالواقع.

وبعبارة أخرى: إنَّ الواقعية الخارجية ليست حاضرة عندنا بهذه السِّمة. لأن الشيء الخارجي له أثره الخارجي: الحرارة في النار، والرطوبة في الماء، والثِقَل في الحجر والحديد. ومعلوم انَّ الشيء الخارجي لا يَرِدُ إلى أذهاننا بهذه الصفات. ولأجل ذلك أصبح الشيء الخارجي معلوماً بالعَرَض، والصورة معلومة بالذَّات لمزاولة الإِنسان دائماً للصور الذهنيَّة.

وبذلك تقف على تعريف العلم الحصولي وهو: ما لا تكون فيه الواقعيَّة الخارجيَّة معلومة بنفسها، بل بتوسط صورة مطابقة لها. والأدوات الحسّية كلُّها موظَّفةٌ في خدمة هذا العِلْم. فهو يعتمد على ثلاثة ركائز: المدرك، الخارج، الصورة. ولا تَظُنَّنَ هذا اعترافاً بأصالة الصورة وفرعية الخارج، إذ لا شك أنَّ الأَمر على العكس، فالخارج هو الأصيل والصورة هي المنتزعة منه والحاكية عنه، غير أنَّ الذي يمارسه الذهن ويزاوله هو الصورة الموجودة عنده لا نفس الخارج. وهذه الصورة الذهنية وسيلته الوحيدة لدرك الخارج وإحساسه.

إلى هنا وقفت على تعريف العِلْم الحصولي. وأما العِلْم الحضوري فهو عبارة عن حضور المدرَك لدى المدرِك من دون توسط أي شيء، وله قسمان:

1- ما لا يتوسط فيه بين المدرِك والمدرَك شيء مع كون المدرِك غير المدرَك حقيقةً. وهذا كالعلم بنفس الصورة المنتزعة من الخارج. وذلك أنَّ الخارج يدرَك بواسطة الصورة، وأمّا الصورةُ نفسُها فمعلومةٌ بالذات ولا يتوسط بينها وبين المدرِك أي شيء. فعند اتصال الإِنسان بالخارج عن طريق الصورة الذهنية يجتمع هناك عِلمان: حصوليٌّ باعتبار علمه بالخارج عن طريق الصورة، وحضوريٌّ باعتبار علمه بنفس الصورة وحضورها بواقعيتها عند المدرِك.

وبذلك تقف على فرق جوهري بين العِلْمين وهو أنَّ المعلومَ في العلم الحصولي غيرَ حاضر لدى المدرِك بواقعيته كما عرفت، وفي الحضوري يكون المعلوم حاضراً لديه بواقعيته وهذا كالصورة العِلْمية الذهنيَّة فإنها بواقعيتها التي لا تخرج عن كونها موجوداً ذهنياً، حاضرة لدى الإِنسان.

وبذلك يظهر أنَّ الحصوليَّ ثلاثيُّ الأطراف والحضوريَّ ثنائيُّها في هذا القسم الأول منه.

2- ما لا يتوسط فيه بين المدرِك والمدرَك أي شيء ولكنهما يتحدان بالذات ويختلفان باللحاظ والاعتبار. وذلك كعلم الإِنسان ودَرْكِه لذاته، فإِنَّ واقعية كل إنسان حاضرة بذاتها لديه، وليست ذاتُه غائبةً عن نفسه، وهو يشاهد ذاتَه مشاهدة عقلية ويحس بها إحساساً وجدانياً ويراها حاضرة لديه من دون توسط شيء بين الإِنسان المدرِك وذاتِه المدرَكة. وفي هذه الحالة يصبح العِلمُ أحاديَّ الأطراف بدل ثنائيِّها في الثاني وثلاثيِّها في الأول. فالإِنسان في هذه الحالة هو العالم وهو المعلوم في آن واحد. وعندئذ يتّحد المدرِك والمدرَك وتصبح ذات الإِنسان عِلْماً وانكشافاً بالنسبة إلى ذاته. ومن العلم الحضوري علم الإِنسان بأحاسيسه من أفراحه وآلامه، فالكل حاضر لدى الذات بلا توسط صورة.

وبذلك تقف على ضعف الإِستدلال على وجود الإِنسان بتفكره، فيقال: "أنا أفَكِّر إِذَنْ أَنَا موجود"، فاستُدِلَّ بوجود التَّفَكُّر على وجود المُفَكِّر1، وجه الضعف:

أولا: إنَّ عِلمَ الإِنسان بوجود نفسه ضروريٌ لا يحتاج إلى البرهنة، فليس تفكر الإِنسان أوضح من علمه بذاته ونفسه.

ثانياً
:
إنَّ المستدل اعترف بالنتيجة في مقدمة الاستدلال حيث قال: "أن" أُفكر. فقد أخذ وجود نفسه أمراً مفروضاً ومسلَّماً ثم حاول الاستدلال عليه.

تعريف جامع
على ضوء ما ذكرنا من تقسيم العلم إلى الحصولي والحضوري يصح أنْ يُقال إِنَّ العلم على وجه الإِطلاق عبارة عن "حضور المعلوم لدى العالم"، وهذا التعريف يشمل العلم بكلا قسميه. غير أنَّ الحاضر في الأول هو الصورة الذهنية دون الواقعية الخارجية وفي الثاني نفس واقعية المعلوم من دون وسيط بينها وبين العالم. فالصورة الذهنية في العلم الحصولي حاضرة لدى الإِنسان غير غائبة عنه. كما أنَّ ذات الإِنسان في العلم الحضوري حاضرة لديه، وهي فيه، بما أنها واقفة على نفسها، تسمى عالمة، وبما أنها مكشوفة لنفسها غير غائبة عنها، تُعَدُّ معلوماً، وبما أنّ هناك حضوراً لا غيبوبة، يسمى ذلك الحضور علماً.

وهذا التعريف جامع شامل كلَّ أنواع العلوم الحاصلة في الممكن والواجب. فإِذا وقفت على هذه المقدمة يقع البحث في علمه سبحانه تارة بذاته وأخرى بفعله (الأشياء الخارجة عن ذاته).

علمُه سبحانه بذاتِه
إِنَّ علمه سبحانه بذاته ليس حصولياً بمعنى أخذه الصورة من الذات ومشاهدتها عن ذاك الطريق لإمتناع هذا القسم من العلم عليه كما سيأتي، بل حضوري بمعنى حضور ذاته لذاته، ويدل على ذلك أمران:

الأول: إِنَّ مفيض الكمال لا يكون فاقده.

إِنَّه سبحانه خلق الإِنسان العالم بذاته علماً حضورياً، فمُعطي هذا الكمال يجب أنْ يكون واجداً له على الوجه الأتمّ والأكمل لأن فاقد الكمال لا يعطيه، فهو واجد له بأحسن ما يمكن. ونحن وإِنْ لم نُحِطْ ولن نحيط بخصوصية حضور ذاته لدى ذاته غير أنَّا نرمُز إلى هذا العِلْم بـ"حضور ذاته لدى ذاته وعلمه بها من دون وساطة شيء في البَيْن".

وباختصار: لا يسوغ عند ذي فطرة عقلية أنْ يكون واهبُ الكمال ومفيضُه، فاقداً له. وإلاّ كان الموهوب له أشرف من الواهب، والمستفيدُ أكرمَ من المفيد. وحيث ثبت استناد جميع الممكنات إليه ومنها الذوات العالمة بأنفسها، وجب أنْ يكون الواجب واجداً لهذا الكمال أي عالماً بذاته عِلماً يكون نفس ذاته لا زائداً عليها2.

الثاني: إنَّ عوامل غيبوبة الذَّات واختفائها غير موجودة.

توضيحه: إنَّ الموجود المادي بما أنَّه موجود كمّي ذو أبعاض وأجزاء ليس لها وجود جمعي "إذ لا تجتمع أجزاؤه في مقام واحد" تغيب بعض أجزائه عن البعض الآخر فلا يصحّ للموجود المادّي من حيث إنَّه مادي أنْ يعلم بذاته، لمكان الغيبوبة المسيطرة على أجزاء ذاته.

فالغيبوبة مضادة لحضور الذات وتمنع تحقق علم الذات بالذات. فإِذا كان الموجود منزّهاً من الغَيْبة والجزئية والتَّبَعُّض وكان موجوداً بسيطاً جمعياً دون أجزاء وأبعاض، كانت ذاتُه حاضرةً لديها حضوراً كاملا مطلقاً. وبذلك نشاهد حضور ذواتنا عند ذواتنا لكن لا بمعنى حضور أبعاض أجسامنا وأبداننا بل بمعنى حضور الواقعية الإِنسانية المعبر عنها بلفظة "أن" المنزهة عن الكمّ والبَعْض والتجزئة. فلو فرضنا موجوداً على مستوى عال من التجرد والبساطة عارياً عن كل عوامل الغيبة التي هي من خصائص الكائن المادي، كانت ذاته حاضرة لديه. وهذا معنى علمه سبحانه بذاته أي حضور ذاته لدى ذاته بأتم وجه لتنزهه عن المادية والتركّب والتفرّق كما سيوافيك برهان بساطته عند البحث عن الصفات السلبية.

وهناك دلائل أُخر تركناها رَوْماً للاختصار. غير أنَّ هناك جماعة ينفون علمه بذاته وإليك بيان مذهبهم:

العلم بالذَّات يستلزم التغاير
استدلَّ النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنَّ العِلْم نسبةٌ قائمةٌ بين العالمِ والمعلوم والنسبة إنَّما تكون بين الشيئين المتغايرين، ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذْ لا تغاير ولا إثنينيَّة. وباختصار: الشيء الواحد أعني سبحانه تعالى، بما هو شيء واحد، لا تتصور فيه نسبة.

وقد أجاب عنه المحققون بما هذا حاصله إِنَّ التعدّد والتغاير إنما هو في العلم الحصولي لأنه عبارة عن إضافة العالِم إلى الخارج بالصورة الذهنية، ففيه الصورة المعلومة غير الهُويَّة الخارجية. وأمَّا العلم الحضوري فلا يشترط فيه التغاير خارجاً بل يكفي التعدد اعتباراً.

مثلا: إنَّه سبحانه بما أنّ ذاته غير غائبة عن ذاته فهو عالم، وبما أنَّ الذات حاضرة لديها فهي معلومة.

وبعبارة أخرى: إنَّ إطلاق العِلْم والعالِم والمعلوم لأجل حيثيات واعتبارات. فباعتبار انكشاف الذات للذات يسمى ذلك الانكشاف "عِلْم"، وباعتبار كون الذات مكشوفة لدى الذات يطلق عليها "معلومة"، وباعتبار كونها واقفة على ذاتها تسمى "عالِمة". ولو اعتبرتَ كيفية علم الإِنسان بذاته، لربما يسهل عليك تصديق ذلك.

وإلى ما ذكرنا يعود قول المحققين إِنَّ المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار. وهنا، ذاته تعالى من حيث إنها عالمة مغايرةٌ لها من حيث إنها معلومة، وذلك كاف في تعلق العِلْم3.

علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها
إنَّ علمَه سبحانه بالأشياء على قسمين: على قبل الإِيجاد، وعلم بعده. والأول هو الذي نرتئيه وهو من أهم المسائل الكلاميَّة، وإليك الدليل عليه:

1- العلم بالسببيَّة علم بالمسبَّب
إِنَّ العِلْم بالسبب، بما هو سبب، علم بالمسبَّب. والعلم بالعلَّة، بما هي علَّة، علم بوجود المعلول، والمراد من العلم بالعلَّة، العلم بالحيثية التي صارت مبدأً لوجود المعلول وحدوثه. ولتوضيح هذه القاعدة نمثل بالأمثلة التالية.

أ- إنَّ المنجم العارف بالقوانين الفلكية والمحاسبات الكونية يقف على أنَّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك يتحقق في وقت أو وضع خاص. وليس علمه بهذه الطوارئ إلاّ من جهة علمه بالعلة من حيث هي علّة لكذا وكذا.

ب - إنَّ الطبيب العارف بحالات النَّبض وأنواعه وأحوال القلب وأوضاعه يقدر على التنبوء بما سيصيب المريض في مستقبل أيامه. وليس هذا العلم إلاّ من جهة علمه بالعلَّة من حيث هي علَّة.

ج - إنَّ الصيدلي العارف بخصوصية السّم إذا شربه الإِنسان يخبر عن أنَّه سيقضي على حياة الشارب في مدة معينة، أيضاً.

إذا عرفت هذه الأمثلة نقول: إنَّ العالَم بأجمعه معلول لوجوده سبحانه وليس له علَّة إلاّ ذاته سبحانه. فالعِلْم بالذات علم بالحيثية التي هي سبب لتحقق العالم وتكوّنه. وبعبارة أخرى: العِلْمُ بالذات - كما عرفت دلائله - علم بالحيثية التي صدر منها الكون بأجمعه، والعلم بتلك الحيثية يلازم العلم بالمعلول. وهذا البرهان مبني على مقدمات مسلمة عند الإِلهيين نشير إلى خلاصتها:

الأولى: إنَّ العالم بجميع أجزائه مستند إليه سبحانه وهو مقتضى التوحيد في الخالقية، وإنَّه لا خالق إلاّ هو.

الثانية: علّيَّة شيء لشيء عبارة عن كونه مشتملا على خصوصية تقتضي صدور المعلول عنه وتوجب إيجاباً قطعياً وجود المعلول في الخارج بحيث لولا تلك الخصوصية لما تحقق المعلول. ولأجل ذلك تكون بين الخصوصية القائمة بالعلَّة ووجود المعلول رابطةٌ وصلةٌ خاصةٌ تقتضي وجودَ المعلول، ولولا تلك الخصوصية لكانت نسبةُ المعلول إلى العلَّة، وغيرِها الفاقد لها، متساوية، مع أنه ضروري البطلان.

فالخصوصية الموجودة في النار الموجبة للحرارة غير الخصوصية الموجودة في الماء المقتضية للرطوبة.

الثالثة: إنَّ فاعليته تعالى لِمَا عداه، بنفس ذاته لا بخصوصية طارئة، وجهة زائدة عليها. فهو بنفس ذاته فاعل الكل، كما هو مقتضى بساطة ذاته وغناه عن كل شيء (الخصوصية الزائدة) سواه. فالواجب تبارك وتعالى فاعل بذاته لا بحَيْثِيَّة منضمة إليها.

الرابعة: إنَّ العِلْم بالجهة المقتضية للشيء، علم بذاك الشيء. فيتحصل أنَّ علمه تعالى بذاته، علم بتلك الخصوصية والجهة. ويترتب عليه لازمه، أعني علمه بالأشياء قضاءً للملازمة. و قد أشار إلى هذا البرهان أعاظم المتكلمين والفلاسفة. قال صدر المتألهين: "إنَّ ذاته سبحانه لما كانت علَّة للأشياء "بحسب وجودها" والعلم بالعلة يستلزم العلم بمعلولها، فتعقّلها من هذه الجهة لا بُدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد"4.

وإلى ذلك يشير الحكيم السبزواري في منظومته بقوله:

وعالِـمٌ بِغَيْرِهِ إِذا اسْـــــــتَنَد    إليه وهو ذاتَه لقد شَـهِد
بالسَّبَبِ العِلْم بما هُوَ السَّبَب    عِلْمٌ بِما مُسَبَّبٌ بِهِ وَجَب
5


2- الإِحكام والإِتقان دليل علمِهِ بالمصنوعات
إنَّ لحاظ كل جهاز بسيط أو معقد (كقلم أو عقل الكتروني) يدلنا على أنَّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين والعلاقات. كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلفيها وجامعيها بما فيها.

وبعبارة أخرى: إنَّ وجود المعلول كما يدل على وجود العلة، فخصوصياته تدل على خصوصية في علته، فالعالَم بما أنه مخلوق لله سبحانه يدل ما فيه من بديع الخلق ودقيق التركيب على أنَّ خالقَه عالمٌ بما خلق، عليم بما صنع. فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات صانعه.

وقد وقع هذا البرهان موضع عناية عند المتفكرين. فإِنَّ المصنوع يدلّ من جهة الترتيب الذي في اجزائه أي كون صنع بعضها من أجل بعض، ومن جهة موافقة جميعها للغرض المقصود من ذلك المصنوع، على أنَّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات، بل حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية، فيجب أنْ يكون عالماً به. والإِنسان إذا نظر إلى بيت وأدرك أنَّ الأساس قد صُنع من أجل الحائط وأنَّ الحائط من أجل السقف، يتبين له أنَّ البيت قد وُجِدَ عن عالِم بصناعة البناء.

والحاصل، أنَّ المصنوع بما فيه من إتقان ودقة ونظام بديع ومقادير معينة ومضبوطة يحكي عن أنّ صانِعَه مطّلع على هذه القوانين والرموز، عارف بما يتطلبه ذلك المصنوع من مقادير وأنظمة. ومن هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرة الدقيقة وانتهاء إلى المجرة الهائلة، ومن الخلية الصغيرة إلى أكبر نجم، بما يسوده من أنظمة وتخطيطات بالغة الدقة، على أنَّ خالق الكون عالم بكل ما فيه من أسرار وقوانين وأن من المستحيل أن يكون جاهلا. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله: ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(الملك:14).

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ(ق:16).

وقال الإِمام أمير المؤمنين عليه السَّلام: "عَلِمَ ما يَمْضِي وما مَضَى، مُبْتَدِعُ الخلائِقِ بِعِلْمِه ومُنْشِؤُوها بِحِكْمَتِه"6.

وقال الإِمام علي بن موسى الرضا عليه السَّلام: "سبحان من خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرتِه، أتقَنَ ما خَلَق بِحِكْمَتِه وَ وَضَعَ كُلَّ شيء موضِعَهُ بِعِلْمِه"7.

وإلى هذا الدليل أشار المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد بقوله: "والإِحكامُ دليلُ العِلْم".

فإن قُلتَ: قد يصدر من بعض الحيوانات أفعال متقنة في ترتيب مساكنها ومعيشتِها، كما في النحل والنمل وكثير من الوحوش والطيور، مع أنها ليست من أولي العلم؟

قلتُ: إنَّ ما ذكرنا من أن الإِتقان في الفعل يدل على علم الفاعل قضيةٌ عقلية غيرُ قابلة للتخصيص، وأما هذه الحيوانات فإن عملها بإِلهام من خالقها كما عليه النصوص القرآنية. قال سبحانه: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ(النحل:68ـ69).

وما ربما يقال من تفسير هذه الأفعال العجيبة بغرائز الحيوانات، فلا ينافي ما ذكرنا. فإن الغرائز الصَّمَّاء لا تزيد عن كونها مادة عمياء لا تقدر على إيجاد شيء موزون إلاّ إذا كانت هناك قيادة عالية تسوقها إلى ما هو المطلوب منها. وللتفسير مجال آخر.

علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها
قد تعرفت على براهين علمه بذاته وبأفعاله قبل الإِيجاد، وحان وقت البحث عن علمه سبحانه بأفعاله بعد إيجادها وتكوينها فنكتفي في المقام بالبرهانين التاليين:

1- علمُه سبحانه فعلُه
إنَّ الأَشياء الخارجية تنتهي في مقام الوجود إلى الله سبحانه ويُعَدُّ الكلُّ معلولا له. وكلُّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علته لا يغيب ولا يحجب عنها. وقد عرفت أنَّ حقيقة العلم هو حضور المعلوم لدى العالم.

وبعبارة أخرى: إنَّ كل موجود سواه ممكن، جوهراً كان أوْ عَرَضاً، خارجياً كان أوْ ذهنياً. فالكل مصبوغ بِصبغة الإِمكان، ولا محيص للممكن عن الاستناد إليه. وليس الاستناد إلاّ الحضور لديه وإحاطته سبحانه به8.

توضيح هذا الدليل: إنَّ كل ممكن معلول في تحققه لله سبحانه، وليس للمعلولية معنى سوى تعلق وجود المعلول بعلته وقيامه بها قياماً واقعياً كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الإِسمي. فكما أنَّ المعنى الحرفي بكل شؤونه قائم بالمعنى الإِسمي فهكذا المعلول قائم بعلته. وكما أنَّ انقطاع المعنى الحرفي عن الإِسمي يقضي على وجوده، فهكذا انقطاع المعلول عن العلة ينتهي إلى انعدامه.

فإذا قلتَ: "سرتُ من البصرة"، فهناك معنى إسمي وهو السير والبصرة، ومعنى حرفي وهو ابتداء السير من ذلك البلد. ولكن المعنى الثاني قائم بالطرفين ولولاهما لما كان له قوام. ومثله المعلول أي الوجود الإِمكاني المفاض، قائم بالمفيض وليس له واقعية سوى تعلقه بعلته. وإلاّ يلزم استقلاله وهو، مع فرض الإِمكان، خلف.و ما هذا شأنه لا يكون خارجاً عن وجود علته، إذ الخروج عن حيطته يلازم الاستقلال وهو لا يجتمع مع كونه ممكناً. فلازم الوقوع في حيطته وعدم الخروج عنها، كون الأشياء كلها حاضرة لدى ذاته. والحضور هو العِلْم لما عرفت من أنَّ العلم عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم.

ويترتب على ذلك أنَّ العالَم كما هو فعلُه، فكذلك علمه سبحانه. وعلى سبيل التقريب لاحظ الصور الذهنية التي تخلقها النفس في مسرح الذهن، فهي فعل النفس وفي نفس الوقت علمها، ولا تحتاج النفس في العلم بتلك الصور إلى صور ثانية، وكما أنَّ النفس محيطة بتلك الصور وهي قائمة بفاعلها وخالقها فهكذا العالَم دقيقُه وجليلُه مخلوقٌ لله سبحانه قائمٌ به، وهو محيطٌ به.

2- سَعةُ وجودِه دليلُ عِلْمه
أثبتتْ البراهين القاطعة أنَّ وجوده سبحانه منزَّهٌ عن الجسم والمادَّة والزمان والمكان. وهو فوق كل قيد زماني أو مكاني وما كان هذا شأنه يكون وجوده غير محدود ولا متناه إذ المحدودية والتقيّد فرع كون الشيء سجين الزمان والمكان. فالموجود الزماني والمكاني لا يتجاوز إطار محيطه وأمَّا المنزَّه عن ذينك القيدين فلا يحدّه شيء ولا يحصره حاصر. وما هذا حاله لا يغيب عنه شيء ولا يحيطه شيء بل هو يحيط كل شيء.

وعلى سبيل التقريب نقول إنَّ الإِنسان الجالس في الغرفة الناظر إلى خارجها من كُوَّة صغيرة لا يرى من القطار العابر إلاّ جزءاً منه وهو بخلاف الواقف على السطح أو الناظر من أُفق أعلى كالطائرة.

وعلى هذا الأصل فكلما كان الإِنسان متجرّداً عن القيود تكون إحاطته بالأشياء أكثروأكثر. والله المنزه عن الزمان والمكان وكل حد وقيد لا يحيط به شيء من الأشياء الواقعة في إطار الزمان والمكان، بل هو المحيط بكل ما يجري على مسرح الوجود.

وقد أشار الإِمام عليّ ـ عليه السَّلام ـ إلى بعض ما ذكرنا بقوله: "إِنَّ الله عزَّوجلَّ أيَّن الأيْن فلا أيْنَ له، وجَلَّ أَنْ يحويه مكان، وهو في كل مكان، بغير مُماسَّة، ولا مُجاوَرَة. يحيط عِلْماً بما فيها، ولا يخلو شيء منها من تدبيره".

وسنتلو عليك بعض الآيات الكريمات عند البحث عن علمه سبحانه بالجزئيات.

مراتب علمه سبحانه
قد تبين مما ذكرنا أنَّ علمه سبحانه بالأشياء ذو مرتبتين:

الأولى: عِلْمُهُ بها قبل إيجادها في مرتبة الذات وقد عرفت برهانه.
الثانية: عِلْمُهُ بها بعد إيجادها خارج مرتبة الذات وقد عرفت برهانه. هذا حسب ما ساقتنا إليه البراهين الفلسفية. غير أنَّ الذكر الحكيم يذكر لعلمه سبحانه مظاهر عبّر عنها تارة:

باللوح المحفوظ، وأخرى بالكتاب المسطور، وثالثة بالكتاب المبين، ورابعة بالكتاب المكنون، وخامسة بالكتاب الحفيظ، وسادسة بالكتاب المُؤَجَّل، وسابعة بالكتاب، وثامنة بالإِمام المبين، وتاسعة بأُم الكتاب. وعاشرةً بلوح المحو والإِثبات.

فإلى اللوح المحفوظ أشار سبحانه بقوله: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْح مَّحْفُوظِ(البروج:21-22). وإلى الكتاب المسطور بقوله: ﴿وَكِتَاب مَّسْطُور * فِي رَقّ مَّنشُور(الطور:2-3). وإلى الكتاب المبين بقوله: ﴿وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَـاب مُّبِين(الأنعام:59). وإلى الكتاب المكنون بقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَـاب مَّكْنُون(الواقعة:77-78). وإلى الكتاب الحفيظ بقوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاَْرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ(ق:4). وإلى الكتاب المؤجَّل بقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً(آل عمران:145). وإلى الكتاب بقوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَ ائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الاَْرْضِ مَرَّتَيْنِ(الإِسراء:4). وإلى أم الإمام المبين بقوله: ﴿وَكُلَّ شَيء أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُّبِين(يس:12). وإلى أم الكتاب بقوله: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَـابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(الزخرف:4). وإلى لوح المحو والإِثبات بقوله: ﴿يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ(الرعد:39). وقد اكتفينا في الإِشارة إلى كل كتاب بآية واحدة مع أنَّ بعض هذه الكتب وردت الإِشارة إليها في آيات كثيرة.

ثم إن المفسرين اختلفوا في حقيقة هذه الكتب وخصوصياتها فمن قائل بتجردها عن المادة والمادية حتى يَصِحَّ أنْ تُعَدَّ مظاهر لعلمه غير المتناهي. ومن قائل بكونها ألواحاً وكتباً مادية سُطِّرَتْ فيها الأشياء وأعمارها وأوقاتها على وجه الرمز، ولا يمكن الركون إلى هذين القولين بل يجب الإِيمان بها وتحرّي تفسيرها عن طريق الكتاب والسنَّة الصحيحة.

ثم إِنَّه يُعَدّ من مظاهر علمه القضاء والقدر وسنبحث عنهما في فصل خاص بإذن منه سبحانه.

نكتتان يجب التنبيه عليهما
أ - علمه سبحانه حضوريٌ لا حصوليّ

قد تعرَّفتَ على الفرق بين العِلْم الحصولي والحضوري ولا نعيده. غير أنَّ الذي يجب إلفات النظر إليه أنَّ عِلْمَهُ سبحانه بذاته وبفعله حضوري: أَمَّا عِلمُه الذاتي بذاته فلعدم غيبوبة ذاته عن ذاته وحضورها لديها. وأمّا علمه بالأشياء فقد عرفت أنَّه على وجهين:

الأول: إنَّ العلم بالذات علم بالحيثية التي تصدر عنها الأشياء والعلم بتلك الحيثية علم بالأشياء. وبذلك يتضح أنَّ علمه سبحانه بذاته كَشْفٌ تفصيليٌ عن الأشياء على الوجه اللائق بذاته.

الثاني: حضور الممكنات لدى الواجب. لأن الممكن قائم بوجود الباري سبحانه حدوثاً وبقاءً وإنَّ قيامَه بذاته سبحانه أشبَهُ بقيام المعنى الحرفيّ بالإِسمي. وهذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة إذ هي مناطُ انعدامه وفنائه. فإِذا كانت الموجودات الإِمكانية بهذه الخصوصية، فكيف يُتصور لها الانقطاع عنها؟ وما هو إلا فَرْضُ انعدامِها وفنائِها. فعلى ذلك فالعالَم بعامة ذراته، فعله سبحانه وإيجاده، وفي الوقت نفسه حاضر لديه وهو أي الحضور، علمه. فعلم الله وفعله مفهومان مختلفان ولكنهما متصادقان في الخارج.

وأمَّا أنَّ له سبحانه وراء العِلْم الحضوري علماً حصولياً أوْ لا، فالبحث عنه موكول إلى محله في الكتب المُطَوَّلة. فإن المشائيّين من الفلاسفة زعموا أنَّ له سبحانه علماً حصولياً أسمَوْه بالصور المرتسمة.

ب - عِلْمه سبحانه بالجزئيات
وإن تَعجب فَعَجَبٌ إنكار بعض الفلاسفة علمه سبحانه بالجزئيات متأثرين ببعض الشبهات الواهية التي ستقف على بعضها وجوابِها. والإِمعان فيما ذكرنا حول الموجودات الإِمكانية يُوضِح لزومَ علمه سبحانه بالجزئيات وضوحاً كاملا. ويتضح حقيقته إذا وقفتَ على كيفية الخِلْقة وإفاضةِ الوجود من الله سبحانه، وإليك بيانه:

إنَّ الكون "بكل ما فيه" من الذرَّة إلى المجرَّة متجدد متغير لا بعوارضه وصفاته فقط بل بجواهره وذواته. وما يتراءى للناظر من الثبات والاستقرار والجمود في عالم الطبيعة فهو من خطأ الحواس، والحقيقة غير ذلك، فالمادة بجميع ذرّاتها خاضعة للتغير والتبدل والسيلان في كل آن وأَوان. ومعنى التغير في عالم المادة هو تجدد وجودها وسيلان تحققها آناً بعد آن. فكل ظاهرة مادية مسبوقة بالعدم الزماني. ووجود المادة، التي حقيقتها التدرّج والسيلان، أشبه بعين نابعة يتدفق منها الماء باستمرار، فليس لها بقاء وثبات وجمود واستقرار.

فإِذا كانت الخلقة وإفاضة الوجود على وجه التدريج والتجزئة، ولم يكن بإمكان المعلول الخروج عن حيطة علته، يظهر أن العالَم بذرّاته وأجزائه، حسب صدوره من الله تعالى، معلوم له. فالإِفاضة التدريجية، والحضور بوصف التَدَرُّج لديه سبحانه، يلازم علمَه تبارك وتعالى بالجزئيات الخارجيَّة.

شُبهات المنكرين
قد عرفت برهان عِلْمه سبحانه بالجزئيات، وبقي الكلام في تحليل الشبهات التي أُثيرت في هذا المجال. وإليك بيانها:

الشبهة الأولى: العلم بالجزئيات يلازم التغيُّرَ في عِلْمه
قالوا لو عَلِم سبحانه ما يجري في الكون من الجزئيات لزم تغيُّرُ علمه بتغيّر المعلوم وإلاَّ لانتفت المطابقة. وحيث إنَّ الجزئيات الزمانية متغيرة، فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغيّر علمه، وهو محال.

وأوضحها العلاَّمة ابن ميثم البحراني بقوله: "ومنهم من أنكر كونَه عالماً بالجزئيات على الوجه الجزئي المتغيّر، وإنما يعلمها من حيث هي ماهيات معقولة. وحجتهم أنه لو علم كون زيد جالساً في هذه الدار، فبعد خروجه منها، إنْ بقي علمُه الأول، كان جهلا، وإن زال لزم التغير"9.

تحليل الشبهة
إنَّ الشبهة واهية جداً، والجواب عنها

أولا: بالنقض بالقدرة، وذلك أنَّه لو استلزم تعلق العِلْم بالجزئيات تغيّره عند تغيّر المعلوم، فإنه يلزم أيضاً تغيّر قدرتِه بتعلُّقِها بالجزئيات، والقدرة من صفات الذات، فما هو الجواب في جانب القدرة والجواب في جانب العلم؟.

وثانياً: بالحلّ. إِنَّ عِلْمَنا بالحوادث الموجودة في أزمنة مختلفة علم زماني وأمَّا علمه تعالى فليس بزماني أصلا. فلا يكون ثمة حالٌ وماض ومُسْتَقْبَلٌ. فإن هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى الموجود الزماني الذي يعيش فيه، ويسمى ما يزاوله من الزمان حالا، وما مضى بالنسبة إليه ماضياً، وما سيوافيه، مستَقْبَلا. وأما الموجود الخارج عن إطار الزمان والمحيط به وبكل مكان فلا يتصور في حقه ماض وحاضر ومستقبل. فالله سبحانه عالم بجميع الحوادث الجزئية دفعة واحدة لا من حيث أنَّ بعضَها واقع في الحاضر وبعضَها في الماضي وبعضَها في المستقبل. بل يعلمها علماً شاملا متعالياً عن الدخول تحت الأزمنة.

وبعبارة أخرى: إنَّه تعالى لمَّا لم يكن مكانياً أيضاً (كما أنَّه لم يكن زمانياً) كانت نسبته إلى جميع الأمكنة على السواء فليس بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط. وعلى ذلك تكون نسبته إلى جميع الأشياء في جميع الأزمنة على السواء. فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له وليس في علمه "كان" و"كائن" و"سيكون"، بل هي حاضرة عنده بكل خصوصياتها لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة، إذ لا تحقق لها بالنسبة إليه تعالى. ومثل هذا العلم لا يكون متغيراً بل مستمراً كالعلم بالكليات.

ولتقريب الذهن نأتي بمثال: إذا كان الشارع حافلا بالسيّارات العابرة واحدة تلو الأخرى وكان هناك إنسان ينظر إليه من نافذة ضَيّقة. فإنه يرى في كل لحظة سيارة واحدة. فالسيارات حينئذ بالنسبة إليه على أقسام ثلاثة سيارة مرّت، وسيارة تمرّ، وسيارة لم تمرّ بعد. وهذا التقسيم صحيح بالنسبة إليه في هذا الموضع.

ولكن لو كان هذا الإِنسان ينظر إلى هذا الشارع من أُفُق عال، فإِنه يرى مجموع السيارات دفعة واحدة ولا يصح هذا التقسيم بالنسبة إليه عندئِذ.

وعلى ذلك الأصل فالموجود المنزَّه عن قيود الزمان وحدود المكان يقف على جميع الأشياء مرة واحدة، وتنصبغ الموجودات المتغيرة بصبغة الثَّبات بالنسبة إليه.

فالعِلْمُ في المثال الذي ذُكِر في بيان الشبهة من كون زيد جالساً في الدار ساعة ثم خروجه منها في ساعة أخرى، يتعلق بالجلوس والخروج مرة واحدة ولا معنى للتقدم والتأخر.

حل الشّبهة بوجه آخر
إنَّ الشبهة قائمة على فرض كون علمه سبحانه بالأشياء علماً حصولياً عن طريق الصور المرتسمة القائمة بذاته سبحانه وعند ذلك يكون التغير في المعلوم ملازماً لتغير الصُّوَر القائمة به ويلزم على ذلك كون ذاته محلا للتغير والتبدّل.

وأما لو قلنا بأنَّ علمه سبحانه بالجزئيات علمٌ حضوريٌ بمعنى أنَّ الأشياء بهُويّاتها الخارجية وحقائقها العينية، فعلُه سبحانه وفي الوقت نفسه عِلمه، فلا مانع من القول بطروء التغير على عِلْمِه سبحانه إِثْرَ طروء التغير على الموجودات العينية. فإنَّ التغير الممتنع على عِلْمه إنما هو العلم الموصوف بالعلم الذاتي وأما العلم الفعلي، أي العلم في مقام الفعل، فلا مانع من تغيره كتغيّر فعله. فإنَّ العلم في مقام الفعل لا يعدو عن كون نفسِ الفعل علمَه لا غير. وإلى ذلك يشير المحقق الطوسي بقوله: "و تغير الإِضافات ممكن"10.

أي إنَّ التغير إنَّما هو في الإِضافات لا في الذات. والمقصود من الإِضافات هو فعله الذي هو علمُه، ولا مانع من حدوث التغير في الإِضافات والمتعلَّقات من دون حدوث تغيّر في الذات.

الشبهة الثانية: إدراك الجزئيَّات يحتاج إلى آلة
إنَّ إدراك الجزئيات يحتاج إلى أدوات ماديَّة وآلات جسمانية، وهو سبحانه منزه عن الجسم ولوازم الجسمانية.

والجواب عن هذه الشبهة واضح، ذلك أنَّ العلم بالجزئيات عن طريق الأدوات المادية إنما هو شأن من لم يُحِط الأشياء إحاطة قَيْموميّة، ولم تكن الأشياء قائمة به حاضرة لديه، كالإِنسان، فإنَّ علمه بها لمَّا كان عن طريق انتزاع الصور بوسيلة الأدوات الحسيّة كان إدراك الجزئيات متوقفاً على تلك الأدوات وإعمالها.

وأما الواجب عزّ اسمه، فلمَّا كان علمه عن طريق إحاطته بالأشياء وقيامها به قياماً حقيقياً فلا يتوقف علمه بها على الأدوات وإعمالها.

وإلى هذا الجواب يشير الفاضل القوشجي فى شرح التجريد بقوله: "إن إدراك الجزئيات إنما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان العلم بانتزاع الصورة، وأما إذا كان إضافة محضة بدون الصورة فلا حاجة إليه"11.

الشبهة الثالثة: العلم بالجزئيات يلازم الكثرة في الذات
إِنَّ العِلمَ صورةٌ مساوية للمعلوم مرتسمةٌ في العالِم، ولا خفاء في أنَّ صُور الأشياء مختلفة، فيلزم كثرة المعلومات وكثرة الصور في الذات الأحَدِيَّة من كل وجه12.

والإِجابة عن الإِشكال "حسب ما عرفت" واضحةٌ، فإِنَّه مبنيٌّ على كون علمه بالأشياء مُرْتَسِماً في ذاته سبحانه كارتسام الأشياء في النفس الإِنسانية، فيلزم حدوثُ الكَثَرَات في الذات الأحَدِيَّة. وقد عرفت أنَّ عِلْمَه بالأشياء ليس بهذا النَّمَط، بل الهُوِيّات الخارجيَّة حاضرة لدى ذاته بلا ارتسام، وهذا النَّوع من العِلْم أقوى من ارتسام صور الأشياء.

الشبهة الرابعة: العِلْم بالجزئيات يوجب انقلابَ الممكن واجباً
لو تعلَّق العِلْمُ بالمتجدد قبل تجدُّدِه لزم وجوبُه وإِلاَّ لجاز أنْ لا يوجد، فينقلب علمُه تعالى جهلا وهو محال13.

وبعبارة أخرى: إنَّ علمَه تعالى لا يتعلق بالحوادث قبل وقوعها وإِلاَّ يلزم أنْ تكون تلك الحوادث ممكنة وواجبة معاً. أما الأول فلكونها حادثة، وأمَّا الثاني فلأنها لولاه لجاز أنْ لا توجد، فينقلب علمه جهلا.

والإِجابة عن الشبهة واضحة، فإِنَّ المحال هو اجتماع الممكن بالذات مع الواجب بالذات وأما اجتماع الممكن بالذات مع الواجب بالغير فهو أمر لا شبهة فيه. فإنَّ المعاليل عند وجود العلَّة التامة ممكناتٌ بالذات واجباتٌ بالغير.

وعلى ذلك فلو تعلق علمه سبحانه بوجود حادث في وقت خاص فعلمه سبحانه لا يخرجه عن الإِمكان الذاتي. إذ غاية ما يقتضي كون علمِه موافقاً للواقع، وجوبَ وجودِه بالغير، سواءٌ أكان السببُ هو الله سبحانه أو غيرهُ وهو يجتمع مع الممكن بالذات.

وباختصار: إنَّ الحادثَ الذي يقع في ظرف خاص لا يَخْرُج عن حدّ الإمكان بعد تعلُّق علمه تعالى به وحصول علّته التامة. فالعالَم كلُّه ممكنٌ بالذات وفي الوقت نفسِه واجبٌ بالغير.

القرآن الكريم وسعةُ عِلْمه تعالى
مما قدمنا تقف على عظمة الجملة القائلة "إنَّ الله بكلِّ شيء عليم" فهي تعني أنَّه تعالى عالم بما مضى وما يأْتي وما هو كائن وما في الكون من الأسرار والرموز. يقول سبحانه: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُـلُمَـاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين(الأنعام:59).

ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ(آل عمران:29).

ويقول سبحانه: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاَْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْء عِندَهُ بِمِقْدَار(الرعد:8).

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(ق:16).

وقال عزَّ مِنْ قائل: ﴿عَـالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين(سبأ:3).

إلى غير ذلك من الآيات الدَّالة على عِلْمه تعالى بالجُزْئِيات.

رفعة التَّعبير القرآني عن سعة علمه
إِنَّ من المفاهيم المُعْضِلَة هو تصور مفهوم اللامتناهي بحقيقته وواقعيته، فإنَّ الإِنسان لم يزل يتعامل في حياته مع الأمور المحدودة ولذلك أصبح تصور اللامتناهي أمراً مشكلا في غاية الصعوبة عليه. فهذه المنظومة بما فيها من السَّيَّارات جُزْءٌ من مَجَرَّتِنا الواسعة ومع ذلك فالجزء والكُلُّ متناهيان من حيث الذرّات والمركبات. وإنَّ أكبر عدد تعارف الإِنسان العادي على استخدامه في حياته هو رقم المليارد الذي يتألف من رقم واحد أمامه تسعة أصفار.

ثم إِنَّ الحضارة البشرية بسبب تكاملها في العلوم الرياضية توصلت إلى ما يسمى بالأرقام النجومية ومع ذلك فإنَّ كل ما توصل إليه الإِنسان من الأرقام حتى النجومية لا يتجاوز كونه عدداً متناهياً، والقرآن الكريم عندما يريد بيان علمه سبحانه من حيث كونه لا متناهياً، لا يستخدم الأرقام والأعداد الرياضية وحتى النجومية لانتهائها إلى حدٍّ ما، بل يأتي بمثال رائع يبين سعة علمه ويقول: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(لقمان:27).

أنظر إلى هذا التعبير الرائع الذي يفوق كل التعابير فلا تجد أيَّ رقم رياضي يصوِّر سعةَ علمه سبحانه يعادل قوله: ﴿ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله. ولو قال أحدٌ إِنَّ مقدار علمه هو العدد الواحد أمامه مئات الأصفار لما أفاد أيضاً ما يفيده قوله: ﴿ما نَفِدَتْ كَلِماتُ الله وبذلك تقف على حقيقة قوله سبحانه: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً(الأسراء:85)، فإنه يعبر عن مَحْدُودِيَّة المقاييس والمعايير البشرية كما يُعَبِّر عن قِلّةِ عِلْمِ الإِنسان وضآلةِ معارفه.

كلمات الإِمام علي عليه السَّلام في علمه تعالى بالجزئيات
قال أمير المؤمنين عليه السَّلام: "لا يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ السَّماءِ، ولا نُجُومُها ولا سَوافي الريحِ في الهواء، ولا دَبيبُ النَّملِ على الصَّفا، ولا مَقيلُ الذَّرِّ في الليلةِ الظَّلْماءِ، يَعْلَمُ مساقِطَ الأورَاقِ، وخَفِيَّ الأحداق"14.

وقال عليه السَّلام: "الحَمْدُ لله الذي يَعْلَمُ عجيجَ الوحوشِ في الفَلَوات، ومعاصي العبادِ في الخَلَوات، واختلافَ النينانِ في البحارِ الغامِرات، وتلاطُمَ الماء بالرياح العاصفات"15. و قال عليه السَّلام: "قد عِلِمَ السرائرَ، وخَبَرَ الضمائرَ، له الإِحاطة بكُلّ شَيْء"16.

إلى هنا تم الكلام عن إحدى الصفات الثبوتية الذاتية وهي العِلْم.


* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص107-131.


1- المستدل هو الفيلسوف الفرنسي (ديكارت).
2- الأسفار، ج 6، ص176.
3- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص 175، وشرح القوشجي، ص 313.
4- الأسفار، ج 6، ص 275.
5- شرح المنظومة، قسم الفلسفة، ص 164.
6- نهج البلاغة، قسم الحكم، 191.
7- بحار الأنوار ج 4، ص 65.
8- كشف المراد، ص 175، بتصرف.
9- قواعد المرام، ص 98.
10- تجريد الاعتقاد، ص 176.
11- شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي، ص 414.
12- المصدر السابق.
13- كشف المراد، ص 176

14- نهج البلاغة، خطبة 178.
15- نهج البلاغة، خطبة 198.
16- نهج البلاغة، خطبة 86.

2009-07-21