يتم التحميل...

تربية الطفل في ظل العدل والحرية

تربية الأبناء

من الأمور الفطرية عند الانسان، والتي يمكن أن تكون أساساً ثابتاً لتربية الطفل: غريزة التفوق، وحب الكمال. إن الرغبة في الترقي والتعالي تعتبر من فروع حب الذات المودع في فطرة كل انسان...

عدد الزوار: 29

قال الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ(آل عمران:159).

حب الكمال

من الأمور الفطرية عند الانسان، والتي يمكن أن تكون أساساً ثابتاً لتربية الطفل: غريزة التفوق، وحب الكمال. إن الرغبة في الترقي والتعالي تعتبر من فروع حب الذات المودع في فطرة كل انسان. وعلى المربي القدير أن يستغل هذه الثروة النفسية، ويقيم شطراً من الأساليب التربوية الصحيحة على هذا الأساس، فيسوق الطفل إلى طريق الترقي والتعالي.

لقد ورد بهذا الصدد حديث عن الامام الحسن عليه السلام: ..."أنه دعا بنيه وبني أخيه، فقال: إنكم صغار قوم، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم... فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته"1.

وفي هذا الحديث نجد أن الامام الحسن عليه السلام، لأجل أن يحث أبناءه وأبناء أخيه على اكتساب العلوم ويشجعهم على ذلك يستفيد من حب الذات والترقي عندهم وهو أمر فطري من دون أن يتوسل إلى الزجر والأساليب المخيفة، ويفهمهم أن تحصيل العلم في اليوم، سبيل الوصول إلى العزة والعظمة في الغد.

إن الأسلوب المستعمل في هذا الحديث يعد من أعظم الأساليب في مجال التعليم والتربية في العصر الحديث، فكل أسرة تستطيع أن تشجع أبناءها على تحصيل العلوم بهذا الأسلوب، وتدفعهم منذ البداية إلى التعالي والترقي فان الأطفال يسعون وراء العلم بدافع ذاتي فيما بعد، ولا يحتاجون إلى التهديد والتعذيب.

التكامل في ظل الحرية

والنكتة الجديرة بالملاحظة هي أن الارضاء الصحيح لغريزة حب التفوق والوصول إلى الكمال الحقيقي يمكن أن يتحقق في ظل الحرية والعوامل المساعدة فقط، وبدونها لا يكون نيل الكمال الواقعي ميسراً وبعبارة أوضح: إن الانسان يستطيع السعي وراء الكمال وإرضاء الميول الباطنية بالنسبة إلى بلوغ طريق التعالي في الصورة التي يكون طريق التقدم مفتوحاً أمامه، ولا تعيقه العوارض والموانع، فما أكثر الثروات النفسية التي ظلت عاطلة وفاقدة للأثر، لعدم حصولها على العوامل المساعدة، وما أكثر الأشخاص الذين يصطدمون في طريق إحياء استعداداتهم الفطرية بالموانع الطبيعية أو الشخصية أو الاجتماعية أو السياسية ويقفون عندها محرومين من السير في مدارج الكمال والرقي !.

إن زهرة صغيرة إذا لاقت عوامل مساعدة، وجواً طليقاً وغذاء كافياً تتفتح أكمامها ويفوح عطرها... وكذلك تكون الاستعدادات الداخلية عند الانسان فانها تزدهر وتنمو في الظروف المساعدة، وتعود عليه بالفوائد العديدة.

إن من أهم شروط التعالي والتكامل للأطفال والكبار هو كون الجو الذي يعيشون فيه حراً، ذلك أنه عندما يكفهر وجه المجتمع بالظلم والتجاوز ويسود الاستبداد والضغط الشديد... وحين يحل اليأس محل الأمل، والظلم محل العدل، والاستهتار والفوضى بدل القانون، والخوف بدل الهدوء... فمن المحتم أن ينقطع السبيل إلى التكامل في ذلك المجتمع.

والذين يعيشون في أمثال هذه المجتمعات لا يقدرون على إخراج استعداداتهم الخفية وذخائرهم المعنوية من مرحلة القوة إلى حيز الوجود والفعلية بالشكل المناسب. ولا ينالون الترقي والتكامل اللذين يصبون إليهما.

الأسرة هي مهد تربية الأطفال، والوطن الواسع هو البيئة التربوية للكبار. وإن ما لا شك فيه هو أن الشرط الأول للتربية الصحيحة وإحياء الاستعدادات المختلفة هو الجو المناسب والعوامل المساعدة. فلا تستطيع كل أسرة من تطبيق المنهج التربوي الذي خطه لنا الامام الحسن عليه بالنسبة إلى أولاده. ولا يقدر كل الآباء على أن يتحدثوا مع الأطفال بنفس الحديث الذي تحدث به الامام عليه السلام، ذلك الأسلوب من الحديث إنما يختص بالأسرة التي يقوم أساسها على الفضيلة والحرية.

ولأجل أن يتضح معنى سلامة جو الأسرة وفساده بصورة جيدة ولكي يتبين أهمية الحرية في مجال التربية والتعليم نخصص بحثنا في هذا المقال بهذا الموضوع.

المقارنة بين الأسرة والدولة

الدولة تشبه أسرة كبيرة واسعة، وان جميع أفراد تلك الدولة من رجال ونساء وأطفال، إنما هم أعضاء في تلك الأسرة الكبيرة... كما ان كل أسرة تشبه دولة صغيرة قليلة الأفراد. وان أعضاء الأسرة إنما هم أفراد تلك الدولة... والأبوان في هذه الدولة الصغيرة يسلكان دور الهيئة الحاكمة فيها.

قد يتسلط على زمام الحكم في الدولة مستبد، وتدار أموره حسب نظرياته اللامنطقية لمحض إرادته، ويساس الشعب بالخوف والاضطهاد، ويحمل على إطاعة الأنظمة والقوانين بالحديد والنار... وأحياناً يكون العكس حيث القوانين العادلة القائمة على أساس الحق والفضيلة والحرية والمحبة.

كذلك في الأسرة، فقد يحكمها أب حاد المزاج فاقد الايمان، وأم متهاونة سيئة الأخلاق... ويفرض كل منهما إرادته على أعضاء الأسرة عن طريق الشدة والخشونة التي لا تطاق. ويحملونهم على القيام بواجباتهم بالتهديد والتخويف... وقد يكون الأمر على العكس، ذلك إذا تعاضدت الفضيلة الأخلاقية والايمان للأب مع الحب والحنان العقلائيين للأم في إيجاد جو مقدس وسعيد للأسرة، مما يحتفظ لأعضاء الأسرة بطراوتهم وحيويتهم ويؤدي كل منهم واجبه برغبة نفسية ووازع ذاتي.

الاستبداد والتعنت

لقد اعتبر الإسلام قبل أربعة عشر قرناً، والعلماء المحققون في العصر الحاضر إدارة الدولة عن طريق الاستبداد والتعنت والركون إلى وسائل القمع والارهاب، أسلوباً فاشلاً تماماً وحكموا بأن الحياة في ظل نظام كهذا تصبح جحيماً لا يطاق.

وكذلك إدارة الأسرة عن طريق الظلم والتعدي وبواسطة الخشونة والشدة في الأخلاق تعتبر فاشلة وعاجزة عن أن تصبح أساساً للسعادة ومهداً لتربية الأطفال الشرفاء.

إن لأسلوب حكومة الهيئة الحاكمة دخلاً كبيراً في الشؤون الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية (وجميع الجهات المادية والمعنوية بعبارة موجزة) بصورة مباشرة... بحيث يمكن معرفة الأوضاع الظاهرية والمعنوية لأمة عن طريق سلوك الهيئة الحاكمة وفي هذا يقول الامام علي عليه السلام: "الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم"2.

يخضع أفراد كل دولة إلى عاملين أساسيين، ويقعون تحت تأثير قوتين منفصلتين: 1- محيط الأسرة وقدرة الآباء على تربية أبنائهم. 2- محيط الدولة وسلوك الهيئة الحاكمة. ولكن الامام أمير المؤمنين عليه السلام يرى أن تأثير الهيئة الحاكمة في بناء المجتمع أبلغ من تأثير الأسرة والقدرة التربوية عند الآباء.

الفرق بين الحرية والاستبداد

تختلف الدولة التي تدار على أساس العدل والقانون وفي ظل الحرية والمحبة عن الدولة التي يحكمها الاستبداد والتعنت ويسودها الارهاب والقمع اختلافاً كبيراً. وسنحاول في هذا المقال أن نتعرض لذكر بعض موارد الاختلاف ونتائجها بين هذين النوعين من الدول، ثم نقارن ذلك بكيفية إدارة الأسرة. ومن هذه المقارنة نستطيع أن نسلط الأضواء إلى حد بعيد على مقياس سلامة جو الأسرة أو فساده ومن المؤمل أن يدرك الآباء وهم أبناء الأسرة الكبيرة (الدولة) أسس هذه المقارنة كي يتفهموا مسؤوليتهم تجاه أبنائهم بصورة أوضح، ويقيموا إدارة الأسرة على أساس أقوى، ويراعوا واجباتهم الثقيلة في تربية أطفالهم سائرين على منهج الشرع الحنيف.

1- الحرية والهدوء النفسي:

يعد الهدوء النفسي والأمن من الخوف، الشرط الأول لسعادة الانسان. ففي المجتمع الذي لا يأمن أفراده على آرائهم وتكون حياتهم مقترنة بالاضطراب والقلق، لا مجال للسعادة الحقيقية والكمال الواقعي، فالعدالة الاجتماعية هي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تبعث الاطمئنان والهدوء إلى النفوس وتهب الأشخاص الأمن والسكينة.

البيئة الصحيحة للانسانية تكون في الدولة التي يسوسها القانون والعدالة، الدولة رسمت حدود اختصاصات المسؤولين والشعب فيها بموجب القوانين العادلة، في الدولة التي يكون المسؤولين أنفسهم مطيعين للقانون، ويسلكون سبيل العدالة في أحكامهم ولا يسمحون لأنفسهم بأقل انحراف أو تجاوز على حقوق الآخرين... هناك يحس جميع الأفراد في داخل أنفسهم بالهدوء والأمان، فلا وحشة ولا قلق، ولا ظلم يصيب المواطنين من المسؤولين والمسيطرين على زمام الحكم. في دولة كهذه يكون طريق التكامل والتعالي مفتوحاً أمام جميع الناس، وباستطاعة كل فرد أن يعمل لسعادته بارتياح واطمئنان، ويستفيد من نتائجها المهمة.

أما الدولة التي يسيطر عليها الاستبداد والتعنت، ولا يحترم فيها القانون والعدالة أصلاً ويفقد الحق والانصاف معناهما فيها... فلا حرية هناك. بل يسود سماء الأمة قلق واضطراب ويفقد الأفراد هدوءهم، يقضون ليلهم ونهارهم في الخوف أو يكونون عبيداً لا إرادة لهم قبال أسيادهم، وفي كل لحظة يمكن أن يسيء الحاكم إلى شخص أو أشخاص من أفراده ويحمل كالحيوان المفترس عليهم ويهجم على كرامتهم ووجودهم بلا قيد أو شرط... فينهي بذلك حياتهم.

الحياة في دولة كهذه لا تعني إلا الشقاء والحرمان، وهناك يستحيل على الأفراد الوصول إلى الكمال اللائق بهم كبشر، وينغلق الطريق أمامهم نحو السعادة... في مثل هذه الدولة يحترم الأفراد حاكميهم بدافع من الخوف والأمن من الضرر، ويطيعون أوامرهم صوناً لدمائهم... ولكنهم في الواقع يصبون سيل اللعنات عليهم.

الانقياد بسبب الخوف

إن نظرة الاسلام إلى هؤلاء الحكام الظالمين... إلى هؤلاء الثلة الحقيرة التي تحكم الناس بقوة الحديد والنار... نظرة ملؤها الريبة والاحتقار ويعرفهم بأنهم شرالناس في مقام الحكم الإلهي.

عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "شر الناس يوم القيامة: الذين يكرمون إتقاء شرهم"3.

كما ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث آخر: "ويل لمن تزكيه الناس مخافة شره، ويل لمن أطيع مخافة جوره، ويل لمن أكرم مخافة شره"4.

وفي حديث ثالث: "الا أن شرار أمتي: الذين يكرمون مخافة شرهم، الا ومن أكرمه الناس اتقاء شره فليس مني"5.

الانقياد في ظل الحرية

في ظل الحرية والعدالة، تكون إطاعة الناس للقوانين والأنظمة ناشئة من الشعور بالواجب، والميل للحصول على السعادة، اما في الحكومة الاستبدادية والتي تساس بالعنف والقسوة، فإن منشأ إطاعة الناس للأنظمة هو غريزة حفظ الذات، لأنهم يعلمون أنهم عند ارتكابهم أبسط مخالفة فسيكون عقابهم عليها شديداً جدا:

"يكون أفراد الشعب عبيداً للحاكم في الحكومات الاستبدادية، ولا يكون لأحد امتياز على الآخرين، إن الحاكم المستبد لا يلتزم بأية قاعدة أو قانون فارادته ومشتهياته فوق القانون والأنظمة، إنه يحاول أن يمحو الآخرين من صفحة الوجود"6.

"تتطلب طبيعة الحكومة في النظام الاستبدادي نوعاً من الاطاعة اللامحدودة. ولا يوجد في هذه الحكومات، تغييرا، أو إمهالا، أو مفاوضات، أو انتقادات".

"في هذه الحكومات يعد الانسان مخلوقاً خاضعاً لارادة مخلوق آخر. ويجب أن لا يحتمل إظهار القلق أو الاضطراب من وقوع بعض الحوادث الفجائية".

"يعيش الانسان في ظل الحكومة الاستبدادية كالحيوانات لا نصيب له غير الغريزة الطبيعية"7.

"تستند الحكومة الاستبدادية على قاعدة الخوف، وفي الأمم الجبانة والجاهلة والمندحرة لا ضرورة للقوانين الكثيرة فكل شيء هناك يقوم على فكر شخصين أو ثلاثة. وعليه فلا حاجة للأفكار الجديدة، ذلك أنكم عندما تقومون بتربية حيوان تلاحظون فقط أن لا يأخذ الحيوان منكم أحد، وأن يعرف صاحبه ولا يغير سلوكه".

"عندما كان شارل الثاني عشر في مدينة (بندر) لا حظ أن خلافاً نشب تجاهه في مجلس الشيوخ السويدي، فكتب إلى المجلس: إنه سيرسل إحدى جزمتيه لتحكم عليهم"8.

إن أوطأ الأمم وأشقى الناس، هم المحرومون من نعمة العدالة والقانون والحرية والفضيلة... إن الحياة في جو الاضطهاد والاضطراب والتعنت والقسوة، أوطأ وأحط من حياة حيوان بكثير، بلا شك...

العدالة في الأسرة

يحكم الآباء أفراد أسرهم بأساليب مختلفة، فبعض الآباء العقلاء والمؤمنين يطيعون الأوامر الإلهية والأسس العقلية يديرون شؤون الأسرة حسب العدالة والانصاف والاحترام للحق والفضيلة، فأعضاء هذه الأسرة يعيشون في ظل الأمن والهدوء الفكري، وكل منهم يؤدي واجباته بكل سرور وارتياح أملاً في الحصول على السعادة في غده، وتشع أشعة الحنان والحب في جميع زوايا ذلك البيت وتلك الأسرة.

وعلى العكس من ذلك:
فهناك من الآباء الجاهلين والمنحرفين من لا يتقيد بالواجبات الدينية ولا يطيع الأنظمة العلمية والعقلية، ولأجل أن يكون الحاكم المطلق في جو الأسرة وتنفذ أوامره بلا استفسار أو إنتقاد، يتوسل بالاستبداد والتعنت ويثبت قدرته ويفرض إرادته بالفحش والعربدة والكلمات الركيكة، ويعامل زوجته وأطفاله معاملة أشد من معاملة الحيوانات فيذيقهم الأمرين من السوط والعصا والتعذيب والضرب والتجويع، محولاً جو الأسرة إلى سجن رهيب لا يطاق !.

... حين ينعكس صوته الغليظ في محيط البيت يفر الأطفال الأبرياء بوجوه شاحبة إلى هنا وهناك، وترتعد فرائصهم كنعاج هجم عليها الذئب ثم يلجأون إلى الفراش بأرواح ملؤها العقد والتأزمات، وحين يستيقظون في الصباح ويتذكرون أباهم المجنون وتصرفاته البذيئة يسيطر عليهم الجزع والانكماش حتى كأنهم لا حراك بهم.

نتيجة الاستبداد

في أسرة كهذه تنعدم السعادة، ولا يوجد الهدوء الفكري واطمئنان الخاطر، حيث يسيطر الخوف والقلق على جميع أنحاء البيت، ويرى أعضاء الأسرة أنفسهم معرضين في كل لحظة لخطر التعذيب والقسوة... في هذه الأسر لا تقف آثار الاستبداد السيئة عند حد إيقاف الرشد المعنوي للأطفال فقط، بل تمنع أبدانهم عن الرشد الطبيعي من جراء الاضطراب والقسوة هؤلاء الآباء يجرون على أنفسهم وعوائلهم والمجتمع نتائج وخيمة لا تنجبر... هؤلاء مسؤولون طبق الموازين الاسلامية أمام كل ضربة أو كلمة بذيئة صادرة منهم تجاه عوائلهم... وإذا كانت طاعة الزوجة والأولاد معلولة للخوف من الشدة والقسوة والظلم، فإن هؤلاء الآباء مشمولون للأحاديث السابقة التي ترى أن من يطاع خشية شره لهو شر الناس.

على هؤلاء الآباء أن يحكموا وجدانهم، وأن يكرهوا لغيرهم ما يكرهونه لأنفسهم، فكما أنهم أنفسهم ينفرون من الحياة في ظل الاستبداد والتعنت، والظلم والقسوة،عليهم أن لا يرضوا ذلك لعوائلهم، ولا يعاملوا أزواجهم وأطفالهم معاملة الأسرى المحكوم عليهم بالاعدام !.

2- الخوف من العقاب:

لا شك في ضرورة الأنظمة والقوانين لكل دولة لايجاد النظام والضبط والمنع من الفوضى والمخالفات... ولا بد من معاقبة الخارجين على تلك الأنظمة لضمان حسن تنفيذها، فالخوف من العقاب هو الذي يحث الناس على الاطاعة. والنكتة الجديرة بالملاحظة أنه لا حساب ولا مقياس للعقاب في الحكومة الاستبدادية، فمن الممكن أن يؤدي استياء بسيط للحاكم إلى إعدام مئات الناس الأبرياء. هناك ليس العقاب على أساس الاجرام أو الاحكام القضائية، بل الموضوع يقوم على طبق هوى النفس والميل الشخصي للحاكم. أما في حكومة العدالة والقانون، حيث تحدد صلاحيات الحكام وأبناء الشعب حسب الأنظمة العادلة، فلا مجال للأهواء والميول الشخصية للحكام في الأحكام الصادرة... هناك لا يخاف أحد من شخص معين، غاية ما هناك أن الشخص الذي يرتكب جرماً يعاقب على أسس قضائية صحيحة وعادلة متناسبة مع جريمته.

وبعبارة أخرى:
إن منشأ الخوف عند الناس في الحكومة الاستبدادية هو الظلم والتعسف والاضطهاد، أما في حكومة العدالة والقانون فإن منشأ الخوف هو الجرم الذي ارتكبه الانسان واستحق العقاب عليه.

الاسلام والأمن

إن أحسن وأرقى الحكومات العالمية المعاصرة هي الحكومة التي تسيطر القوانين العادلة على جميع شؤونها، ويعيش جميع أفراد تلك الدولة من أي طبقة أو منزلة كانوا آمنين في ظل العدالة والقانون بأرواح ملؤها الرفاه والسعادة والهدوء.

لقد عمل قائد الاسلام العظيم، قبل أربعة عشر قرناً، على إرساء قواعد النظام الاجتماعي في حكومته على هذا الأساس، فقد منح العدل والأمن الروحي والهدوء النفسي لجميع الناس، وزال الخوف والاضطراب اللذين كانا يحكمان العصر الجاهلي من جراء استبداد الحكام واضطهاداتهم فاصبح الفرد المسلم يخاف من ذنبه فقط. ولأجل أن يتجل هذا الدور الذي يسلكه الاسلام في ضمان الأمن والهدوء للمجتمع نبسط بعض الشيء مسألة الخوف.

هناك حافزان للخوف في تطبيق الواجبات الدينية من قبل كل فرد مسلم: (الأول): الخوف من الله والجزاء الآخروي. (والآخر) الخوف من الحكومة والعقاب الدنيوي... وفي كلا الموردين يكون منشأ الخوف هو الذنب الذي ارتكبه الانسان نفسه.

أ- الخوف من الله

على كل فرد مسلم أن يطمئن إلى رحمة الله الواسعة، خائفاً من عقابه.

ولكن الخوف من الخالق الرحيم والعادل لا يكون كالخوف من حاكم مستبد ظالم. إن الحاكم المستبد يستند في قدرته إلى التعسف وأما في الحريم الآلهي المقدس فلا يتصور الظلم والجور.إن الله يعاقب المذنب على أساس الحق والعدل. ولهذا فقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن خوف الناس بنسبته إلى المقام الالهي، فقال تعالى ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان(الرحمن:46) وقال أيض: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(النازعات:40). إن (مقام الله) هو علمه بإجرام المجرمين، وقدرته على مجازاة المذنب وحماية المظلوم بالانتقام له من الظالم... وبصورة موجزة فإن (مقام الله) هو إقامة الحق والعدل، فالذي يخاف من مقام الله لا يحوم حول الذنب.

"عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عز وجل: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(الرحمن:46) قال: من علم أن الله يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم ما يعلمه من خير وشر، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال، فذلك الذي خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى"9.

إن مقام المدعي العام في الحكومات القانونية هو مقام عقاب الجاني ومجازاة القاتل... المدعي العام هو الذي يجر المجرم إلى المحكمة ويلزمه بالادانة. إن مقام المدعي العام هو إقامة العدالة والقانون، فمن يهرق دماً باطلاً يخاف من مقام الادعاء العام ولكن هذا الخوف ناشىء من جنايته هو...

"إن علياً عليه السلام قال لرجل وهو يوصيه: خذ مني خمس: لا يرجون أحدكم إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه..."10.

ب- الخوف من الحكومة

الخوف من الحكومة في الاسلام يعني: الخوف من العقاب القانوني فقط. إن فرداً مسلماً لا يخاف من رئيس الدولة أو الهيئة الحاكمة أصلاً، ولا ينبغي أن يخاف منه، ذلك أنه ليس للحاكم الحق في اضطهاد أحد أو أخذه بالباطل، فالهيئة الحاكمة في الاسلام لا تمتاز على باقي أفراد الأمة في شيء غير ثقل عبء المسؤولية أمام الله تعالى. فعلى المسؤولين مضافاً إلى تطبيق الحق والعدالة أن يعاملوا الناس بالعطف والمحبة، واحترام الأسس الأخلاقية. وفي هذا يكتب الامام علي عليه السلام إلى مالك الأشتر في العهد الشهير:

"فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس: الإنصاف منها فيما أحبت وكرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم"11.

إن الحكام المستبدين والمتزمتين هم عبيد أهوائهم ورغباتهم اللامشروعة أما الحكام العدول فهم مخالفون لأهوائهم ويتبعون الانصاف والفضيلة ويحبون الخير والصلاح للرعية.

النبي العطوف

كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم جاداً تماماً في مقام تنفيذ القوانين وعقاب المجرمين ولهذا فقد كان الناس يخافون من ارتكاب الجرائم. ولكنه في المعاشرات الاجتماعية كان أباً عطوفاً، لا يخافه أحد وإذا صادف أن أحداً كانت تأخذه الهيبة من محادثته، فإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يحطم ذلك الشعور في نفس المخاطب."ابن مسعود، قال: أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رجل يكلمه فأرعد. فقال: هون عليك فلست بملك"12.

لقد كانت صلات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع المسلمين لينة هادئة إلى درجة أن بعض الأشخاص كانوا يتمازحون معه بالمزاح الذي يصعب قبوله من قبل الأفراد العاديين."نهى عليه السلام أبا هريرة عن مزاح العرب فسرق نعل النبي ورهنه بالتمر، وجلس بحذائه يأكل... فقال عليه السلام يا أبا هريرة ما تأكل ؟ فقال: نعل رسول الله13.

أي حاكم يجرأ على ممازحته فرد عادي، فيرهن حذاءه عند بقال لقاء شيء من التمر ؟! لقد عد الله هذه الفضيلة الخلقية للرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم من مراتب رحمته وعنايته: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ...(آل عمران:159).

لقد كان شديد التأكيد على صفاء قلبه بالنسبة إلى أصحابه إلى درجة أنه قال: "لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً. فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"14.

الحكومة الحرة للامام علي عليه السلام

أما الامام علي بن أبي طالب عليه السلام فهو أعظم تلميذ من تلامذة الاسلام، تعلم درس الحرية والانسانية من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ولذلك فقد كانت علاقاته مع الناس متصفة بالعطف والرحمة، أما في مقام إقامة العدالة فكان صريحاً وجدياً. ومن هنا وصفه عدي بن حاتم في مجلس معاوية ضمن أحاديثه عنه عليه السلام فقال: "وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويدنينا إذا أتيناه، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا، لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم... يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين... لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله"15.

خوف الطفل من الذنب

في الدولة الصغيرة للأسرة يكون خوف أفراد الأسرة على قسمين: فبعضهم يخاف من الذنب، والبعض الآخر يخاف من الأب. عندما يكون الخوف من الذنب موجوداً فإن المخاوف الباطلة الواهية تنعدم، وهنا يكون المهد الصحيح للتربية. وتتفتح أزهار الشعور بالمسؤولية في نفوس الأطفال واحدة بعد الأخرى، ويتعود الصغار على الاستقامة منذ البداية. إن أعضاء هذه الأسرة يطمئنون إلى أنهم إذا لم يتجاوزوا على حقوق الآخرين ولم يتلوثوا بالذنب والانحراف، فلن ينالهم شيء بل يكونون مقربين عند الأبوين تماماً.

في مثل هذه الظروف يكون الأب في محيط الأسرة حائزاً على الشخصية والعطف معاً، والأطفال يخافون من مؤاخذته الصحيحة والمنصفة فلا يمارسون الذنوب ولا ينحرفون.

"ويجب على الذي يقوم بإجراء العقوبة أن يعتقد ببعض القواعد ويستمع إلى نداء الوجدان، ولا يحكم بدافع التعصب. وعليه في نفس الوقت أن يكون حميداً في سلوكه وعطوفاً، لا بأن يظهر ضعفه وحقارته، بل يكون ذا شفقة عامة وإنسانية تظهر في حدود القوانين المحدودة والقابلة للاحترام الاجتماعي والدولي"16.

"إن المربي سيتظاهر بأنه سوف لا يعاقب، بل أنه يجري قوانين العدالة كموظف مختص مجبر على ذلك، وسيفهم الطفل هذه النكتة بصورة حسنة. ولما كان التوبيخ ذا جانب عاطفي تماماً هنا فيجب أن لا يخرج عن حدود الانسانية، وبهذا تكون عقوبة كهذه غير انحيازية"17.

خوف الطفل من الأب

عندما يكون الخوف من الأب، الأب السيء الخلق والقاسي، الأب الذي يتحجج ويتعنت، الأب الذي يفحش في القول ويضرب أبناءه بلا سبب فيجازي أبسط الزلات بأكبر العقوبات، الأب الذي يثأر لأتعابه الخارجية فينتقم من أطفاله الأبرياء، والذي يحل عقدة الفشل التجاري أو الإداري أو الاجتماعي عنده بإيذائهم... ففي الأسرة التي يحكمها مثل هذا الأب لا تحترم الأمانة والاستقامة، ولا تعرف الفضيلة والأخلاق، إنما المهم في نظر الأطفال إرضاء أبيهم المستبد، واتقاء شره !.

إن العصر الحديث يخطّئ من الناحية العلمية والتربوية، طريقة ضرب الأطفال وإيذائهم بغية التأديب، ويكاد يمنع الضرب في جميع الدول الحية فيحذر الآباء والأمهات في البيت، والمعلمون في المدرسة، من ضرب الأطفال بصورة أكيدة.

قد يتصور البعض أن هذه النظرية مبتكرة في عصرنا الحاضر، وأن الانتباه إلى أهمية هذا الموضوع حصل في الحديث فقط. بينما نرى من الضروري أن نرفع هذا الوهم عن أذهان أولئك ونقول بصراحة: إن الاسلام سبقهم إلى ذلك... فعلاوة على الروايات في المنع من ضرب الأطفال، أفتى الفقهاء المسلمون في القرون الماضية بحرمة ذلك في رسائلهم العملية التي تعد المناهج اليومية لعمل المسلمين.

"قال بعضهم: شكوت إلى أبي الحسن عليه السلام إبناً لي، فقال: لا تضربه واهجره... ولا تطل"18.

ففي هذا الحديث نجد أن الإمام يمنع من ضرب الطفل بصراحة، مستفيداً من العقوبة العاطفية بدلاً من العقوبة البدنية. فالأب هو الملجأ الوحيد للطفل ومعقد آماله، وإن هجره للولد أكبر عوقبة روحية ومعنوية إنه عليه السلام يطلب من الوالد أن يهجر الولد ولكنه سرعان ما يوصيه بعدم طول مدة الهجر، ذلك أنه إذا كان لهجر الوالد أثر عميق في روح الطفل فإن طول مدته يبعث على تحطيم روحيته وإذا كان أثر هذا الهجر ضعيفاً فإن شخصية الوالد ستصغر في نظر الطفل لطول مدة الهجر وسوف لا يكون لتألم الوالد أثر أصلا.

"إن للعقوبات التي ترجع فيها الوسائل العاطفية والأخلاقية على الوسائل المادية تأثيراً كبيراً، ففي مثل هذه العقوبات بدلاً من أن يحرم الطفل من الماديات يجب السعي للتأثير في قلبه ونفسه ووجدانه وعزته وغروره، فإن لم ترتبط المحرومات المادية مع مشاعره وعواطفه فانها تفقد طابع العقوبة"19.

وفي هذا الصدد يقول الامام علي عليه السلام: "إن العاقل يتعظ بالأدب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب"20.

دية اللطم والعقوبة البدنية

وهنا لا بأس بذكر الفتوى المتعلقة بالبحث من الرسالة العلمية (توضيح المسائل) لآية الله الفقيد السيد حسن الطباطبائي البروجردي التي هي في متناول يد الجميع:

"مسائل 2816: إذا لطم على وجه أحد باليد أو بشيء آخر فاحمر وجهه، فديته مثقال ونصف من الذهب (كل مثقال 18 حبة) وإن اخضر لونه فثلاثة مثاقيل وإن اسود لونه فستة مثاقيل، ولئن تغير لون سائر البدن على الضرب، فاحمر أو اخضر أو اسود، فديته نصف ما ذكر".

"مسألة 2820: إذا ارتكب الصبي إحدى المعاصي الكبيرة جاز للولي أو المعلم ضربه بمقدار التأديب ما لم يصل حد الدية".

"مسألة 2821: إذا ضرب صبياً إلى حد وجوب الدية كانت الدية للصبي، فلو مات الصبي فعلى الضارب أن يدفع ديته إلى ورثته ولو ضرب الوالد ولده حتى مات كانت ديته لسائر الورثة، وليس له شيء من الدية".

يستفاد من هذه الأحكام الدينية الثلاثة أنه لا يجوز ضرب الطفل فإذا ضرب أحد الوالدين أو المعلم طفلاً على وجهه وسبب تغير لونه فعليه أن يدفع ديته، وعند ارتكاب الطفل إحدى المعاصي يجوز ضربه بحيث لا يصل حد وجوب الدية.

إن الأباء والأمهات الذين يضربون أبناءهم إلى حد وجوب الدية مدينون إليهم بقيمة الدية. فاما عليهم أن يرضوهم أو يحصلوا على العفو منهم وكذلك حكم المعلمين الذين يضربون تلامذتهم.

جزاء الوالد السيء الخلق

على الآباء المسلمين الذين لا يفحشون في المنزل، ولا يصدر منهم أذىً، ولا يضربون أزواجهم وأطفالهم... ولكنهم يسيئون الخلق معهم أن يدققوا في هذا الحديث:

كان (سعد بن معاذ) أحد صحابة الرسول الأعظم المحترمين. وعند وفاته مشى النبي صلّى اللع عليه وآله وسلّم بنفسه في جنازته، حتى أنه حملها على كتفه عدة مرات، وحفر القبر بنفسه وشق له اللحد ودفنه فيه... فلما وجدت أم سعد ذلك غبطته على تلك المنزلة فقالت:

يا سعد هنيئاً لك الجنة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يا أم سعد، مه، لا تجزمي على ربك، فإن سعداً قد أصابته ضمة21...

وعندما سئل عن سبب ذلك، قال: إنه كان في خلقه مع أهله سوء.

3- الدوام في ظل العدل:

إن بقاء عمارة مؤسسة من مئات الأطنان من الحديد والجص والصخر مرتبط بالتوازن والتعادل الكائن بين ركائزها، وعدم خروج أعمدتها وجدرانها عن حدود الهندسة التي أنشئت على أساسها.

فإذا كانت العمارة منشأة منذ البداية على أساس غير موزون وبلا مقياس صحيح، أو أن العوامل المختلفة أدت إلى اختلال توازنها فلا تكون قابلة للبقاء والاستمرار، وسيؤول أمرها إلى التهدم والخراب... فما أكثر العمارات التي لا زالت تحتفظ بمتانتها وقوتها بالرغم من مرور السنين الطوال على إنشائها، وذلك لمحافظتها على التعادل الهندسي المنشأة على أساسه، ولكن ما أسرع أن تتهدم العمارة عندما لا تؤسس على التوازن الصحيح او تفقد توازنها فيما بعد.

إن كل دولة تشبه عمارة ضخمة، متكونة من ملايين الأفراد ويجب أن تقوم على أساس التوازن والتعادل.

فالدول التي تدار بالقانون والعدالة، وتكون الحدود كلها مرسومة بين الطبقات المختلفة على أساس الحق والانصاف، يعيش أفرادها في هدوء فكري واطمئنان تام، فلا يستغل الحكام سلطانهم لاضطهاد الناس... هذه الدول تستمر ثابتة وقوية محتفظة بحياتها الوطنية على الرغم من انصرام القرون وفي هذا يقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: "العدل جنة واقية، وجنة باقية"22.

الحكام الجائرون

أما في الحكومة الجائرة التي يحرم فيها الأفراد من نعمة القانون والعدالة والحق والفضيلة... فالحكام يفرضون إرادتهم بإراقة الدماء والتجاوز على حقوق الآخرين، واضطهاد الشعب وإيذائهم. ولذلك فالمواطنون يسكتون خوفاً، ولا ينطقون بحديث عن السلطة الحاكمة ولكنهم لا يملكون هدوءاً روحياً، فالقلوب تمتلىء بالغيظ والحقد، وينتظرون الفرصة المناسبة التي يثورون فيها وينتقمون من حكامهم.

والحكام أنفسهم قلقون دائماً، خائفون على مناصبهم.

في مثل هذه الدولة يتمادى الحكام في الظلم والقسوة، وكل ظلم يصدر منهم يولد إثارة جديدة في الرأي العام. فإن اعترض المواطنون على حكامهم لقيامهم باعتداء، جنحوا لاسكاتهم إلى اعتداء جديد، وهكذا كلما يتقدمون خطوة يضطهدون أكثر، حفظاً على مقامهم وشوكتهم وكلما يزداد الاضطهاد تشتد العداوة والفجوة بينهم وبين أبناء الشعب وتتراكم الأحقاد إلى أن يحين اليوم الذي تنفجر العقد وتلتهب نتائجها الوخيمة عن نار لا تبقي الظالمين ولا تذر. وفي ذلك يقول الامام الصادق عليه السلام"من زرع العداوة حصد ما بذر"23.

بنو أمية واعتداءاتهم

ان تأريخ بني أمية وجرائمهم أصدق شاهد على ما ذكر. فقد قام يزيد لتثبيت قدرته وتحكيم أساس حكومته بقتل الامام الحسين عليه السلام، وإحداث فاجعة كربلاء بذلك الوضع المزري الذي بعث على الاشمئزاز في جميع أرجاء الدولة الاسلامية، وقام الناس في المدينة طالبين عزل (يزيد) عن الخلافة بكل صراحة. فكان رد الفعل منه أن أقدم على جريمة جديدة فولغ في دماء أهل المدينة وأعراضهم بواسطة الجيش الجرار الذي بعث به من الشام ففعلوا ما فعلوا مما يندى له جبين الانسانية.

يذكر لنا المؤرخون أن أحد الجنود الشاميين دخل إلى بيت امرأة قريبة عهد بوضع حملها حيث كانت ترقد في فراش الاستراحة، فطلب منها مالاً، فأقسمت المرأة التي كانت قد فقدت كل وجودها في غارة أهل الشام على المدينة بأنها لا تملك شيئاً، ثم خاطبت وليدها قائلة والله لو كنت أملك من حطام الدنيا شيئاً لافتديت به عنك، وحقنت به دمك، وهنا وجم الجندي القاسي البعيد عن الايمان إذ يئس من الحصول على المال ثم اختطف الطفل من أمه وهي ترضعه، ورمى به إلى الجدار بشدة حيث تحطم مخه24...

وانقشعت الغيوم عن انفجار المسلمين ضد بني أمية وحكمهم، وأثمرت بذور الحقد والعداوة التي زرعوها في قلوب الناس، فثاروا ينتقمون منهم. وحينئذ لم يرحموا امرأة أو رجلاً، شيخاً أو شاباً، حتى أنهم بعد قتلهم لهم كانوا لا يدفنون جثث القتلى بل يتركونها في الخرائب طعمة للكلاب السائبة والطيور الجارحة.

بقاء الأسرة في ظل العدل

عندما يحكم الآباء والأمهات في الدولة الصغيرة للأسرة بقوة الحق والفضيلة، وعلى أساس العقل والعدالة فإن تلك الأسرة تبقى قوية ونشيطة على مدى الأجيال. ولا تستطيع القرون المتمادية أن تحطم تلك العائلة وتهدم بناءها، ذلك أن الفضائل الخلقية والعدل والانصاف تضمن دوام تلك الأسرة.

وعلى العكس من ذلك فان الآباء الذين يديرون الأسرة بالضغط والاضطهاد والتهديد، وبدلاً من قيامهم بالتربية الصحيحة والعقلائية يعذبونهم، فانهم يبذرون بذور العداوة في قلوبهم، ويسقون أشجار البغض والحقد بأعمالهم الفاسدة، فيهيئون بذلك وسائل الشقاء لأنفسهم ولأطفالهم فعندما يتحطم سد التهديد في يوم ما بموت الأب أو سفره أو عجزه، تنفجر العقدة النفسية للأطفال وتؤدي إلى سيل من الانتقام والثأر الذي يمكن أن يتضمن نتائج وخيمة.

"هناك آباء وأمهات مستبدون لا يتمالكون على أنفسهم من الاساءة والضرب. وفي هذه الصورة لا تكون بعض العقوبات البدنية مضرة بمقدار ضرر بعض التشديدات بالنسبة إلى القلب. إن الحبس في غرفة، أو النظر إلى الجدار من دون أن يجرأ على القيام بحركة صغيرة تحطم القابلية على التحمل عند الطفل".

"هناك بعض الأولياء يصبون طعام الطفل في إناء يشبه إناء طعام الحيوانات: وحتى في بعض الأحيان يقوم هذا الأب أو الأم غير العاديين بتقديم الطعام إلى الطفل في وعاء القاذورات، أو يبصق الأب في وجه الطفل او يعريه في الشارع وأمثال ذلك مشاهدة بكثرة !".

"هؤلاء الأطفال تتحطم أعصابهم، وتصبح أفعالهم خالية من التروي والتفكير، وغالباً يؤدي بهم النفور نحو الانحراف وظهور ذلك في مظهر الجريمة، ذلك أن هؤلاء الأطفال يريدون أن ينتقموا ممن يعذبهم بواسطة نوع من الانتحار الخلقي، ولذلك فانهم لا يهتمون كثيراً بالترحم الذي يمكن أن يصيبهم، كما أنهم لا يتأثرون بكل عقوبة"25.

فمن الضروري أن تكون إدارة الأسرة قائمة على العقل والدراية والانصاف والعدالة، وفي هذا يقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: "ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة، إلا كان خراباً"26.

4- تقسيم العمل والكفاءة

يشبه المجتمع جسد الانسان، فكما أن أعضاء الجسد الواحد تتقاسم الوظائف فيما بينها، كذلك المجتمع، إذ يجب أن تقسم فيه الواجبات بين الأفراد، ويختص كل فرد بقسم معين منها.

إذا دققنا النظر وجدنا أن في بناء البدن تتناسب لياقة كل عضو مع الوظيفة المعهودة إليه، فقد خلق الله تعالى أعضاء بدن الانسان حسب الوظائف التي يجب أن تقوم بها، فمثلاً يقوم القلب بالعمل طيلة العمر وهو أنشط عضلات البدن من حيث الفعالية، وقد خلقه الله تعالى قوياً متيناً يتناسب ذلك مع ثقل العمل المفروض عليه. كذلك المجتمع فإنه يجب أن يفوض كل عمل فيه إلى من توجد عنده الكفاءة والقابلية، وهذا هو أهم المسائل الاجتماعية في كل دولة وسر ترقي الناس وسعادتهم.

العمل في الدولة الاستبدادية

إن الأعمال لا تقسم بين الناس في الدول الاستبدادية حسب الكفاءات والقابليات، وليس الوصول إلى المراكز الحساسة في تلك الدول منوطاً بالصلاحية والقابلية... فلا قيمة للخبرة والعلم هناك، بل العامل الوحيد للتقدم هو إرضاء الحاكم والتقرب منه فحسب !. إنه يستطيع تفويض أخطر الوظائف الحساسة في الدولة إلى اقل الأفراد كفاءة في ذلك المجال، وهو الذي يقدر على حرمان أعظم الأفراد كفاءة من أبسط الأعمال الاجتماعية، وجرهم إلى أحط المنازل والمراتب.

على الناس في مثل هذه الدول أن يتعلموا درس التملق والمراء بدل اكتساب العلم والمعرفة... فمن كان أمهر في مدح الحكام والتزلف اليهم وكان أشد إخلاصاً لتنفيذ أوامرهم من غيره فهو الذي ينال الوظيفة المهمة والمقامات العظيمة.

وبديهي أن اسلوباً كهذا يجر وراءه سلسلة من الفساد والاجرام والانحطاط والتأخر. ففي مجتمع كهذا تعطل كفاءات ثلة من العمال والمحققين والخبراء من جهة، ويعجز المتربعون على زمام الحكم من الفاقدين للأهلية والقابلية عن إدارة شؤون الدولة بالشكل اللائق... وتكون النتيجة أن يخطو المجتمع في كل يوم خطوة إلى الوراء !!.

العمل في الحكومة القانونية

أما في ظل العدل والانصاف، وتحت سماء الحرية والقانون... في الدولة التي تقسم فيها الأعمال حسب الكفاءات فيكون الجو الكامل للعلم والعمل، والمحيط الصالح لتنمية الاستعدادات الانسانية، يملأ نور الأمل قلوب الكل، ويكون طريق التقدم والترقي مفتوحاً أمام الجميع. هناك يكون الأفراد أحراراً في الحصول على الكفاءات، فمن يكون نتاجه أفضل ينال صلاحيات أوسع. هذه الدولة تكون في النظرة المادية والمعنوية مهداً للفضيلة، ومنشأ للسعادة والراحة.

الأسرة والحرية

تخضع نفسيات الأفراد في الأسرة إلى وضع حكومة الآباء. فالأب الذي يتحدث إلى أبنائه بلسان التهديد والعقاب فقط وتكون إطاعته له قائمة على أساس الخوف منه، ينعدم حب التعالي والترقي من نفوس الأطفال، ولا تظهر استعداداتهم الخفية ولا يفكرون في تحصيل الكفاءات لأنفسهم. وبصورة أساسية فإن الأطفال في أمثال هذه الأسر لا يدركون أنفسهم، ولا يلتفتون إلى وجودهم بين ظهراني المجتمع، لأنهم لم يسمعوا كلاماً من رب الأسرة حول إظهار شخصياتهم، إنه كان يتحدث معهم بلغة السوط والعصا فقط !.

أما في الأسر التي تقوم على أساس التعالي النفسي وحب الكمال، الاسر التي تهدف التربية فيها إلى إيجاد الكفاءة والفضيلة والصلاحية في نفوس الأفراد، تنعدم لغة التهديد والعقوبة، بل يستند المربي حينئذ إلى شخصية الأطفال ويستفيد من غريزة حبهم للكمال في تشجيعهم على العمل المثمر الحر.

إن الحديث الذي بدأنا به المقال يستند إلى هذا الأساس. فالامام الحسن عليه السلام لم يتحدث عن نفسه مع أطفاله ولم يهددهم بقوته، بل أشعرهم بأنهم صغار اليوم، وربما كانوا كبار الغد، وإن العظمة وذيوع الصيت في المجتمع يستلزم الكفاءة، فأخذ يحثهم على التعلم وتحصيل المعرفة.

تجانس الدولة والأسرة

من هذه النقاط التي تقدمت ندرك مدى التشابه بين جو الأسرة ومحيط الدولة. نتوصل إلى أن الحكومة الاسلامية والنظام الاجتماعي فيها يقوم على الحرية والعدالة.

"إن القوانين التربوية هي أولى القوانين التي تحكم فينا، ولما كانت هذه القوانين تعدنا لنكون مواطنين صالحين فعلى كل أسرة أن تدار وفق المنهج العام الذي يدار به المجتمع. ولذلك فإن قوانين التربية تختلف بالنسبة إلى أقسام الحكومات"27.

"تكون كل أسرة حكومة مستقلة في النظم الاستبدادية وإن التربية (والغرض الأصلي منها الحياة مع الآخرين) تكون محدودة في ظل هذه النظم. فالتربية في الحكومة الاستبدادية عبارة عن تمكين الخوف في القلوب".

"إذن فالتربية في هذه الدول بمنزلة الصفر واللاشيء. لأنه إن لم تزل تربية الأفراد تماماً فلا توجد الحكومة الاستبدادية. والأفضل أن أقول: إنه لا بد من وجود رعية منحطة حتى تكون عبداً جيداً..."28.

إن التربية في ظل النظام الاسلامي تقوم على العدل والحرية، وتنمية حب التعالي والتكامل في نفوس الأطفال.

يقول الامام علي لولده الحسن عليهما السلام: "ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"29. بهذه الجملة القصيرة يزرع الأب العظيم أعظم ثروة للشخصية في نفس ولده، ويعوده على الحرية الفكرية.

وبالنسبة إلى تعلم الأطفال قال عليه السلام: "من لم يتعلم في الصغر، لم يتقدم في الكبر"30.

إن المربي القدير هو الذي يستفيد من غريزة حب الكمال والتعالي عند الطفل ويقيم قسماً كبيراً من أساليبه التربوية على هذا الأساس.

*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج1، ص376-399.


 

1- بحار الأنوار ج 1-110.
2- بحار الأنوار ج 17-1291.
3- الكافي ج 2-327.
4- مجموعة ورام ج 2-115.
5- سفينة البحار ص 695.
6- روح القوانين لمونتسيكو ص 32.
7- روح القوانين ص 33.
8- روح القوانين ص 47.
9- تفسير البرهان:107.
10- بحار الأنوار 17-105.
11- نهج البلاغة ص 475.
12- بحار الأنوار 6-152.
13- بحار الأنوار ج 6-166.
14- بحار الأنوار ج 6-152.
15- سفينة البحار مادة عدا . ص 1703.
16- جه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص 93.
17- المصدر السابق ص 95.
18- بحار الأنوار للمجلسي ج 23-114. ومعنى الهجر: إظهار عدم الرضا بأعماله وعدم الاعتناء إليه.
19- جه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص 94.
20- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 108 طبعة النجف الأشرف.
21-الضمة: الضغط والعصر، ويقصد عصرة القبر فقد ورد في الرويات أن سوء الخلق مع العيال يوجب الضيق في القبر.
22- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 17-47.
23- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 2-302.
24- تتمة المنتهى للشيخ عباس القمي ص 61.
25- جه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص 30.
26-تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج 1-382.
27- روح القوانين لمونتسكيو ص 38.
28-المصدر السابق ص 42.
29- نهج البلاغة ص 450.
30- غرر الحكم ودرر الكلم ص 697.

2012-08-29