يتم التحميل...

العدل الإلهي

دروس في أصول العقيدة الإسلامية

إنّ للاعتقاد بعدالة الله تعالى مكانة خاصّة في ذهن الشيعة من زمن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، وأهمّية أكبر من سائر الأصول الاعتقادية ما عدا "التوحيد"، وكانوا يعتبرون أنّ أهمّية العدل مساوية للتوحيد، وأنّ هذين الأصلين هما من أكثر أركان الإسلام حساسية، والسرّ في ذلك هو أنّ أيّ خلل في الإيمان بالعدل يؤدي إلى خلل في التوحيد.

عدد الزوار: 143

أهمّية العدل

إنّ للاعتقاد بعدالة الله تعالى مكانة خاصّة في ذهن الشيعة من زمن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، وأهمّية أكبر من سائر الأصول الاعتقادية ما عدا "التوحيد"، وكانوا يعتبرون أنّ أهمّية العدل مساوية للتوحيد، وأنّ هذين الأصلين هما من أكثر أركان الإسلام حساسية، والسرّ في ذلك هو أنّ أيّ خلل في الإيمان بالعدل يؤدي إلى خلل في التوحيد.

معنى العدل

ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : "العدل يضع الأمور مواضعها"1 . فكلّ شيء في هذا الكون وكلّ ما أنزل الله تعالى من تشريع لهداية البشر وُضع في موضعه المناسب، ويشهد بذلك هذا النظام المتقن العجيب المسيطر على كلّ أرجاء الكون الذي أدهش العقول وحيّر الألباب، كما تشهد بذلك الشرائع الإلهية الكاملة التي لو طبّقها البشر لبلغت بهم قمّة الكمال والسعادة.

الدليل على العدل

بما أنّ الظلم بمعنى وضع الأمور في غير مواضعها من أبرز الأمور القبيحة، وبما أنّ فعل القبيح وصدوره عنه تعالى مستحيل، لأنّ القبائح وعلى رأسها الظلم لا يصدر إلا عن جاهل أو محتاج أو ضعيف، فإذا تنزّه موجود ما عن هذه الأسباب للظلم فلا يصدر عنه ظلم، فكيف بالله تعالى وهو العالم المطلق، فلا يُحتمل بحقّه جهل والغنيّ المطلق فلا يُتصوّر بحقّه حاجة وفقر والقويّ المطلق فلا يُتوهّم بحقّه ضعف وعجز، وعليه يستحيل صدور الظلم عنه تعالى لانتفاء أسبابه. وقد أكّد القرآن الكريم على أنّ الله تعالى منزّه عن الظلم، ونزّه ساحته عن الجور في الكثير من الآيات، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

بعض الإشكالات حول العدل الإلهي

من المسائل التي كانت محطّ الانتباه والتساؤل منذ القدم هي: أنّه إذا كان الله سبحانه وتعالى عادلاً ولا يظلم أحداً، فمن هو خالق المنغّصات والشرور والمشكلات في العالم؟

ولماذا خُلق الموت والجهل والضعف، والفقر والحرمان، والطوفان والسيل والزلزال، والظلم والتمييز، وعوامل الانحراف والضلالة؟ ولماذا يجب أن يوجد في العالم أشخاص ظلمة؟ ثمّ لماذا لا يمنع الله عزّ وجلّ هذه الأمور؟

أليس كلّ هذا من باب وضع الأمور في غير مواضعها؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الخلل؟

الجواب: للوصول إلى جواب شافٍ، لا بدّ لنا بداية وقبل أيّ شيء آخر، من معرفة ملاك تشخيص الخير والشرّ، والذي تُحلّ بمعرفته كثير من مسائل الشرور.والمشكلة تكمن في الواقع حيث يرى معظم الناس أنّ الملاك في كثير من الموارد هو تشخيص العقل السطحيّ الابتدائيّ، فإنّنا نرى الكثير من الأمور تظهر بالنظرة الابتدائية شرّاً، وبعد الانتباه والتحقيق بآثارها وخصوصيّاتها ندرك أنّها خير. فعندما يتعمّق الإنسان في نظرته للأمور يكتشف أنّ الكثير من الأمور التي كان يعتبرها شرّاً هي في الحقيقة خير ولمصلحة الكون، وحال النظرة السطحية حال من يرتدي نظّارة سوداء فسوف يرى العالم كلّه مظلماً، وهذا ناتج عن الجهل بالحكمة من وجودها، ولمزيد من البيان لا بدّ من الإشارة إلى جملة مسائل:

أوّلاً: قياس الشيء على المصلحة الشخصية: إنّ الكثير من الناس يحكمون على أمر أنّه خير أو شرّ بالنسبة إليهم، فبعض عندما نسأله عن الأمور التي يعتبرها شرّاً يقول: الأفاعي والعقارب والزلازل والبراكين. إنّ مثل هذا الجواب يمثل نوعاً من البساطة في التفكير، فالأمور التي تُعتبر مكملة لنظام الكون تصبح بالنظرة السطحية والقياس على المصلحة الشخصية معاكسة للنظام، فالأفاعي والعقارب تمتصّ السموم من الهواء، والبراكين وسيلة لتنفّس الأرض، فلو كان العالم دون براكين لكان نظامه ناقصاً.

ثانياً: النظرة الاستقلالية لبعض الأمور: أحياناً ينظر بعض إلى الأمور نظرة استقلالية وليس كجزء من مجموعة متكاملة، فبالنظرة الأوّلى تُعتبر شراً، ولكن في النظرة الثانية تُعتبر خيراً، فمثلاً لو نظرنا إلى جرّافة تهدم أبنية وتخرّب طرقات نظرة مستقلّة منفصلة عن الحكمة والهدف، سنجد فيها ضرراً وشرّاً لما تسبّبه من غبار وأصوات مزعجة لمن يحيط بها، أمّا لو نظرنا إليها بما أنّها مقدّمة لبناء مستشفى وبناء بنى تحتية للمدينة وما تحتاجه، فالنظرة حينئذ مختلفة والحكم عليها كذلك، وذلك للخير الكثير المترتّب عليها.

حقيقة السعادة والشقاء

لقد تحدّث القرآن الكريم في عدد من الآيات عن جملة من الموارد التي فيها الخلط في الحكم على المسائل بكونها خيراً أو شرّاً، وتكون الحكمة في خيريّتها أو شرّيتها ارتباطها بالسعادة والشقاء. قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ2. وقال تعالى: ﴿... فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا3. وقال تعالى: ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ 4.

وفي جميع هذه الآيات وصف المولى عزّ وجلّ مصاعب الحرب والشهادة والقتل الموصوف بكونه شرّاً عند العقل الابتدائي السطحي وصفه بكونه خيراً، وبيّن قانوناً كليّاً وهو أنّ ملاك شرّية الأشياء أو خيريّتها ليست موافقتها للرغبات والميول والسعادة المؤقّتة, وكذلك جاء عكس ما ذكرناه في القرآن أيضاًً، حيث يحكم العقل الابتدائي على شيء بأنّه خير وسعادة ويكون في الواقع شرّاً وشقاء، فالمال مثلاً يراه الإنسان خيراً لكن المولى عزّ وجلّ يعتبر المال عند سوء الاستفادة منه  شرّاً وسبباً لسوء العاقبة.

قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 5.

 وقال تعالى: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ 6.

وعليه فأحد الأمور التي يجب على العقل أنْ يأخذها بعين الاعتبار عند حكمه بخيريّة شيء أو شرّيته، هو كون السعادة والشقاء المترتبة عليه دائمين أو غير دائمين، فالسعادة المؤقّتة مع الشقاء الدائم ليست خيراً والشقاء المؤقّت المصحوب بالسعادة الدائمة ليس شرّاً.

ولهذا يقول الإمام علي عليه السلام : "ما خير بخير بعده النار، وما شرٌا بشرٍّ بعده الجنّة وكلّ نعيم دون الجنّة محقور، وكلّ بلاء دون النار عافية" 7.

 إذاً، فالخطوة الأوّلى هي أنْ لا يُنظر إلى الأمور نظرة سطحية، وعندها سيُحلّ الكثير من الإشكالات وسيجد المتأمّل أنّ كثيراً ممّا يعتقد أنّه شرٌّ ليس في الحقيقة والواقع كذلك. وتبقى جملة من الشرور والمصائب والابتلاءات هي كذلك واقعاً، إلا أنّه ينبغي الكلام حول سبب البلاء، وحول الفائدة والحكمة منه وهذا ما سيُبحث في الدرس التالي إنْ شاء الله تعالى.
 

* دروس في أصول العقيدة الإسلامية،سلسلة المعارف الاسلامية, جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، كانون الثاني2010  م، 1431هـ، ص 73 - 79


1- الشريف الرضيّ، نهج البلاغة (الخطب)، ج4، ص102.
2- سورة البقرة، الآية 216.
3- سورة النساء، الآية 19.
4- سورة آل عمران، الآية 157.
5- سورة آل عمران، الآية 180.
6- سورة التوبة، الآية 55.
7- الشريف الرضي، نهج البلاغة, ج4, ص92.

2010-06-25