يتم التحميل...

الطرق الصحيحة إلى معرفة الله وصفاته

صفات وأسماء الخالق

إِنَّ ذاتَه سبحانه وأَسماءَه وصفاتَه وأَفعالَه، وإنْ كانت غيرَ مسانخة لمُدْرَكات العالَم المحسوس، لكنها ليست على نحو يستحيل التعرفُ عليها بوجه من الوجوه. ومن هنا نجد أَنَّ الحكماء والمتكلمين يسلكون طرقاً مختلفة للتعرف على ملامح العالَم الرُّبوبي، وهم يرون أَنَّ ذلك العالم ليس على وجه لا يقع في أُفق الإِدراك مطلقا...

عدد الزوار: 77

إِنَّ ذاتَه سبحانه وأَسماءَه وصفاتَه وأَفعالَه، وإنْ كانت غيرَ مسانخة لمُدْرَكات العالَم المحسوس، لكنها ليست على نحو يستحيل التعرفُ عليها بوجه من الوجوه. ومن هنا نجد أَنَّ الحكماء والمتكلمين يسلكون طرقاً مختلفة للتعرف على ملامح العالَم الرُّبوبي، وهم يرون أَنَّ ذلك العالم ليس على وجه لا يقع في أُفق الإِدراك مطلقاً، بل هناك نوافذ على الغيب عقليةٌ ونقليةٌ، يُرى منها ذلك العالم الفسيح العظيم.

وها نحن نشير إلى هذه الطرق
الأول: الطريق العقلي
إِذا ثبت كونه سبحانه غنياً غيرَ محتاج إلى شيء، فإِنَّ هذا الأَمر يمكن أَنْ يكون مبدأً لإِثبات كثير من الصفات الجلالية، فإِنَّ كل وصف استلزم خللا في غناه ونقضاًله، انتفى عنه ولزم سلبُه عن ذاته.

وقد سلك الفيلسوف الإِسلامي نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية حيث قال: "ووجوب الوجود يدل على سَرْمَدِيَّتِه، ونفي الزائد، والشريك، والمِثْل، والتركيب بمعانيه، والضَّدّ، والتَّحَيُّز، والحُلول، والإِتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه، والحاجة، والأَلم مطلقاً واللذة المزاجية، والمعاني والاحوال والصفات الزائدة والرؤية".

بل انطلق المحقق من نفس هذه القاعدة لإِثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال: "ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، والمُلْك، والتّمام، والحقيّة، والخيريّة، والحكمة، والتجبر، والقهر، والقيوميّة"1.

وقد سبقه إلى ذلك مؤلِّف الياقوت إذا قال: "وهو (وجوب الوجود) ينفي جملة من الصفات عن الذات الإِلهية وأَنَّهُ ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، ولا حالاًّ في شيء ولا تَقُوم الحوادث به وإِلا لكان حادثاً"2.

وعلى ذلك يمكن الإِذعان بما في العالم الرُّبوبي من الكمال والجمال بثبوت أصل واحد وهو كونُه سبحانَه موجوداً غنياً واجبَ الوجود، لأَجل بطلان التسلسل الذي عرفته. وليس إِثباتُ غناه ووجوبِ وجودهِ أَمراً مُشكلا على النفوس.

ومن هذا تنفتح نوافذ على الغيب والتعرف على صفاته الثبوتية والسلبية، وستعرف البرهنة على هذه الصفات من هذا الطريق.

الثاني: المطالعة في الآفاق والأَنْفُس
من الطرق والاصول التي يمكن التَّعرفُ بها على صفات الله، مطالعة الكون المحيط بنا، وما فيه من بديع النظام، فإِنه يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيات الكامنة فيه، وكلِّ القوانين التي تسود الكائنات. فمن خلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق أي مطالعة الكون، يمكن للإِنسان أنْ يهتديَ إلى قسم كبير من الصفات الجمالية. وبهذا يتبين أَنَّ ذات الله سبحانه وصفاته - بحكم أَنها ليس كمثلها شيء ليست محجوبةً عن التعرُّفِ المُطْلَق وغيرَ واقعة في أٌفق التعقل، حتّى نعطل العقول ونقول: "إنما أُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإِدراك الربوبية". وقد أَمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق. يقول سبحانه: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ(يونس:101). وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَات لاُِّوْلِي الاَْلْبَابِ(آل عمران:190). وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ لآَيَـات لِّقَوْم يَتَّقُونَ(يونس:6).

وقد سلك هذا الطريق المحقق الطوسي في إثبات صفة العلم والقدرة حيث قال: "والإِحكامُ والتَجَرّدُ واستنادُ كلِّ شيء إليه دليلُ العلم"3.

الثالث: الرجوع إلى الكتاب والسنَّة الصحيحة
وهناك أَصل ثالث يعتمد عليه أَتباع الشرع، وهو التعرف على أَسمائه وصفاته وأَفعاله بما ورد في الكتب السماوية وأَقوال الأَنبياء وكلماتهم، وذلك بعدما ثبت وجودُه سبحانه وقسمٌ من صفاته، ووقفنا على أنَّ الأَنبياءَ مبعوثون من جانب الله وصادقون في أَقوالهم وكلماتهم.

وباختصار، بفضل الوَحْي "الذي لا خطأ فيه ولا زَلَل" نَقِفُ على ما في المَبْدَأ الأَعلى من نعوت وشؤون. فَمِنْ ذلك قولُه سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَـالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(الحشر:23-24). وسيوافيك أنّ اسماءه في القرآن مائة وثمانية وعشرون إِسماً.

الرابع: الكَشْفُ والشُّهود.
وهناك ثُلَّةٌ قليلةٌ يشاهدون بعيونِ القلوبِ ما لا يُدْرَكُ بالأَبْصار، فَيَرَوْن جمالَهُ وجلالَه وصفاتَه وأَفعالَه بإِدراك قلبي، يدرك لأَصحابه ولا يوصَفُ لغيرهم.

والفُتوحاتُ الباطنيّة من المكاشفات والمشاهدات الروحيّة والإِلقاءات في الروع غَيْرُ مَسْدودَة، بنص الكتاب العزيز. قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً(الأنفال:29). أَي يجعل في قلوبكم نوراً تُفَرِّقون به بين الحقِّ والباطلِ وتُمَيِّزون به بين الصحيحِ والزائفِ لا بالبَرْهَنَةِ والإِستدلال بل بالشهود والمكاشَفَة.

وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(الحديد:28).

والمُراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلةَ حياتِه، في معاشه ومعاده، في دينه ودنياه3.

وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَـاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا(العنكبوت:69)، إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أَنَّ المُؤمِنَ يَصِلُ إلى معارف وحقائِق في ضوء المُجاهدة والتَّقوى، إلى أَنْ يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية، قال سبحانه: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينَ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ(التكاثر:5-6).

نعم ليس كلُّ من رمى أصاب الغَرَض، وليست الحقائق رمية للنِّبال، وإِنما يَصِل إليها الأَمْثَلُ فالأَمْثَل، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إِلاّ النزر القليل ممن خَلُصَ روحُه وصفى قلبُه.

وقد بان بهذا البحث الضافي، أَنه ليس لمسلم التوقف عن محاولة التعرف على صفات الله وأَسمائه بحُجَّة أنَّه لا مسانخة بين البشر وخالقهم.

نعم، نحن لا نَدَّعي أَنَّ بعضَ هذه الطرق ميسورَةَ السلوكِ للعامة جميعاً، بل منها ما هو عام مُتاحٌ لكلِّ إنسان يريد معرفة ربه، ومنها ما هو خاص يستفيد منه من بلغ مبلغاً خاصاً من العلم والمعرفة4.

الإِعراض عن البحث عما وراء الطبيعة، لماذا؟
هناك طوائف تمنع من البحث عما وراء هذا العالم المشهود وتَعُدُّ حُدودَ المادّةِ أَقصى ما تَصِلُ إليه المعرفةُ البشرية وتسلُب كلَّ قيمة من العِلْم المتعلق بما وراء الطبيعة. والعجبُ أن بعض هذه الطوائف من الإِلهيين الذين يعتقدون بوجود الإِله، ولكن لا يبيحون البحث عما وراء الطبيعة على الإِطلاق ويكتفون في ذلك بالإِيمان بلا معرفة.

وإِليك هذه الطوائف:

الطائفة الأولى: المادّيون
وهم الذين يعتقدون بأَصالة المادة ويَنْفُون أيَّ وجود وراءَ العالم الطبيعي، فالوجود عندهم مساو للمادة. وقد فرغنا عن إِبطال هذه النظرية في الأبحاث السابقة التي دلتنا على حدوث المادة ونظامها وانتهائِها إلى وجود قديم قائم بالذات.

الطائفة الثانية: المفرِّطون في أدوات المعرفة
وهؤلاء يعتقدون بما وراء الطبيعة، غير أَنَّهم يعتقدون بارتفاع قمم ذلك العالم وشموخها بحيث لا يمكن أَنْ تبلُغَها العقول وتنالَها الأَفهام. وهؤلاء يدعون أَمراً ولا يَأْتون عليه بدليل، فإِنَّ عند العقل قضايا بديهيةً كما أَنَّ لديه قضايا نظريةً منتهيةً إلى البديهية. والقضايا البديهيةُ صادقةٌ بالبداهة في حق المادة وغير المادة. وكما أنَّ العقل يستنتج من إِنهاء القضايا النظرية في الأمور الطبيعية إلى البديهية، نتائجَ كانت مجهولة، فهكذا عمله في القضايا الراجعة إلى ما وراء المادة. وستقف على كيفية البرهنة على صفاته وأَفعاله بهذا الطريق في ثنايا الكتاب.

الطائفة الثالثة: مُدّعو الكشف والشهود
وهؤلاء يعتقدون أنّ الطريقَ الوحيد للتعرف على ما وراء الطبيعة هو تهذيبُ النفس وجعلُها مستعدةً لقبول الإِفاضات من العالم الرّبوبي، وهذا في الجملةِ لا إِشكال فيه، ولكن حصرَ الطريق بالكشف والشهود ادعاء بلا دليل. فلا مانع من أَنْ تكون أَدوات المعرفة متعددةً من الحسّ والعقل والكشف.

الطائفة الرابعة: الحنابلة وبعض الأَشاعرة
وهؤلاء يعتقدون بأَنَّ الطريق الوحيد للتعرف على العالم الربوبي هو إِخبار السماء، فلا يجوز لنا الحكم بوحدة الذات الإِلهية أَو كثرتِها، وبساطَتِها أَو تَرَكُّبِها، وجسمانِيَّتِها أو تَجَرُّدِها، إِلاّ بالأَخبار والأَنباء الواردة من السماء. وقد عزب عن هؤلاء أنَّ العقل عنصر سماوي موهوب من قبل الله تعالى للإِنسان لا كتشاف الحقائق بشكل نسبي. قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(النحل:78).

وأَوضح دليل على قدرة العقل على البحث ودراسة الحقائق السُّفْلِيَّة والعُلْوِيَّة حَثُّ الوَحْي على التَّعَقُّل سبعةً وأَربعين مرةً، والتَّفَكُّر ثمانيةَ عشر مرةً، والتَّدَبُّر أربعَ مرات في الكتاب العزيز.

وتخصيص هذه الآيات بما وقع في أفق الحس تخصيص بلا دليل.

ثم لو كان الخوض في البحث عما وراء المادة أَمراً محظوراً، فلِمَ خاض القرآن في هذه المباحث، ودعى جميع الإِلهيين إلى سلوك هذا الطريق الذي سار عليه. قال سبحانه: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(الأنبياء:22). وقال سبحانه: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـه إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـهِ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(المؤمنون:91). ترى في هاتين الآيتين أدَقَّ البراهين على التوحيد في التدبير بما لا يُتَصَوَّر فوقَهْ، وسيوافيك تفسير الآيتين عند البحث عن وصف التوحيد.

إِنَّ الكتاب الكريمَ يَذُمُّ المشركين بأَنَّهم يعتقدون بما لا برهان لهم علي، ومن خلال ذلك يرسم الطريق الصحيح للالهيين وهو أَنه يجب عليهم تحصيل البرهان على كل ما يعتقدونه في المبدأَ والمعاد. قال سبحانه: ﴿أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَـذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ(الأنبياء:24).

ولو كان عمل السلف في هذا المجال حجة، فهذا الإِمام علي بن أبي طالب قد خاض في الإِلهيات في خُطبَه ورسائله وكلمه القصار بما ليس في وسع أَحد غيره.

ولأَجل ذلك ترجع إليه كثير من المدارس الفكرية العقلية في الإِلهيات، وعنه أَخذت المعتزلة العدل والتوحيد، والإِمامية أُصولها وعقائدها.

فلا ندري لماذا تحتج سلفية العصر الحاضر والماضي بعمل أَهل الحديث من الحنابلة والأَشاعرة، ولا تحتج بفعل الإِمام أَمير المؤمنين علي بن أبي طالب ربيب أَحضان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلميذِه الأَول خليفة المسلمين أَجمعين.

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله: "إنَّ للناس مسالك مختلفة في هذا المجال، فهناك من يرى البحث عن الحقائق الدينية والتَّطَلُع إلى ماوراء ظواهر الكتاب والسُّنَة بدعةً، والعقل يُخَطِّئُهُم في ذلك، والكتابُ والسنةُ لا يصدِّقانِهم.

فآيات الكتاب تُحَرِّضُ كُلَّ التحريض على التدبر في آيات الله وبذل الجُهْد في تكميل معرفته ومعرفة آياته بالتذكر والتفكر والنظر فيها والإِحتجاج بالحجج العقلية، ومتفرقات السنَّة المتواترة معنى توافقها. وهؤلاء هم الذين يحرِّمون البحث عن حقائق الكتاب والسنة، حتى البحث الكلاميّ الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية ثم الدفاع عنها بما تيسّر من المقدمات المشهورة والمُسَلَّمَةِ عند أَهل الدين"5.

عودة نظرية أَهل الحديث في ثوب جديد
لقد عادت نظرية أَهل الحديث في العصر الحاضر بشكل جديد وهو أنَّ التحقيقَ في المسائل الإِلهيةِ لا يُمْكِن إلا من خلال مطالعة الطبيعة. قال محمد فريد وجدي: "بما أنّ خُصومَنا يعتمدون على الفلسفة الحِسِّية والعِلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم فنجعلهما عُمْدَتَنا في هذه المباحث بل لا مناص لنا من الإِعتماد عليهما، لأَنهما اللذان أَوصلا الإِنسان إلى هذه المِنصَّة من العهد الروحاني"6.

وقال السيد أبو الحسن النَّدَوي: "قد كان الأَنبياء ـ عليهم السَّلام ـ أَخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأَفعاله، وعن بداية هذا العالم ومصيره وما يهجم على الإِنسان بعد موته وآتاهم علم ذلك كلِّه بواسطتهم عفوا بلا تعب، وكفوهم مؤنة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادؤها ولا مقدماتها التي يبنون عليها بحثَهم ليتوصلوا إلى مجهول، لأنّ هذه العلوم وراء الحس والطبيعة، لا تعمل فيها حواسهم، ولا يؤدي إِليها نظر هم وليست عندهم معلوماتها الأَولية...إلى أَنْ قال...الذين خاضوا في الإِلهيات من غير بصيرة وعلى غير هدى جاؤوا في هذا العلم بآراء فجَّة ومعلومات ناقصة وخواطر سانحة ونظريات مستعجلة، فضلّوا وأضلّوا"7.

أقول: لا شك أَنَّ القرآن يدعو إلى مطالعة الطبيعة، كما مر. إلاّ أنّ الكلامَ هو في مدى كفاية النظر في الطبيعة ودراستها في البرهنة على المسائل التي طرحها القرآن الكريم مثل قوله سبحانه:

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء(الشورى:11).

﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاَْعْلَى(النحل:60).

﴿لَهُ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى(طه:8 - الحشر:22).

﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ(البقرة:115).

﴿هُوَ الاَْوَّلُ وَالاَْخِرُ وَالظَّـهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ(الحديد:3).

﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ(الحديد:4).

إلى غير ذلك من المباحث والمعارف التي لا تنفع دراسة الطبيعة ومطالعة العالم المادّي في فكِّ رموزها والوقوف على حقيقتها، بل تحتاج إلى مبادئ ومقدمات عقلية وأسس منطقية.

إِنَّ مطالعة العالمَ الطبيعي تهدينا إلى أنَّ للكون صانعاً عالماً قادراً، وتهدينا إلى أَنَّه سبحانه عالم بكل شيء وقادر على كل شيء، وانه خالق كل شيء، و مدبر كل شيء.

فإذا أردنا أن نحدد مدى المعرفة الحاصلة من النظر في الطبيعة، فلنا أن نقول: إنَّ الإِمعان في الطبيعة يُوصلنا إلى حدود ماوراء الطبيعة، ويوقفُنا على أنَّ الطبيعة تخضع لقوة قاهرة وتدبير مدبّر عالم قادر، ولكن لا يمكن للإِنسان التَّخَطِّي عن ذلك إلى المسائل التي يطرحها القرآن أو العقل، وللمثال نقول:

أَولا: إِذا كان ماوراء الطبيعة مصدراً للطبيعة فما هو المصدر لما وراءها نفسها؟
ثانياً: هل ذلك المصدر أزَلِيُّ أو حادثٌ، واحدٌ أو كثير، بسيطُ أو مُرَكَّب، جامع لجميع صفات الجمال والكمال أو لا؟
ثالثاً: هل لعلمه حدّ ينتهي إليه أو لا؟
رابعاً: هل لقدرته نهاية تَقِفُ عندها أو لا؟
خامساً: هل هو أَوّلُ الأَشياء وآخرُها أو لا؟
سادساً: هل هو ظاهر الأَشياء وباطنها؟

إنّ هذه المعارف يطرحها القرآن الكريم ويأمر بالتدبّر فيها ويقول: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا(محمد:24).

والإِمعان في الطبيعة لا يفيد في الإِجابة عن هذه التساؤلات، والوقوف على المعارف المطروحة في القرآن.

وعندئذ لا مناص عن سلوك أحد الطريقين: إمَّا أنْ يصار إلى التعطيل وتحريم البحث حول هذه المعارف. وإمَّا الإِذعان بوجود طريق عقليٍّ يوصِلُنا إلى تحليل هذه المعارف ويساعدُنا على الوقوف عليها.

إِنَّ الذين يُحَرِّمون الخوضَ في هذه المباحث يعتمدون على أَنَّ التعرُّفَ على حقيقة الذات وكُنْهِ صفاتها أَمرٌ محال، ولكن ليس كلُّ بحث كلامي ينتهي إلى ذلك الحد ويحاول البحث عن حقيقة الذات الإِلهية كما أَوضحناه.

إِنَّ العلومَ الطبيعيةَ قد خَدَمَت مَسْلَكَ الإِلهيين وعزَّزَت موقفهم، حيث أَثبتت أَنَّ الكون نظامٌ كله، إِلاّ أَنها قاصرة عن حل كل المشاكل المطورحة في مجال العقائد.

نعم، إِنَّ في هذه الأَبحاث ليس متاحاً لكل أحد، وليس مُيَسَراً لكل قاصد، فهي من قبيل السهل الممتنع، وذلك لأنَّ الإِنسان بسبب أنسِه بالأُمور الحِسِّية يصعب عليه تحريرُ فِكْرِه عن كل ما تَفْرِضه عليه ظروفه حتى يَتَهَيَّأَ للتفكر فيما وراءَ الطبيعة بفكر متحرر من أغلال الماديَّة.

وهناكَ وجهُ آخر لمحدودية الإِنسان عن درك عميق المعارف الإِلهية وهو أنَّ أدواتَ الإِنسان للتعبير محدودةٌ بألفاظ وكلمات لم توضع إلاّ لبيان المعاني الحسية المحدودة فلأَجل ذلك لا مناص له عن التعبير عن الحقائق الكونية العُليا المُطْلَقَة عن الزمان والمكان بتلك الأَلفاظ الضَيِّقة، وإلى ذلك يشير بعض العرفاء بقولة:

أَلاَ إنّ ثَوْباً خِيْطَ مِنْ نَسْجِ تِسْعَة  وعشرينَ حَرْفاً عن معانيه قاصر

والشيخ الرئيس ابن سينا يُوصي بِأنْ لا تُطرحَ المسائلُ الالهيةُ العويصةُ إِلاّ على أَهلها ويقول إِشاراته في خاتمة الكتاب: "أَيُّها الأخ إنّي قد مَخَضْتُ في هذه الإِشارات عن زُبدة الحق وأَلقَمْتُكَ قُفَّي الحكمِ في لطائف، فصُنهُ عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة، والدَّرِبَة والعادة، وكان صَفاهُ مع الفاغَة، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم. فإِنْ وجدت من تثق بنقاء سريرته، وبتوقفه عما يتسرع إليه الوسواس، وبنظره إلى الحق بعين الرضا والصدق، فاعطه ما يسألُكَ منه مدرّجاً مُجَزَّءاً مُفَرَّقاً تَسْتَفْرِسُ مما تُسْلِفُه لما تَسْتَقْبِلُه، وعاهِدْهُ بالله وبأَيْمان لا مخارج لها ليجري في ما يأتيه مجراكَ، متأسّياً بكَ، إِنْ أَذعتَ هذا العلمَ أَو أَضعته فالله بيني وبينَك وكفى بالله وكيلا"8.

ولسنا هنا مدعين أَنَّ هذه المباحثَ مباحثُ عامةٌ يجوزُ لكل أَحد ارتيادها لدقة مسالكها، وكثرة مزالقها. بل خاصةٌ بجماعة أَوتوا مقدرة فكرية فائقة.

فلأَجل ذلك نطرح المعارف الإِلهية في ضوء العقل والوحي مستمدين من الله سبحانه أَنْ يرينا الحقَّ ويحفظنا عن ركوب الباطل، إِنَّهُ عزيز حكيم.


* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص90-103.


1- تجريد الإِعتقاد، باب إِثبات الصانع وصفاته، ص 178 - 185.
2- أنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص 76 و80 و81 و99.
3- تجريد الإِعتقاد، ص 172، طبقة مطبعة العرفان - صيدا.
4- راجع في الوقوف على مفتاح هذا الباب مفاهيم القرآن، الجزء الثالث، ص244 إلى ص259.
5- الميزان، ج 8، ص 153.
6- على أطلال المذهب المادي، ج 1، ص 16.
7- ماذا خسر العالم، ص 97.
8- الإِشارات، ج 3، ص 419.

2009-07-21