يتم التحميل...

التربية على أساس الإيمان

تربية الأبناء

الأساس الأول للتربية: إن الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود الله والايمان به بلسان ساذج متيسر الفهم. ان الحاجة للايمان بالله موجودة في باطن كل انسان بفطرته الطبيعية. فعندما يبدأ جهاز الادراك عند الطفل بالنشاط والعمل، ويستيقظ حس التتبع فيه...

عدد الزوار: 39

قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ(البقرة:256).

الأساس الأول للتربية

إن الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود الله والايمان به بلسان ساذج متيسر الفهم. ان الحاجة للايمان بالله موجودة في باطن كل انسان بفطرته الطبيعية. فعندما يبدأ جهاز الادراك عند الطفل بالنشاط والعمل، ويستيقظ حس التتبع فيه، ويأخذ في السؤال عن علل الأشياء ومنشأ كل منه، فان نفسه الطاهرة وغير المشوبة تكون مستعدة تماماً لتلقي الايمان بخالق العالم، وهذه الحالة هي أشد الحالات طبيعية في بناء الطفل.

وعلى القائم بالتربية أن يستفيد من هذه الثروة الفطرية، ويفهمه أن الذي خلقن، والذي يرزقن، والذي خلق جميع النباتات والحيوانات والجمادات، والذي خلق العالم، وأوجد الليل والنهار، هو الله تعالى... إنه يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحسنات ويعاقبنا على السيئات.

هذا الحديث سهل جداً وقابل للاذعان بالنسبة إلى الطفل ونفسه فنراه يؤمن بوجود الله في مدة قصيرة ويعتقد به. بهذا الأسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطفل حب النظام والالتزام ونحثه على الاستقامة في السلوك وتعلم الفضائل الخلقية والملكات العليا بالتدريج.

إن للايمان بالله وهو إحياء لأعظم قوة وجدانية عند الانسان آثاراً ونتائج مهمة في إحياء سائر الفطريات الخلقية والمثل العلي، وبإمكانه أن يخرج تلك الفطريات جميعها من مرحلة القوة إلى الفعلية بأحسن صورة وبعبارة أوضح نقول إن للايمان بالله أثرين مهمين: (الأول) أنه يعمل على إحياء أعظم واقعية روحانية أي الفطرة العقيدية، ويصب ركائز السعادة الواقعية للانسان. (والثاني): إن جميع الفطريات الروحية والفضائل الخلقية تستيقظ في ظل القوة التنفيذية للايمان، وتتحقق في الخارج.

ومهما بلغت قيمة الوجدان الأخلاقي، ومهما خطر دوره في تحقق سعادة الانسان، لكنه إذا لم يكن مستنداً إلى الايمان فلا يقوى على حفظ البشرية من التردي والسقوط. وكذلك سائر الصفات الصالحة إن لم يكن لها سند إيماني فانها تندحر أمام الغرائز والميول اللامشروعة في الصراع بينها.

القوانين الطبيعية من سنن الله
لا شك في أن العالم ثابت على أساس من العلم والنظام الدقيق، والحكمة المتناهية، فكل جزء من أجزاء الكون قد استقر في الموضع المخصص له حسب نظام دقيق وقياس كامل. وهذه الظاهرة بنفسها تعتبر في نظر العلماء سنداً ثابتاً ودليلاً متقناً على وجود المبدأ القادر للعالم. إن الصدفة (التي يستند إليها الماديون في نظريتهم) لا علم له، ولا قدرة، ولا حافظة، ولا وجدان... وهي تعجز عن أن توجد هذا النظام العجيب والمحير للعقول.

يشرح الامام الصادق عليه السلام بعض آثار عظمة الله وقدرته في عالم المخلوقات لتلميذه المفضل الجعفي، ويستدل بها على وجود الله تعالى، وفي الأثناء يسأل المفضل من الامام عليه السلام قائلاً: "يا مولاي، إن قوماً يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة. فقال: سلهم عن هذه الطبيعة، أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك ؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق ؟ فإن هذه صنعته. وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة فاعلم أن هذا الفعل للخالق الحكيم، وأن الذي سموه طبيعة هو سنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه"1.

إن النظام الدقيق والانسجام الشامل لأرجاء الكون، هو معلول القوانين والسنن المتينة للكون. وهذه النواميس والسنن الكونية تحكم جميع الموجودات، فهناك القوانين الفلكية التي تنظم آلاف الملايين من الأجرام السماوية، وتجعل كلا منها في المدار الخاص به، أما قوانين الحياة فهي تنظم عالم النباتات والحيوانات والبشر بالدقة المتناهية. لكن هذه القوانين لا تملك أقل إطلاع عن الأعمال العظيمة والمحيرة التي تقوم بها. إن مثل القوانين الطبيعية في النظام والجهل بالنشاط الصادر منها مثل الآلة الحاسبة: ففي نفس الوقت الذي تؤدي الآلة الحاسبة عملها مجيبة على المسائل الرياضية لا تعرف شيئاً عن عمله، إن الآلة الحاسبة لا تعرف أنها تشتغل في المصرف، إنها لا تعلم بمدى ضخامة الأعداد التي تجيب عليها بسرعة. إن الآلة الحاسبة تؤدي عملها هذا تبعاً لقاعدة الجبر، ولا تملك أي إرادة أو اختيار في ذلك. لكن تركيبها الدقيق والنظم يعد أكبر سند متقن وصريح على وجود مهندس عالم كون تلك الآلة بعلمه وقدرته، وسيرها لأداء هذه المهمة.

كذلك القوانين الطبيعية في العالم التي لا تملك علماً أو اختياراً. وهي تكون دليلاً واضحاً وشاهداً على وجود الخالق الحكيم الذي أوجدها وعين لكل منها واجباً خاصاً.

ولقد رأينا كيف أن الامام الصادق عليه السلام استدل عن طريق القوانين الطبيعية على وجود الله تعالى واعتبر ذلك سنداً محكماً على إثباته.

العالم في نظر الالهيين والماديين

إن الأثر الأول الذي يظهر من إحياء المعرفة الفطرية والايمان بالله والذي يقسم الناس إلى صنفين: مؤلهين وماديين، هو نظرتهم إلى الكون فالالهيون يرون أن هذا الكون عبارة عن هيكل عظيم وضخم أسس بعلم الله تعالى وإرادته على أساس المصلحة والحكمة، أما الماديون فيرون أن الكون عبارة عن مجموعة أوجدتها الصدفة العمياء الصماء، بلا علم أو اختيار.

الالهيون يرون أن الانسان موجود ممتاز خلقه الله مع قابلية التعالي والتكامل الذي لا يقف عند حد وسوى له طريق التقدم في ظل العقل. أما الماديون فيرون أن الانسان وجد على أثر طائفة من العوامل الاتفاقية وحصل على العقل عن طريق الصدفة، وصار بهذه الصورة الحاضرة.

الالهيون يرون أن الوجدان الخلقي ثروة ثمينة أودعها الله تعالى في باطن الانسان لضمان سعادته، وأن الخالق الحكيم الذي هيأ لكل موجود ما يساعده في التكيف لظروف الحياة هو الذي منح للانسان هذه الطاقة الجبارة (الوجدان) ليميز في ظلها بين الخير والشر، ويسير في طريق التعالي النفسي، والتكامل الروحي. أما الماديون فانهم يرون أن الوجدان الانساني يشبه الانسان نفسه في كونه وليداً للصدفة، وواقعاً على سبيل الإتفاق.

الالهيون يرون أن الانقياد إلى أوامر الوجدان إنما هو انقياد للهداية التكوينية التي أوجدها الله الذي يحب الخير والسعادة للانسان، وهم يرون أن الوجدان الأخلاقي قوة مقدسة، ومشعل وضاء، أشعله الخالق العظيم في باطن كل إنسان. ولذلك فانهم ينظرون إلى هذه الثروة العظمية التي هي منحة الله تعالى بعين التكريم والاحترام. ويرون طريق السعادة والفلاح منحصراً في تنفيذ أوامرها. أما الماديون فيرون أن الوجدان وهو معلول للصدفة العمياء الصماء لا يتصور له أي احترام أو تقديس ولا ضرورة في تنفيذ أوامره أصل، لأنه لم يوجد تبعاً للعلم والمصلحة.

الايمان وإحياء الفطريات
إن ما لا شك فيه أن إحياء المعرفة الفطرية وسيلة لحسن تنفيذ سائر الفطريات. فالذين يؤمنون بالله إيماناً واقعياً ويعملون على إيقاظ الفطرة التوحيدية في باطنهم، يصغون إلى نداء الوجدان الأخلاقي بدقة وينفذون أوامره، لأنهم يرون فيه إلهاماً إلهي، وهداية نحو السعادة.

ان الغرائز والهدايات التكوينية في عالم الحيوانات هي التي تخطط لها طريق تكاملها وتقدمه، وهي مجبرة على الانقياد لها ولا توجد هناك رقابة لتنفيذ تلك الخطط من قبل الحيوانات، أما الانسان العاقل والحر في إطاعة الإلهام الإلهي ومخالفته، يستطيع أن ينقاد لتلك الهداية ويسعد بها أو يخالف فيشقى. إن الايمان وإحياء المعرفة الفطرية هو الرقيب الصارم لتنفيذ الهدايات التكوينية والفطريات الخلقية. إن القوة الايمانية تستطيع أن تحفظ الانسان من مزالق الغرائز. وتحثه على إطاعة أوامر الوجدان الأخلاقي والالهام الالهي.

تعارض الوجدان والغرائز
إن جميع الناس يملكون وجداناً فطرياً... كلهم يعلمون أن الظلم قبيح ويدركون أن الخيانة سيئة... الكل يرتاحون للصدق، ويميلون فطرياً إلى الأمانة والوفاء بالوعد، كل الناس يستاءون من الخيانة والكذب وبصورة موجزة: فان الناس جميعاً يدركون حسن وقبح أصول الفضائل والرذائل بوحي من فطرتهم. ولكنهم في مقام العمل قلما يلتفتون إلى نداء الفطرة، ذلك أن الانسان حر في إطاعة أوامر الوجدان أو الخروج عليها فعندما لا يوجد تعارض أو تصادم بين الوجدان والميول النفسانية فان الانقياد للوجدان أمر هين. ولكن عندما تستلزم إطاعة الوجدان الأخلاقي التخلي عن بعض الميول الغريزية فهناك تشتد العقدة، وفي الغاب تنتصر الغريزة ويندحر الوجدان، إلا إذا كان الوجدان مستنداً إلى الايمان وكان الاعتقاد الحقيقي بخالق الكون يدعم الصفات الانسانية.

لقد تعرض الصديق يوسف في ريعان شبابه وأحرج مراحل نضجه الجنسي، إلى أخطر مشكلة منافية للعفة والشرف: فقد وقعت امرأة متزوجة في غرامه، وعرضت عليه الاتصال الجنسي به. كانا كلاهما بشرين ولكل منهما رصيد ضخم من الميول الجنسية... ولكن قوة الغريزة غلبت على عفة المرأة وجعلتها تطاوع رجلاً غريباً في نفسها فاستسلمت إلى ميولها بينما نجد أن للقوة الايمانية والبرهان الالهي الأثر الفعال في الدفاع عن عفة يوسف وصد تيار الغريزة الجارف. وبذلك حفظ شرفه، واحتفظ على نقاوة ذيله من دنس الانحراف ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ(يوسف:24).

طغيان الغرائز واندحار الوجدان

كان (عبد الملك بن مروان) يعيش حياة هادئة في شبابه، وكان إنساناً رحيماً وشفوق، يعطف على الناس، ولا يحاول إيذاءهم ولا يتحدث عن أحد بشر، كانت رغباته النفسية وميوله الغريزية مخفية، وذلك لعدم وجود ميدان لظهورها... ولم يكن يتصور أنه سيمسك بزمام الحكم في الدولة الاسلامية الواسعة ويتصرف في مقدرات ملايين الناس في يوم من الأيام.

ومرت الأيام بالتدريج، حتى ظهرت الأوضاع والتحولات المفاجئة التي أدارت سير الزمن لصالحه. فقد تربع أبوه (الذي كان والياً في يوم ما على المدينة ثم عزل من ولايته عليها) على دست الخلافة، على أثر التطورات السياسية المعروفة، ونصب (عبد الملك) ذلك الشاب العطوف ولياً للعهد..

ولم تمض أشهر قليلة حتى دس السم إلى مروان ومات... فجلس عبد الملك على كرسي الخلافة بعده... وهنا استيقظت ميوله وشهواته ووجدت لها مجالا واسعا للمبارزة والكفاح.

لقد كان الوجدان يحكم إلى الأمس القريب في سلوك عبد الملك دون معارض أو معاند، ولذلك كان يجتنب من الظلم والأفعال الاانسانية أما اليوم فقد استيقظت غرائزه، وتعالت ألسنة نيرانه، حتى اضطر وجدانه إلى الانسحاب والاندحار أمام تلك الأوضاع، وكأن لم يكن في باطن عبد الملك وارتكب الجرائم الفظيعة التي لا حد لها ولا حصر.

يذكر لنا المؤرخون أنه لما أرسل (يزيد) جيشاً إلى مكة لقتل (عبدالله بن الزبير) كان عبدالملك يقول: العياذ بالله أفهل يجهز أحد جيشاً لمحاربة بيت الله الحرام ؟! أما عندما تولى الخلافة بنفسه فقد أرسل جيشاً أعظم بقيادة الحجاج بن يوسف (المجرم المعروف) إلى مكة، وقتل في سبيل ذلك كثيراً من الناس في حرم الله ليقبض على عبدالله بن الزبير وأخيراً فقد حز رأسه وأرسله إلى عبدالملك في الشام وعلق جثته على عود المشنقة !.

حينئذ يقول عبد الملك: إني كنت أتمانع من قتل نملة ضعيفة أما الآن فعندما يخبرني الحجاج عن قتل الناس لا أجد أي قلق أو تأثر في نفسي ! لقد قال أحد العلماء واسمه (الزهري) يوماً لعبد الملك: سمعت أنك تشرب الخمر ! فأجابه نعم والله، أشرب الخمر، وأشرب دماء الناس أيضاً2.

ما أكثر الناس من أمثال عبدالملك على مر التاريخ، وحتى في عصرنا الحاضر ! إن الغالبية العظمى من الناس يتبعون ضمائرهم في الحالات الاعتيادية ولكنهم عندما تثور غريزة من غرائزهم يسحقون الوجدان بأقدامهم، ويطلقون العنان لميولهم النفسية، إلا إذا استكانوا بالايمان وتسلحوا به ضد طغيان الغرائز !... ﴿... إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي...(يوسف:53).

العقل والغرائز
والعقل هو الآخر عامل مهم في التلطيف من حدة الغرائز، وتعديل الميول النفسانية، فعندما يكون طغيان الغرائز خفيفاً يستطيع العقل إلى حد ما من تخفيف حدتها. أما عندما يشتد هيجانه، وتظهر الغرائز بصورة سيل عارم يقتلع كل ما يجد في طريقه فان سد العقل يتحطم وبذلك يفقد العقل الانساني قدرته على المقاومة، وتندفع نيران الرغبات النفسية كمخزن مشتعل من البارود، وحينذاك يكون زمام الأمور بيد الشهوة، تسيطر على الانسان وتوجهه كيف تشاء.

وعن أمثال هؤلاء الأفراد يتحدث الامام علي عليه السلام فيقول: "قد أحرقت الشهوات عقله، وأماتت قلبه، وأولهت عليها نفسه"3.

العلم والغرائز
يتصور البعض ان ارتفاع المستوى الثقافي، والتقدم في المدنية قادر على التخفيف من حدة الغرائز الثائرة، والأخذ بيد الانسان إلى الفضيلة والكمال... غافلين عن أن قوة التمدن المادية (أي العلم الفاقد للايمان) عاجزة عن الوقوف أمام تيار الغرائز، شأنها في ذلك شأن العقل والوجدان ذلك أن الغرائز والشهوات من القوة في سلوك الانسان بحيث أنها عندما تثور، ويشتد ضرامها وتندفع كسيل منحدر من قمة جبل، تدع العقل والعلم والوجدان كقطع الخشب والأحجار التي تنقلع لأول صدمة، ثم تتقلب وسط الأوحال إلى أعماق الوادي.

غلبة الغريزة على العلم
ما أكثر المثقفين والعلماء الذين لا يملكون قوة الوقوف أمام تيار الميول الغريزية والرغبات اللاإنسانية، ولا يستطيعون ضبط نفوسهم في تلك المواقف !.

ما أكثر المثقفين الذين يستطيعون تأليف كتاب حول قبح الارتشاء وأكل أموال الناس بالباطل، وإثبات فساد ذلك من الناحية الاجتماعية والقضائية والاقتصادية والسياسية والوطنية وغير ذلك من النواحي، ولكنهم في مقام العمل وفي مرحلة التطبيق، لا يتورعون من أخذ الرشوة، ولا ينصرفون عن الدرهم الواحد !.

ما أكثر المتمدنين الذي يعرفون أضرار الخمرة عن طريق العلم ويعرفون عوارضها المختلفة على الكبد والكلية والأعصاب والجهاز الهضمي ولكنهم لا يستطيعون الامتناع عن شربها حتى ليلة واحدة !

لهذا فقد وردت أحاديث كثيرة في ذم العلماء الذين لا يطبقون علمهم وينقادون لأهوائهم... منها:

1- قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "العلماء عالمان: عالم عمل بعلمه فهو ناج، وعالم تارك لعلمه فقد هلك"4.

2- وقد ورد أيضاً: "أوحى الله إلى داود: لا تسألني عن عالم قد أسكره حب الدني، فأولئك قطاع الطريق على عبادي"5.

3- قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا أباذر، إن شر الناس عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه"6.

4- وفي حديث آخر: "أشد الناس عذاباً في القيامة، عالم لم يعمل بعلمه، ولم ينفعه علمه"7.

إن نسبة الجرائم والجنايات تزداد يومأً بعد يوم في الأمم المتمدنة في العالم بالرغم من الرقابات البوليسية الشديدة والعقوبات القانونية... وهذا هو أجلى شاهد على أن التمدن والرقي وارتفاع مستوى الثقافة عاجز وحده من مقاومة طغيان الغرائز ودفع الانسان إلى التمسك بالفضائل والمثل الانسانية ولحسن الحظ فإن علماء الغرب أنفسهم يعترفون بهذا !.

"إن الأعمال التخريبية التي يرتكبها كثير من الناس بمجرد اضمحلال بعض القيود والموانع الاجتماعية تثبت أنه وإن كان الأفراد يعيشون في المجتمع ويوجدون المدنيات المختلفة، لكنهم ليسوا متمدنين".

"هذه الأكثرية بهذا المعنى ليست متمدنة، حيث تحترم مظاهر المدنية تحت ضغط الرقابة الاجتماعية فقط"8.

الهمجية في لباس التمدن
لقد كان العالم المتمدن يرفع عقائر السلام والرخاء والانسانية قبل الحرب العالمية. ولكنه عندما اندلعت نيران الحرب انفجرت القنابل واضطرمت نيران المعارك الدموية وتحطمت الهياكل الجوفاء للمدنية وفقدت زينتها الظاهرة... وحينذاك ظهر العالم المتمدن في ثوب الهمجية والفوضوية أي لباسه الواقعي فقد استولت سحب الاجرام وسفك الدماء على سماء العالم وحل الحقد والانتقام محل الضحكات المصطنعة في وجوه الجماهير المتمدنة !.

"القتل العام للمدنيين، ومعسكرات العمل الاجباري (التي لم يكن ينتشر فيها الجوع والأمراض السارية فحسب، بل كانت تستعمل فيها مختلف وسائل التعذيب والقمع والارهاب) والتدمير الشامل اللامعقول بالقنابل... كل هذه الوسائل كانت تستعمل كأساليب طبيعية واعتيادية في الحرب. ولذلك فقد كان الخوف والاضطراب مستولياً على العالم أجمع في الحرب العالمية الثانية، وهكذا اختفت مظاهر احترام الحياة والمثل الانسانية، والقيم الأخلاقية في كل مكان"9.

لقد كان فرويد (وهو الذي يبدي مخالفته الصريحة للتعاليم الدينية والعقائد الإلهية) قبل الحرب يأمل انتشار التعاليم والقوانين التربوية وأصول المدنية الحديثة حتى تستطيع أن تحل محل الدين في أفكار العامة وبذلك يوصل البشرية إلى الكمال المنشود لها... إنه يقول:

"إن ما لا شك فيه أن الدين قد قدم خدمات مهمة إلى الانسانية والمدنية نظراً للدور الكبير الذي لعبه في تهدئة الغرائز غير الاجتماعية، ولكنه لم يستطع أن يتقدم في هذا المجال بالمقدار الكافي"10.

إن فرويد يوصي بما يلي: "من المستحسن أن نختبر منهاجاً تربوياً غير ديني... ولأجل أن يثبتوا أمام الأخطار والصدمات معتمدين على أنفسهم فقط، عليهم أن يهجروا هذا الملجأ".

إنه يعتقد بأن: "الفرد يستطيع في هذه الصورة فقط أن يكون إنسانأً راشد، وسيبدأ الكفاح مع القوى الشريرة في الطبيعة" 11.

أوهام فرويدية
كان فرويد يعتقد قبل بدء الحرب العالمية بارتفاع المستوى الأخلاقي للأمة في ظل المدنية، إنه كان يتصور أن الانسان يستطيع في ظل المدنية الحديثة وأصول التربية المادية أن يصل إلى طريق الفضيلة والقيم العلي، لكن اندلاع نيران الحرب والجرائم التي وقعت فيه هزت أفكار فرويد، وقلبت تفكيره رأساً على عقب، فاعترف بأوهامه السابقة وتفكيره الخاطئ... وراح يقول:

"ولقد أدت مشاهدة الأعمال التي نتصورها غير مطابقة للمدنية، وما نتج من هذه الأعمال الوحشية من نظرتنا إلى البشر على أنهم مجرمون إلى أن نغرق في الألم والتأثر واليأس. ولكن هذا اليأس والألم ليسا وجهين في الحقيقة، وذلك أنا نعتبر سكان العالم لهذه الجهة منحطين وقد كنا مخطئين في نظرتنا إليهم قبل الحرب على أنهم في مستوى أخلاقي ومعنوي أعلى مما هم عليه"12.

"بعد سرد هذا البيان الموجز الذي يوضح فرويد فيه ضرورة وقوف المدنية أمام الاعتداءات البشرية يستنتج أن الجهود والمحاولات المبذولة في هذا السبيل لحد الآن لم تكن مثمرة كما ينبغي، ولا تزال الاعتداءات موجودة خلف أستار المجتمع".

"هناك كثير من المتمدنين الذين يستاؤون من تصور ارتكاب القتل أو الاتصال الجنسي مع المحارم ولكن هؤلاء أنفسهم لا يعرضون عن إرضاء جشعهم وحرصهم واعتدائهم وأطماعهم الجنسية".

"إنهم إذا استطاعوا الفرار من العقاب، فسيلحقون الأذى بالأفراد الآخرين عن طريق الكذب، والخداع، والافتراء، وما شاكل ذلك..." 13.

"إن الحكومة تعتبر جميع الأمور المخالفة للعدالة والاعتداءات الأخرى التي لا يسمح بها في الأوقات الاعتيادية مباحة في حال الحرب. ولذلك فان الحكومة لا تكتفي بالاستعانة بالمكر والحيلة لمواجهة العدو فقط، بل لا تمانع من الكذب العمد. ولقد لوحظ أن الكذب والتزوير كانا رائجين في الحرب العالمية بصورة غير مألوفة قبلاً"14.

التمدن الفاقد للايمان
إن المدنية المادية وأساليب التعليم والتربية التي لا تستند إلى الايمان تعجز عن أن تقاوم الغرائز عند طغيانها وتحمي البشرية من السقوط والانهيار.

إن الحرب العالمية كشفت اللثام عن الوجه الحقيقي للمدنية بجرائمها التي تضمنتها والاعتداءات التي ارتكبت في أثنائها وأثبتت أن وراء ستار المدنية الزائفة هيكل موحش سفاك تهتز الانسانية من تصوره، وتخجل أشد أمم العالم وحشية من سماعه.

إن أقوى وأسلم قوة تستطيع صد هجمات الغرائز والسيطرة عليه، وتتمكن من تلطيف حدة المشاعر... هي قوة الايمان بالله. فالايمان قادر على أن يقاوم كل الميول والرغبات اللامشروعة وينتصر عليها... القوة الايمانية تحفظ الانسان في أخطر لحظات الانحراف والانزلاق في الحياة وتمنع من سقوطه، الايمان بالله قوة لا تغلب ولا تدحر، وملجأ لا يتحطم "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى، لا انفصام لها".

إن أهم طابع يميز مدرسة التربية الاسلامية عن غيرها من الأساليب التربوية البشرية هو (الايمان بالله).

يشترك الاسلام وعلماء الأخلاق في دعوة الناس إلى الصلاح والاستقامة لكن الفارق بينهما هو أن العلماء والقائمين على شؤون التربية يهتمون قبل كل شيء بالسلوك الظاهري للأفراد، ويحاولون أن يربوا أفراداً مطيعين للقانون، ولا شأن لهم أو دخل في أسلوب تفكيرهم. أما الهدف من التربية في الاسلام فهو أن يتربى الأفراد، مضافاً إلى استقامة سلوكهم على التفكير السليم، وأن لا يحاولوا إلا الصلاح والخير.

النوايا الصالحة
تهتم الدول المتمدنة والمدارس التربوية في العالم بالسلوك الصحيح للانسان فقط. أما المذهب التربوي للاسلام فهو يهتم بالنوايا الصالحة والطاهرة للأفراد أكثر من أفعالهم الصالحة.

يقول الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم: "نية المؤمن خير من عمله" 15.

وعن الامام الصادق عليه السلام ضمن حديث طويل: "والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هو العمل، ثم تلا قوله عز وجل: قل كل يعمل على شاكلته يعني: على نيته" 16.

إن الفرد المنقاد للقانون والمطبق للتعاليم الأخلاقية يعد في الدول المتمدنة فرداً صالحاً ومواطناً شاعراً بمسؤوليته ولو كان شعوره الباطن منحرفاً وسيئ، أما المذهب الاسلامي فيرى أن المسلم الواقعي والشاعر بمسؤوليته هو الذي يعتقد بأساس الاسلام وتعاليمه القانونية والأخلاقية بالدرجة الأولى، ويعتبر ذلك كله دستوراً إلهي، ومنهجاً قويماً لسعادته ونجاته، ثم يطبق تلك التعاليم وينفذ تلك الأوامر بالدرجة الثانية.

يتحدث المدعي العام للمحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية الذي يعد من الشخصيات العلمية البارزة هناك عن هذا الموضوع فيقول:

"للقانون الأمريكي صلة محدودة بتطبيع الواجبات الأخلاقية. ففي الحقيقة يمكن أن يكون المواطن الأمريكي إنساناً منحطاً وفاسداً من الناحية الخلقية. في نفس الوقت يمكن أن يكون فرداً مطيعاً للقانون.ولكن الحال على عكس ذلك في القوانين الاسلامية التي تنبع من إرادة الله، الارادة التي كشفت لرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، هذا القانون وهذه الارادة الإلهية يعتبران جميع المؤمنين مجتمعاً واحداً حتى لو كانوا من قبائل وعشائر مختلفة وموجودين في بلدان متباعدة ومتفرقة. إن المؤمن ينظر إلى هذا العالم على أنه ممر يوصله إلى عالم أرقى وأفضل وأن القرآن قد نظم القواعد والقوانين وأساليب سلوك الأفراد بالنسبة إلى بعضهم البعض وبالنسبة إلى المجتمع بصورة عامة كي يضمن ذلك التحول السليم من هذا العالم إلى العالم الآخر"17.

العمل المستند إلى الايمان
يستند أساس السعادة الانسانية في الاسلام إلى دعامتين، الأولى: الأيمان، والإخرى: العمل الصالح. ولقد ورد التصريح بهذا الموضوع في القرآن الكريم في موارد عديدة بصورة: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ونظائرها. والنكتة التي تجلب الانتباه هنا هي أن الايمان مقدم على العمل الصالح دائم، ذلك أن الاسلام يرى أن الأعمال الصالحة يجب أن تستند إلى الاعتقاد الحقيقي، وتنبع من منبع الايمان وهذا بنفسه هو أجلى صورة للمذهب الاسلامي بهذا الصدد فيما ذكرناه.

إن الأعمال الصالحة التي يكون لها منشأ روحاني وأساس إيماني ثابت في أعماق قلب صاحبها تشبه الشجرة النضرة التي تمتد جذورها في أعماق التربة، وتستمد حيويتها وطراوتها من الغذاء الذي تتناوله عن طريقها.

الرياء والتظاهر
أما الأعمال الصالحة التي لا تملك إيماناً ثابت، بل يكون منشؤها هو الرياء والتظاهر أمام الناس، أو العادة الاجتماعية... لا تبقى ثابتة أبد، بل هي معرضة للزوال أمام أبسط عامل مخالف.

إن الاحسان إلى الناس وإعانة الضعفاء من الأعمال الصالحة فمن يقوم بهذا العمل المقدس امتثالاً لأمر الله واحتراماً للايمان، يعمل في كل مكان وبلا أي منة بل يكون رائده الاخلاص وجلب رضى الله دون النظر إلى مدح الناس وإطرائهم أما الذي لا ينبع إحسانه من رصيد إيماني بل يكون دافعه إلى ذلك ظروف المحيط، والتظاهر أمام الناس، وانتشار أمره في الصحف والمجلات، فبمجرد أن تنتفي ظواهر الاطراء والمدح وتنقطع المجلات عن الحديث عنه، أو يجهل الناس إحسانه نجد أنه يتقاعس عن الاحسان، أو يتخلى عنه تماماً:

"يقول بعض الملحدين الذين يتميزون بصبغة أخلاقية: لما كانت المشكلة الأساسية هي إطاعة القوانين الأخلاقية فاننا لو استطعنا تنفيذ هذه القوانين لأصبحنا في غنى عن الدين. هذا التفكير إنما هو علامة الجهل السيكولوجي. ذلك أن الانسان يشكك دائماً في قيمة القواعد التي لا يعرف منشأه، مضافاً إلى أن سلوكاً كهذا دليل على عدم فهم المشكلة نفسها. لأن المقصود أن يتكامل الانسان في باطنه أولاً كي يستطيع التفكير بصورة أخلاقية، ليس الهدف أن نحث الانسان على أن يؤدي حركات أخلاقية. فما لم يكن سلوك كل فرد مرآة تعكس تكامله العميق الداخلي، فإن عملياته تعد سلسلة من التحديدات المتصنعة والموقتة التي تزول بأبسط مبرر. إن القواعد الأخلاقية إذا فرضت على الانسان فرضاً فمهما كانت قيمتها العملية عالية، لكنها لا تستطيع أن تكافح الميول الحيوانية بصورة موفقة"18.

"يرى بعض الكتاب أنهم أجل من أن يحتاجوا إلى المقررات والأنظمة الدينية والأخلاقية، ولا يعتقدون بقيمتها المطلقة. إن سيطرة هؤلاء الأشخاص وانتشار آثارهم يمكن أن تكون هدامة. ولكن الغالبية منهم يغفلون عن هذه الحقيقة. إنهم يسندون أفكارهم إلى كلمات بعض الفلاسفة الكبار التي قرأوها بصورة سطحية أو لم يقرأوها أصل، فيرون أن (فولتير) و(داروين) كانا ملحدين والحال أن هذا مخالف للحقيقة".

الا الإيمان وتعديل الغرائز
إن من أهم نتائج الايمان الواقعي بالله، السيطرة على زمام الغرائز الثائرة، وضبط الرغبات اللامشروعة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنما المؤمن، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولاباطل، وإذا سخط لم يخرجه من قول الحق، والذي إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق" 19.

لقد أشار هذا الحديث إلى ثلاثة ميول غريزية يعد كل منها هوّة سحيقة للانسان. فما أكثر الناس الذين يرتكبون جنايات عظيمة استجابة لإحدى الرغبات النفسية. أما الرجال المؤمنون فانهم يستطيعون في المواقع الحساسة بمساندة القوى المعنوية أن يحفظوا أنفسهم من التلوث والدنس.

يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام ضمن حديث طويل في بيان علائم المؤمن: "لا يحيف في حكمه ولا يجور في عمله، نفسه أصلب من الصلد، حياؤه يعلو شهوته، ووده يعلو حسده، وعفوه يعلو حقده" 20.

الايمان والعزم
يشير الامام علي عليه السلام في هذه الجمل بعد الاشارة إلى الروح الصلبة والعزم الحديدي للمؤمنين إلى أن غريزة الشهوة والحسد والانتقام مكبوتة في نفوس الأشخاص المؤمنين وأن القوة الايمانية تمنع من إسراف الرغبات المضطربة وهيجانها أكثر من الحد المقرر.

عن أبي عبدالله عليه السلام قال: "ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة. ورجل قال بالحق في ما له وعليه"21.

في هذا الحديث يبين الامام الصادق عليه السلام غلبة الايمان على الميول النفسانية في ثلاثة أفراد.

وللرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم بيان آخر يتضمن بعض صفات المؤمن فيقول: "... مشمولاً بحفظ الله، مؤيداً بتوفيق الله، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في من يحب، لا يجور ولا يعتدي، لا يقبل الباطل من صديقه، ولا يرد الحق على عدوه" 22.

إن المؤمنين بخالق الكون هم الرجال الأحرار في العالم وليس للميول النفسانية والحقد والبغضاء طريق إلى نفوسهم.

الايمان والهدوء النفسي
إن الأثر الثاني للايمان بالله يظهر في الهدوء النفسي. إن المؤمنين الحقيقيين مضافاً إلى قدرتهم على تعديل غرائزهم وشهواتهم بفضل الايمان يقدرون على الاحتفاظ بشخصيتهم أمام هجوم الحوادث، وقبال الضربات الشديدة التي توردها المصائب وآلام الحياة عليهم فلا يصابون بأي إضطراب أو قلق تجاهها.

مرض القلق
لقد أدى القلق والاضطراب النفسي إلى تحويل ثلة كبيرة من المتمدنين المعاصرين في العالم إلى مرضى، وهذا المرض المؤلم قد سلب راحة المصابين به من الرجال والنساء.

فنجد البعض منهم يستعينون للحصول على نوم بضع ساعات والاستراحة بأقراص مخدرة ومنومة، أما في اليقظة فصراع دائب مع الآلام الباطنية والقلق المستمر !.

والبعض الآخر يلجأون لنسيان أنفسهم لبعض الوقت، والتخلص من شر القلق الداخلي إلى استعمال المشروبات الروحية والحشيشة، وبعملهم هذا يهدمون صرح سعادتهم وسلامتهم.

أما القسم الآخر فانهم قد فقدوا القدرة على المقاومة بالتدريج على أثر الضغط الروحي المتواصل والقلق المستمر إلى حيث الاصابة بالأمراض النفسية أو الجنون، وقضاء ما تبقى من العمر في مستشفيات المجانين بأسوأ حال وأشنع صورة !.

وهناك طائفة تأزمت حالتها تجاه المضايقات الروحية المستمرة إلى درجة أنها أفلتت عنان الاختيار من يده، وأقدمت على الانتحار هرباً من القلق والألم، وبهذا الوضع المزري ينهون تلك السلسلة من الاضطرابات.

لقد اهتم قسم كبير من علماء النفس في الآونة الأخيرة بمعالجة مرض القلق الهدام، وألفوا في ذلك الكتب المختلفة، وتوصلوا إلى معالجة المصابين به عن طريق الايحاء، والتحليل النفسي، وحل العقد النفسية... إن ما لا شك فيه أنهم تحملوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل وتوصول إلى نتائج مفيدة... ولكن تلك النتائج ضئيلة، ولا يزال يتضاعف عدد المصابين بالأمراض النفسية يوماً بعد يوم.

إن الغارق في بحر القلق والاضطراب الشديد لا يجد من نفسه حافزاً لقراءة الكتب العلمية النفسية، ولا يملك القدرة على فهم تلك القواعد المجردة، كي يستطيع تنفيذ تلك الوصاي، وتخليص نفسه من القلق والاضطراب.

الايمان وعلاج القلق
هنا يظهر دور الايمان الكبير في علاج مرض القلق. فإن المؤمنين يستدون إلى الله تعالى في مد الحياة وجزره، ويستعينون بألطافه وعناياته باستمرار، ولذلك فهم يملكون أرواحاً قوية، ونفوساً تتحدى التحطيم، ولا يفشلون أمام تقلبات الحياة.

﴿... إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(الأحقاف:13). إن المؤمن لا يشعر بالصغار والذلة أبداً لأنه يجد أنه يستند إلى أعظم قوة في الوجود، ذلك هو الله تعالى ﴿"أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد:28).

وقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿قَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى(لقمان:22) قوله عليه السلام: "هي الايمان بالله وحده لا شريك له" 23.

وفي حديث آخريقول الراوي: "سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قوله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِين(الفتح:4) قال: هو الإيمان. قال: قلت ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ(المجادلة:22) ؟ قال: هو الإيمان. وعن قوله:﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى(الفتح:26) ؟ قال: هو الإيمان"24.

لقد ورد التعبير عن الهدوء النفسي، والارتياح الباطني عند المؤمنين في القرآن الكريم بعبارات مختلفة، ولقد قام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السلام بتفسير ذلك كله بالايمان...

فالايمان هو القوة الرصينة والقدرة التي لا تزلزل والتي إذا حلت في كل قلب، لم يصب ذلك القلب بقلق أصل، بل يستطيع أن يثبت في أحرج المواقف.

يقول ويليام جيمس أبو علم النفس الحديث وأستاذ الفلسفة في جامعة (هارفرد):"إن أشد العقاقير تأثيرا في رفع القلق هو الايمان بالله والاعتقاد الديني" 25.

"إن الايمان هو أحد القوى البشرية التي يحيا الانسان بمدده، وإن فقدانها الكامل يعني سقوط الانسانية"26.

تشكل القيمة المعنوية للايمان، وآثاره العجيبة في قلوب المؤمنين، فصلا مستقلا من فصول علم النفس الحديث في العالم، ذلك أن كثيرا من الأطباء النفسانيين يستفيدون من قوة الايمان في حل أعقد العقد النفسية عند المصابين !.

الالحاد والقلق
يعترف العلماء المعاصرون بأن قسماً مهماً من الاضطرابات الباطنية والأمراض النفسية والانتحارات منشؤها فقدان الايمان.

"في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ معدل الانتحار عملية انتحار واحدة كل (35) دقيقة، ويصاب في كل دقيقتين شخص بالجنون، وإذا كان لهؤلاء نصيب من الهدوء والاطمئنان اللذين يبعثهما الدين والعبادة للانسان كان من الممكن أن يمنع ذلك من حدوث أكثر هذه الانتحارات والاصابات بالجنون".

"يقول الدكتور (كارل جونك) أشهر الأطباء النفسانيين في أحد كتبه: لقد راجعني في الثلاثين عاماً الأخيرة أناس من جميع الدول المتمدنة في العالم. وقد عالجت مئات المرضى، ولم يوجد بين جميع هؤلاء المرضى الذين كانوا يقضون النصف الثاني من حياتهم أي الذين تزيد أعمارهم على الخمس والثلاثين سنة، لم يوجد منهم واحد لم ترتبط مشكلته بوجدان عقيدة دينية في الحياة في نهاية الأمر. ولذا أستطيع القول بكل تاكيد أن كلاً منهم كان قد مرض لفقدانه ما تهبه الأديان الحية في كل عصر لاتباعها. وإن الذين لم يسترجعوا عقائدهم الدينية لم يوفقوا للعلاج أصلاً"27.

إيمان الأنبياء عليهم السلام
إن أجلى مثال للايمان وآثاره العجيبة يمكن مشاهدته في تاريخ الأنبياء إنهم قاموا في ظروف شديدة ومعقدة جد، مليئة بالأخطار والمشاكل، وكانوا يتعرضون للموت في كل لحظة، ولكنهم استمروا على بث دعوتهم بلا أي اضطراب أو قلق، ذلك أنهم كانوا مؤمنين بالله وكانوا يرون أنفسهم في حماه وتحت كنفه.

ولقد تعلم اتباع الأنبياء دروس الهدوء النفسي من قادتهم، فلا يقعون فريسة القلق والاضطراب... كان نظرهم متجهاً في الحرب والسلم، في الفقر والغنى، في الموت والمرض... وفي كل الحالات إلى الله تعالى، متطلعين إلى رحمته وكرمه. وعلى سبيل المثال نذكر قصة هذه الامرأة المسلمة:

"خرجت مع صديق لي بالبادية فضللنا الطريق، فإذا رأينا في يمين الطريق خيمة فقصدناها فسلمن، فإذا امرأة ردت علينا السلام، فقالت: من أنتم ؟ قلنا: ضالين قصدناكم لنأنس بكم. فقالت: أديروا وجوهكم حتى أعمل في حقكم شيئاً ففعلن، فقالت: أجلسوا حتى يجيء إبني وكانت ترفع طرف الخيمة وتنظر فرفعتها مرة، فقالت: أسأل الله بركة المقبل. وقالت: أما الناقة فناقة ابني، وأما الراكب فليس هو. فلما ورد الراكب عليها قال: يا أم عقيل عظم الله أجرك بسبب عقيل قالت: ويحك مات عقيل ؟ قال: نعم. قالت: بما مات ؟ قال: أزدحمته الناقة وألقته في البئر. فقالت له: أنزل وخذ زمام القوم. فقربت إليه كبشاً فذبحه وصنعت لنا طعام، فشرعنا في أكل الطعام فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت: أيها القوم أفيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً ؟ قلت: بلى ! قالت: إقرأ علي آيات أتسلى بها عن موت الولد. قلت: الله عز وجل يقول: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة... المهتدون" قالت: الله، هذه الآية في كتاب الله هكذا ؟ قلت: أي والله إن هذه الآية في كتاب الله هكذا فقالت: السلام عليكم فقامت وصلت ركعات ثم قالت: أللهم اني فعلت ما أمرتني به، فانجز لي ما وعدتني به" 28.

أي قوة غير الايمان بالله قادرة على تهدئة خاطر امرأة ثكلى بهذه السرعة والسلامة ؟!.

أي قدرة غير الاعتقاد الديني تستطيع إطفاء لهب الحزن والويل من روح أم أصيبت بموت ولدها الشاب، بهذه الفورية ؟!!

إحياء الفطرة الأولى
نعود فنلخص ما ذكرناه فيما سبق، وهو أن الايمان بالله إحياء لأولى القوى الفطرية عند الانسان... إن الايمان بالله كفيل بتنفيذ أوامر الوجدان الأخلاقي... وهو أعظم ملجأ للانسان، وأكبر عامل للهدوء النفسي واطمئنان الخاطر... وبصورة موجزة، فهو أهم أسس السعادة البشرية وأولى المواضيع التي اهتم بها الأنبياء في دعوتهم.

إن المربي الكفء والقدير هو الذي يلفت نظر الطفل منذ الصغر نحو الله تعالى، ويلقنه درس الايمان به بلسان ساذج بسيط. إن على المربي القدير أن يتحدث إلى الطفل عن رحمة الله الواسعة اتباعاً لمنهج القرآن الكريم ويبذر في نفسه بذور الأمل، ويفهمه أن اليأس من روح الله ذنب عظيم.

يجب أن يعرف الطفل منذ الصغر أن لا ييأس أمام حوادث الزمان، فالله قادر على حل مشاكله وتيسير أموره، فإن رفعنا يد الحاجة نحوه ساعدنا على مهمتنا.

على المربي أن يفهم الطفل أن أعظم الواجبات الانسانية هو جلب رضى الله، وإن رضى الله يكمن في إطاعة أوامره التي بعثها إلين، عن طريق نبيه العظيم، إن الصدق والأمانة يسببان رضى الله، والخيانة تسبب غضبه.

يجب على المربي أن يوقظ الاحساس بالمسؤولية أمام الله في الطفل منذ الطفوله ويحثه على الشعور بواجبه، وإشعاره بالأسلوب البسيط أن الله يراقبك في كل حال ويطلع على أفعالك الصالحة والطالحة، ولا يخفى شيء على الله... إنه يجازيك على حسناتك ويعاقبك على سيئاتك.

إن الآباء والأمهات الذين يحيون الفطرة الايمانية عند الطفل، ويربونه مؤمناً منذ الصغر، فانهم يصبون ركائز سعادته بذلك من جهة، ويكونون قد قاموا بأول واجباتهم في التربية من جهة أخرى.

*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج1، ص350-374.


 

1- بحار الأنوار ج 2:12.
2- تتمة المنتهى ص 84.
3- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 532 ط إيران.
4- لئالي الأخبار ص 192.
5- لئالي الأخبار ص 192.
6- لئالي الأخبار.
7- مجموعات ورام ج 1:220.
8- إنديشه هاي فرويد ص 116.
9- انديشه هاى فرويد ص 117.
10- انديشه هاى فرويد ص 96.
11- انديشه هاى فرويد ص 97.
12- انديشه هاى فرويد ص 117.
13- انديشه هاى فرويد ص 123.
14- انديشه هاى فرويد ص 125.
15- الكافي لثقة الاسلام الكليني ج 2:84.
16- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 1:6.
17- مقدمة كتاب حقوق دار إسلام. ص ج.
18- سرنوشت بشر ص 216.
19- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 15:94.
20- المصدر السابق ج 15:97.
21- وسائل الشيعة للحر العاملي ج 4:38.
22- بحار الانوار للعلامة المجلسي ج 15:82.
23- الكافي ج 2:14.
24- الكافي ج 2:15.
25- دع القلق وابدأ الحياة ص 159.
26- نفس المصدر 155.
27- دع القلق وابدأ الحياة ص 154.
28- لئالي الأخبار ص 305 الطبعة الحديثة.

2012-08-29