يتم التحميل...

عصمة الأنبياء

دروس في أصول العقيدة الإسلامية

"العصمة" هي إحدى أهمّ خصائص أنبياء الله تعالى، بل هي إحدى اللوازم التي لا تنفكّ عن النبوّة، وسوف نتعرّض في هذا البحث إلى المطالب التالية: الأوّل: معنى العصمة.الثاني: ضرورة عصمة الأنبياء.الثالث: فلسفة العصمة.

عدد الزوار: 91

تمهيد

"العصمة" هي إحدى أهمّ خصائص أنبياء الله تعالى، بل هي إحدى اللوازم التي لا تنفكّ عن النبوّة، وسوف نتعرّض في هذا البحث إلى المطالب التالية:
الأوّل: معنى العصمة.
الثاني: ضرورة عصمة الأنبياء.
الثالث: فلسفة العصمة.

معنى العصمة

 لفظ "العصمة" من مادة "عَصَمَ"، وفي اللغة بمعنى "المنع" و"الوقاية". قال تعالى: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ... 1.

وفي الاصطلاح: قوّة باطنية تمنع الإنسان من الخطأ مع قدرته على فعله. وعندما يُطرح لفظ "العصمة" بالنسبة للأنبياء أو أوصيائهم في المباحث العقائدية، فالمقصود عدة أنواع من الوقاية يتمتّع بها الهداة المصطفَوْن من الله تعالى أهمّها نوعان هما:
أ- الوقاية من الخطأ في تلقّي الوحي وتبليغه.
ب- الوقاية من المعصية.

ونتحدّث هنا عن ضرورة هذين النوعين من العصمة.

ضرورة عصمة الأنبياء عليهم السلام

1- العصمة عن الخطأ في تلقّي الوحي وتبليغه
لا بدّ وبالضرورة أنْ يكون الأنبياء الإلهيون مصانين من الخطأ في تلقّي "الوحي" وإبلاغه للناس، كي لا يشكّ الناس أنّه من الممكن أنْ يكون ما نقله هذا النبيّ باسم "الوحي" وكلام الله تعالى خطأ واشتباهاً. دليل هذه الضرورة واضح، لأنّه لا تتحقّق فلسفة الوحي والتكامل في صورة عدم وجود الوقاية لأنّ الخطأ في تلقّي "الوحي" وتبليغه يستتبع قطعاً الانحراف عن سير التكامل، وعلى فرض عدم صدور خطأ عملياً، فعدم صيانة النبيّ عن الخطأ كافٍ في سلب ثقة الناس بالنبيّ والأخذ بكلامه، ولذلك يجب وبحكم العقل القطعيّ أن يصون الله تعالى رسله عن الخطأ في إبلاغ الوحي ويعصمهم.

2- العصمة عن المعصية
يجب أنْ يكون أنبياء الله مصونين عن المعصية إضافة إلى الوقاية من الخطأ في تلقّي الوحي وتبليغه، لأنّهم يعملون لأجل إنقاذ المجتمع من المفاسد والضياع والقبائح، وهدايته نحو فلسفة الخلق والتكامل. فإذا لم يكن لديهم وقاية من الغرق في الفساد فلن يستطيعوا أنْ يحقّقوا الهدف الإلهيّ من بعثتهم وهو هداية الناس، ويكون حالهم كمن لا يعرف السباحة وهو غير مصون من الغرق، ومع ذلك يريد إنقاذ الغرقى من البحر. قال تعالى: ﴿... أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى... 2.

فلسفة العصمة

ذكرنا أنّ العصمة هي قوّة باطنية، وقد فُسرّت على أنّها من سنخ العلم اليقينيّ بمفاسد المعصية، وهذا العلم هو من العلم الحضوريّ الذي لا يقبل الخطأ وهو ملازم للعمل بمقتضاه وهذا لا يعني أنّ كلّ علم بلوازم المعصية هو سبب حدوث الوقاية والعصمة، بل يجب أنْ يكون تجلّي الواقع من العلم قويّاً وشديداً، لدرجة أن لوازم وآثار المعصية تتجسّد وتظهر للإنسان، بحيث يرى بعين قلبه لوازم أعماله موجودة ومحقّقة، وفي هذه الحال يصير صدور المعصية عنه محالاً عادة. وهذه القوّة والعلم يعطيها الله تعالى ويفيضها على من يستحقّها من الناس، على أساس الأهلية والقابلية عندهم. وقد بيّن هذا القانون في الآية الكريمة، قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 3.

الصراط المستقيم هو الطريق الذي لا يتضمّن أيّ انحراف فكريّ أو عمليّ وتأويله أهل بيت العصمة، ففي الزيارة الجامعة

 "أنتم الصراط الأقوم" فالصراط المستقيم هو رسول الله وعليّ وسائر المعصومين عليهم السلام أيّ أنّه العصمة التي تجسّدت فيهم صلوات الله عليهم, فيصبح معنى الآية أنّه من يعتصم بالله يُعصَم, فالهداية إلى الصراط المستقيم متوقّفة على الاعتصام بالله تعالى وهذا الاعتصام ناتج عن شعور الإنسان بضعفه وفقره، لأنّ الإنسان المستغني لن يعتصم بالله تعالى بل سوف يدبر عن الله تعالى كما قال سبحانه: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى 4.

 فمن يرَ عجزه وفقره يتوجّهْ إلى مصدر القوّة والغني المطلَق ويعتصم به، فيهديه الله تعالى عندها إلى الصراط المستقيم، الذي ليس فيه أيّ اعوجاج أو انحراف فكري أو عملي، وهذا هو معنى العصمة.

 وهنا يأتي إشكال، وهو: إنّ لازم تفسير العصمة بالمعنى السابق هو أنْ تحصل العصمة بعد اعتصام الإنسان بالله تعالى، وقبل ذلك لا وجود لها، فكيف نقول بعصمة الأنبياء منذ ولادتهم؟

 والجواب هو: إنّ الله تعالى إذا علم المسير الذي سيسلكه شخص ما في مستقبل حياته، جعله مورد لطفه وعنايته منذ اليوم الأوّل لحياته، بمقدار حسن اختياره وسعيه الدائم في المستقبل، وصانه من الانزلاق. يقول الإمام الباقر عليه السلام مصرّحاً بهذه الحقيقة في رواية عنه: "إذا علم الله تعالى حسن نيّة من أحد اكتنفه بالعصمة" 5.

 "الاكتناف" الذي جاء في الحديث في مجال العصمة هو بمعنى "الإحاطة"، ويعني أنّه عندما يعلم الله تعالى حسن نية شخص ما، يحيطه من كلّ جانب بحصن العصمة وملكة التقوى حتّى لا يُبتلى بالخطأ والمعصية.

 ويؤيّد ما مرّ الجُمل الواردة في مطلع دعاء الندبة، إذ يبدأ الكلام في أوّل هذا الدعاء، عن عهد بين الله سبحانه وأحبائه، ثمّ يذكر بشكل صريح أنّ الله سبحانه عندما علم أنهم سيوفون بعهدهم، شمَلَهُم بعنايته وكرامته بنزول الملائكة والوحي عليهم. جاء في الدعاء:

 "... بعد أنْ شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء به، فقبلتهم وقرّبتهم وقدمت لهم الذكر العليّ والثناء الجليّ، وأهبطت عليهم ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذرائع إليك والوسيلة إلى رضوانك.."6.

 ونختم الدرس ببيان رائع ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في جواب له لزنديق من بني أميّة يوضِّح ما ذكرناه

 قال الزنديق: "فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع؟" قال عليه السلام: "الشريف المطيع والوضيع العاصي"، قال: "أليس فيهم فاضل ومفضول؟" قال عليه السلام: "إنّما يتفاضلون بالتقوى"، قال: "فتقول إنّ كلّ ولد آدم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلّا بالتقوى؟" قال عليه السلام: "نعم إنّي وجدت أصل الخلق التراب، والأب آدم والأم حوّاء خلقهم إله واحد وهم عبيده، إنّ الله عزّ وجلّ اختار من ولد آدم أناساً طهّر ميلادهم، وطيّب أبدانهم، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، أخرج منهم الأنبياء والرسل، فهم أزكى فروع آدم". "فعل ذلك لا لأمر استحقّوه من الله عزّ وجلّ ولكن علم الله منهم حين ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب، وسائر الناس سواء. ألا من اتّقى الله أكرمه ومن أطاعه أحبّه، ومن أحبّه لم يعذّبه بالنار..." 7.

*دروس في العقيدة الإسلامية،سلسلة المعارف الاسلامية, جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، كانون الثاني 2010م، 1431هـ، ص 121 - 125


1- هود: 43.
2- يونس: 35.
3- آل عمران: 101.
4- العلق، الآيتان 6ـ 7.
5- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج75، ص188.
6- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج99، ص104.
7- م.ن. ج10، ص 170.
8- الشريف الرضي، نهج البلاغة، ج2، ص 218.

2010-06-22