يتم التحميل...

البلاء

دروس في أصول العقيدة الإسلامية

إنّ البلاء وبغضّ النظر عن أسبابه ينظر إليه الناس بشكل عامّ على أنّه شرّ، فهل هو كذلك أم أنّ الحقيقة غير ذلك؟ إلا أنّ للبلاء فوائد وآثاراً وحكماً ينبغي الإشارة إليها.

عدد الزوار: 57

إنّ البلاء وبغضّ النظر عن أسبابه ينظر إليه الناس بشكل عامّ على أنّه شرّ، فهل هو كذلك أم أنّ الحقيقة غير ذلك؟ إلا أنّ للبلاء فوائد وآثاراً وحكماً ينبغي الإشارة إليها.

سبب البلاء

إنّ جميع المصائب الفردية والاجتماعية التي تصيب البشر:
إمّا أن تكون وليدة سوء الاستفادة من الحريّة وسوء الاختيار، فيبتلي نفسه: قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ 1.

قال تعالى: ﴿... وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ...2.

قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ3 .

ولكن عندما يستفيد الإنسان من حريّته استفادة سيّئة، فإنّ هذه الاستفادة السيّئة ستؤدّي على أساس القوانين الموجودة على متن عالم الخلق، وعلى أساس السنّة التي لا تقبل التغيير، إلى ظهور مصائب مختلفة للشخص العامل بل للمجتمع، وهي بنظر القرآن الكريم عقاب على عملهم. يجب الانتباه طبعاً إلى أنّ هذا العقاب ليس جعلياً واعتبارياً، بل هو عقاب تكوينيّ وواقعيّ له ارتباط علّيّ معلولّي بعمل المجرم السيّئ.

فقد كان هناك وعلى مدى التاريخ أقوام وأمم مختلفة، أصابها الزلزال والطوفان وأنواع البلاء المختلفة الأخرى، ولكنّ القرآن يرى أنّ جميع هذه المصائب ترتبط بالعمل السيّئ والظلم والجرائم والاستفادة السيّئة من الحريّة.

جاء في سورة العنكبوت بعد نقل قصّة قوم نوح وإبراهيم ولوط ووقوف قوم عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان في مقابل أنبياء الله سبحانه واستكبارهم عن قبول الحق: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ4.
 وجاء في سورة هود، بعد بيان كيفية هلاك عدد من الأمم المستكبرة في التاريخ: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ... 5.

وقال تعالى في سورة التوبة: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 6.
 يقول الإمام عليّ عليه السلام: "وأيم الله ما كان قوم قطّ في غضِّ نعمةٍ من عيشٍ فزالَ عنهم إلّا بذنوبٍ اجترحوها، لأنَّ الله ليس بظلّامٍ للعبيد"7 .

 وإمّا أنْ تكون نتيجة لعوامل طبيعية خاضعة لنظام العلّية والمعلولية العامّ، كما لو حصل انهيار أو خسف أو زلزال أو غير ذلك، فأعقب مصائب وابتلاءات لبعض من يحيط به، ويعيش بجواره... ومع أنّ أسبابه طبيعية لكنّ نتائجه لا تخلو من فوائد. وهكذا قال الإمام عليّ عليه السلام : "إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة وللأولياء كرامة" 8.  فالبلاء الذي ينزل حتّى على الظالم ليس شرّاً محضاً بل فيه تأديب، ومحاولة لإعادته إلى الصواب، وهذا ليس شرّاً وقد ورد عن الإمام العسكري عليه السلام "ما من بليّة إلا ولله فيها نعمة تحيط بها"9 .

الحكمة والفائدة من البلاء

نعم، نحن نعلم أنّ الإنسان موجود ذو بُعدين، أحدهما الجسم والآخر الروح، فلنرَ ما هو الموجب لتكامل الإنسان في هذين البعدين. ,نبدأ بالجسم، فما هي الشرائط التي يقوى فيها جسم الإنسان ويتكامل؟ وهل أنّه بقدر ما تكون وسائل الحياة والأكل والشرب مؤمّنة يكون الإنسان قويّاً، أم أنّ هناك شيئاً آخر؟

لا شكّ أنّ الأمر ليس كذلك، فليس تأمين وسائل الأكل والشرب واللذة هو عامل تقوية وتكامل الجسم، بل الأمر عكس ذلك تماماً، فالأشخاص الذين يعيشون في السرور والنعمة ولم يتحمّلوا أدنى المصاعب في حياتهم، هم من الناحية الجسمية أضعف من غيرهم، وقليلاً ما يستطيعون المقاومة أمام الأمراض، وعلى العكس، فالذين لديهم حياة بسيطة جداً في ظروف طبيعية صعبة في حضن الصحراء يمتلكون عادة أبداناً متناسقة قوية.

هذا القانون ليس جارياً في مورد الإنسان فقط بل يجري في مجال جميع الحيوانات أيضاً، فالحيوانات الأهلية التي تؤمّن لها ظروف أفضل للحياة، هي من ناحية القوّة والسلامة والمقاومة مقابل الأمراض لا يمكن قياسها بالحيوانات الوحشية، التي تعيش في ظروف غير مؤاتية وغير طبيعية. ليس الأمر كذلك بالنسبة للإنسان والحيوان فقط بل يجري هذا القانون في الأعشاب والنباتات، فالأشجار التي تعيش في سفوح الجبال وبين الصخور وفي ظروف صعبة ليست قابلة للقياس، من ناحية متانة خشبها وقدرة مقاومتها أمام العواصف الشديدة، مع الأشجار التي تنمو قرب السواقي وفي الأراضي الزراعية المجهّزة. وليس هذا إلّا لأنّ المصاعب الشدائد في نظام الخلقة تعطي القوّة وتخلق التكامل وتبدع الكمال، يقول الإمام عليّ عليه السلام في جواب من يخال أنّ الحياة في الظروف الصعبة وأنّ الغذاء البسيط موجب لضعف وخوار الجسم: "ألا وإنّ الشجرة البريّة أصلب عوداً والرواتع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً" 10. بناء عليه إنّ تكامل وقوّة جسم الإنسان لا تكون إلّا في ظلّ المشكلات والشدائد فهي رياضة لجسم الإنسان بل الحيوانات والنباتات أيضاً.

تكامل الروح

كما أنّ جسم الإنسان لا يقوى إلّا في ظلّ المشكلات والشدائد، ولا بدّ لأجل تكامله من المصاعب، فروح الإنسان ونفسه أيضاً لن تتكامل إلّا بالتغذية بالمشكلات.

ولا أظنّ أنّ هذا الأمر يحتاج إلى الاستدلال كثيراً، فتجربتنا تغنينا عن كلّ أنواع الاستدلال، ونستطيع بقليل من التأمّل أنْ ندرك هذا الواقع، بقياس طفل تحمّل الظروف القاسية من الناحية الروحية وانصهر فولاذ روحه في بوتقة الشدائد، مع طفل آخر لم يرَ أيّ نوع من الآلام.

 المشكلات ليست غذاءً لتكامل الجسم فقط، بل روح الإنسان أيضاً لا بدّ من أنْ تتغذّى بهذا الغذاء من أجل التكامل، فكم هو جميل بيان الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لهذا الأمر الواقعي في قوله: "إنّ الله ليغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي الوالدة ولدها باللبن" 11.

بناء على هذا نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ: مشكلات ومصائب المؤمن تكون بمقدار قيمته الواقعية.

قال رسول الإسلام صلى الله عليه و آله : "ما كرم عبد على الله إلّا ازداد عليه البلاء" 12.

وعن الإمام الصادق عليه السلام : "إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه" 13.

وبناء عليه فإنّ الابتلاء هو طريق التكامل، والارتقاء في مدارج الكمال لا يتحقّق بدون الابتلاء، وعليه فهو خير لما يؤدّي إليه من هدف سامٍ ومقام رفيع...

* دروس في العقيدة الإسلامية،سلسلة المعارف الاسلامية,جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، كانون التاني 2010م، 1431هـ ، ص 81- 87


1- سورة الشورى، الآية 30.
2- سورة النساء، الآية 79.
3- سورة الأعراف، الآية 96.
4- سورة العنكبوت، الآية 40.
5- سورة هود، الآيتان 100- 101.
6- سورة التوبة، الآية 70.
7- الشريف الرضي، نهج البلاغة (الخطب)، ج2، ص98.
8- العلامة المجلسي, بحار الأنوار، ج 64, ص235.
9- ابن شعبة الحرّاني, تحف العقول, ص489.
10-المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج 33، ص 475.
11- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة،ج1، ص 305.
12- م. ن.
13- الكليني، الشيخ محمّد بن يعقوب، الكافي، ج2 ص254.

2010-06-22