يتم التحميل...

البداء باختصار

صفات وأسماء الخالق

إنّ لله تعالى في شأنِ الاِنسان نوعين من التقدير:تقدير محتومٌ وقطعيٌّ لا يقبل التغييرَ والتبديلَ مطلقاً. تقديرٌ معلَّقٌ ومشروطٌ وهو يتغيَّر ويَتَبَدّلُ مع فقدان بعضِ الشرائطِ، ويحلُّ محلَّه تقديرٌ آخرٌ. وبالنَّظَر إلى هذا الاَصْلِ نُذَكِّرُ بأن الاِعتقاد بالبَداء هو أحَدُ الاَُصول الاِعتقاديّة الاِسلاميّة الاَصِيْلَة...

عدد الزوار: 523
البَداء
إنّ لله تعالى في شأنِ الاِنسان نوعين من التقدير


1- تقدير محتومٌ وقطعيٌّ لا يقبل التغييرَ والتبديلَ مطلقاً.

2- تقديرٌ معلَّقٌ ومشروطٌ وهو يتغيَّر ويَتَبَدّلُ مع فقدان بعضِ الشرائطِ، ويحلُّ محلَّه تقديرٌ آخرٌ.

وبالنَّظَر إلى هذا الاَصْلِ نُذَكِّرُ بأن الاِعتقاد بالبَداء هو أحَدُ الاَُصول الاِعتقاديّة الاِسلاميّة الاَصِيْلَة التي اتَّفَقَتْ جميعُ الفِرَقِ الاِسلاميّة على الاِعتقادِ بها إجمالاً، وإنْ أحجَمَ البعضُ عن استخدام لَفظة "البَداءِ" وهذا الاِستيحاش من إستعمال لفظة "البَداء" لا يَضُرُّ بالقَضِيّة أيضاً، إذ أنّ المقصود هو بَيان محتوى "البَداء" ومعناه، لا لفظه واسمه.

إنّ حقيقةَ "البَداء" تقومُ في الحقيقة على أصلين:

أ- انّ لله تعالى قدرةً وسلطةً مُطلقةً، فهو قادرٌ على تغيير أيّ تقديرٍ، وإحلالِ تقديرٍ آخر محلَّه متى شاءَ، في حين يعلم سلفاً بكلا التقديرين، ولا سبيل لاَيّ تغيير إلى عِلمه قط أيضاً، لاَنّ التقديرَ الاَوّل لم يكن بحيث يحدُّ من قدرةِ الله أو يَسلُبَ منه القدرةَ، فإنّ قدرة الله تعالى على خلاف ما تعتقِدُهُ اليهود من كَونها محدودةً لقولهم: ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ، قدرةٌ مطلقةٌ، أو كما قال القرآن:﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتان(المائدة:64).

وبعبارةٍ أُخرى: إنّ خلاّقية الله وإعمال السُّلطة والقُدرة من جانبهِ تعالى مستمرٌ، وبحكم قوله تعالى: ﴿كلَّ يَومٍ هُوَ في شَأنٍ(الرحمن:29) فالله تعالى لم يفرغ سبحانه عن أمر الخلقِ، بل عمليّة الخَلق لا تزال متواصِلة ومستمرة.

روى الصدوق باسناده عن الاِمام الصادق عليه السلام: أنّه قال في قول الله عزّ وجل: ﴿وقالتِ اليهودُ يَدُ اللهِ مَغلُولةٌلم يعنوا أنّه هكذا، ولكنّهم قالوا قد فرَغَ من الاَمر فلا يزيدُ ولا ينقص (أي في العمر والرّزق وغيرهما)، فقال الله جلّ جلالُه تَكذيباً لقولهم: ﴿غُلّتْ أيدِيهمْ ولُعِنُوا بِما قالُوا بل يَداهُ مَبْسُوطَتان يُنْفِقُ كيفَ يَشاءُ﴾. أَلم تسَمع الله عزَّ وجَلَ يقول: ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ(الرعد:39)1.

فالعقيدة الاِسلاميّة تقومُ على أساس الاعتراف بقدرة الله المطلقة وسلطتهِ التي لا تُحدُّ، وبدوام خلاّقيته واستمرارها، وبأنّ الله تعالى قادر كلّما شاءَ ومتى شاء أن يُغيّر المقدَّرات المرتبطة بالاِنسان في مجال العُمرِ والرِزقِ وغيرهما، ويُحلَّ مَحَلَّ ذلك مقدراتٍ أُخرى، وكلا التقديرين موجودان في "أُمّ الكتاب". وفي علم الله سبحانه.

ب- إنّ إعمالَ القُدرةِ والسُّلطَة من جانبِ الله تعالى، وإقدامَه على إحلال تقديرٍ مكان تقديرٍ آخر لا يتمُّ من دون حكمةٍ ومصلَحةٍ، وان قسماً من هذا التغيير يرتبط في الحقيقة بِعَمل الاِنسان وسلوكه، وإنتخابه، واختياره، وبنمط حياته الصالح أو السّيء، فهو بهذه الاَُمور يهيِّىَ أرضيّة التغيير في مصيره.

وَلْنفترض أنَّ إنساناً لم يراع  لا سمح اللهُ  حقوقَ والدَيه، فإن منَ الطبيعيّ أنّ هذا العَمل غير الصالح سيكونُ له تأثيرٌ غير مرغوب في مصيره.

فإذا غيَّر من سُلُوكِهِ هذا في النصفِ الآخر من حياتهِ، واهتمَّ بِرعاية حقوقِ والدَيْهِ فانَّه في هذه الحالة يكون قد هَيَّأ الاَرْضيّة لتغيير مصيرِهِ، وصار مشمولاً لقولِهِ تعالى: ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ ويُثبتُ﴾.

وينعكس هذا الّذي ذكرناه إذا انعكسَ الاَمر.

إنَّ الآيات والرّوايات في هذا المجال كثيرةٌ نذكرُ بعضها هنا:

1- ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ(الرعد:11).

2- ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّماءِ والاََرْضِ وَلَكن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(الاَعراف:96).

3- يروي السيوطيُ في تفسيره "الدرّ المنثور" أنَّ الاِمام أمير المؤمنين علياً عليه السلام سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله: (يَمْحوا الله ما يَشاء.

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لاَُقِرنَّ عَيْنَك بِتفسيرها ولاَُقِرَنَّ عَين أُمّتي بَعدي بتفسيرها: الصّدَقةُ على وَجهها، وبِرُّ الوالِدَين وَاصطِناعُ المعروف يُحوّلُ الشقاءَ سعادةً ويزيدُ في العُمُر ويقي مصارَع السُّوء"2.

وقالَ الاِمامُ الباقُر عليه السلام: "صِلةُ الاَرحام تُزَكّي الاَعْمالَ، وتُنمّي الاَموالَ، وَتَدْفَعُ البَلوى، وتُيَسِّرُ الحِساب، وتُنْسِىَُ في الاََجَل"3.

وبالنَظر إلى هذين الاََصلين يتَّضح أن الاعتقاد بالبداء عقيدة إسلاميّة قطعيّة، وأنّ جميع الفرق الاِسلامية تعتقد به بغضِّ النظر عن التعبير والتسمِية، واستخدام لفظ "البَداء".

وفي الختام نُذَكّرُ بُنقطتين لنعرف لماذا أُطلقت لفظة "البدَاء" على هذه المسألة في الرّوايات فجاء التعبير عن هذه العقيدة الاِسلامية بقولهم: "بَدا لله".

أ- إنّ استخدامَ هذه اللَّفَظة في هذه المسألة جاء تبعاً للنَبيّ الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى البخاريُ في صحيحه أنّ النبيّ قال في شأن ثلاثة أشخاص: أبرص وأقرع وأعمى: "بدا لله عزَّ وجلّ أن يَبْتَلِيهُمْ...".

ثم ذكر بعد ذلك قصّتهم بصورةٍ مفصَّلةٍ وبيَّنكيف أن اثنين منهم سُلبَت منهما سلامتُهما بسبب كفران النعمة، وأصابَهما ما أصيب به أسلافُهم من الاَمراض4.

ب- إنّ هذا النّوع من الاستعمال من باب المشاكلة، والتحدّث بلسان القوم حتى يفقهوا، ويفهموا الموضوع.

فقد تعارَفَ في العرف الاجتماعي أنَّه إذا غيَّرَ أحد قراراً قد اتخذه أن يقول بدا لي.

وقد تَحدَّث أئمةُ الدين بلسان القوم ليمكنهم تفهيم مخاطبِيهم، وقد استعملوا مثلَ هذه اللفظة في حق الله تعالى.

والجدير بالذِكر أنّ القرآنَ الكريمَ استخدمَ في شأن الله تعالى ألفاظاً وصفات مثل المكر والكيد، والخُداع والنسيان، في حين أنّنا نعلم أنّ الله تعالى منزَّهٌ عن مثل هذه الاَُمور (بِمعانيها ومفاهيمها الرائجة بين البشر) قطعاً ويقيناً، ومع ذلك كرّرَ القرآنُ الكريمُ هذه الصِفات واستعمل الاَلفاظ في حق الله سبحانه.

1- ﴿إنَّهم يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً(الطارق:15ـ16).

2- ﴿وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً(النمل:50).

3- ﴿إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ(النساء:142).

4- ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ(التوبة:67).

وعَلى كلّ حالٍ فإنّ لمحقّقي الشيعة حول استعمال لفظ البداء، بالنظر إلى امتناع حصول التغيّر، والتبدّل في علم الله تعالى دراساتٍ وتحقيقاتٍ قَويّةً وشيِّقةً لامجال لذكرها هنا، ونحن نحيل من يحب الاطّلاعَ عليها إلى الكتب والمؤلّفات التي تتضمن هذه الاَبحاث5.

*العقيدة الاسلامية،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ط1،ص286-291
 

1- التوحيد للصدوق، ص 167، الباب 25، ح 1.
2- الدر المنثور 4:66.
3- الكافي، 2:470، الحديث 13.
4- صحيح البخاري: 4:172.
5- كتاب التوحيد للصدوق، ص 331 ـ 336 تصحيح الاعتقاد للشيخ المفيد 24 عدة الاَُصول:29 كتاب الغيبة، ص 262 ـ 264 طبعة النجف.

2009-08-04