يتم التحميل...

صفات الله الثبوتية الفعلية (الصدق-الحكمة )

صفات وأسماء الخالق

إِتَّفق المسلمون والإِلهيون على أنَّ "الصادق" من أَسمائه، وأَن "الصّدقَ" من صفاته، وإِنِ اختلفوا في طريق البرهنة عليه. والمراد من صدقه كون كلامه منزهاً عن شَوْب الكذب. ولما كان المختار عندنا في "الكلام"أَنَّهُ من الصفات الفعلية، يكون الصدق في الكلام مثله. لأَنه إذا كان الموصوف بالصّدق من الصفات الفعلية...

عدد الزوار: 61

الصدق
إِتَّفق المسلمون والإِلهيون على أنَّ "الصادق" من أَسمائه، وأَن "الصّدقَ" من صفاته، وإِنِ اختلفوا في طريق البرهنة عليه. والمراد من صدقه كون كلامه منزهاً عن شَوْب الكذب. ولما كان المختار عندنا في "الكلام"أَنَّهُ من الصفات الفعلية، يكون الصدق في الكلام مثله. لأَنه إذا كان الموصوف بالصّدق من الصفات الفعلية وفعلا قائما بالله سبحانه، فوصفه أولى بأن يكون من تلك المقولة.

ويمكن الإِستدلال على صدقه بأن الكذب قبيح عقلا، وهو سبحانه منزه عما يعدّه العقل من القبائح. والبرهان مبني على كون الحُسن والقبح من الأمور التي يدركها العقل، وأَنَّه مع قطع النظر عن الطوارئ والعوارض، يحكم بكون شيء حسناً بالذات أو قبيحاً مثله. وهذا الأَصل هو الأمر المهم الذي فرّق المتكلمين إلى فرقتين.

فإذا أَخذنا بالجانب الإِيجابي في ناحية ذلك الأصل، كما هو الحق، يثبت كونه سبحانه صادقاً. ولكن الأَشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين يصفونه سبحانه بالصدق، مستدلين تارة بأَنَّ الكذب نقص،والنقص على الله تعالى محال. وأُخرى بأنَّ الشرع قد أَخبر عن كونه صادقاً وكلا الدليلين مخدوش جداً.

أما الأَول
: فلأنه لو قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين، يكون النقص محالا على الله سبحانه في ناحية الذات والفعل، فذاته منزهة عن النقص، وفعله "كالتكلم" وأَمّا إِذا أَنكرنا ذلك الأَصل فلا دليل على استحالة النقص على الله سبحانه في خصوص فعله وإِنْ كان طروء النقص على الذات محالا مطلقاً. ولأَجل ذلك جوّز الأَشاعرة الظلم عليه سبحانه، وهكذا سائر القبائح، وإنْ كانت لا تصدر عنه سبحانه لأَجل إِخباره بذلك.

وأما الثاني: فلأن ثبوت صدقه شرعاً يتوقف على صدق قول النبي ولا يثبت صدقه إلاّ بتصديق الله سبحانه، فلو توقف تصديقه سبحانه على تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لزم الدور.

ولأَجل ذلك يجب أَنْ يكون هناك دليل قاطع وراء الشرع والوحي على كونه سبحانه صادقاً لا يكذب.

وهناك دليل آخر، أَشار اليه بعض المعتزلة وحاصله أَنَّ كذبه ينافي مصلحة العالم، لأَنه إِذا جاز وقوع الكذب في كلامه تعالى ارتفع الوثوق بإخباره عن أحوال الآخرة، وفي ذلك فوات مصالح لا تحصى. والأَصلح واجب عليه تعالى لا يصح الإِخلال به. والمراد من كونه واجباً هو إِدراك العقل أنَّ موقفه سبحانه في ذلك المجال يقتضي اختيار الأَصلح وترك غيره1.

ولكن الدليل مبني على الأَصل المقرر عند العدلية من إِدراك العقل الحسنَ والقبْحَ، مع قطع النظر عن جميع الطوارئ والعوارض. فعند ذلك يدرك الأصلح والصالح، أو الصالح وغير الصالح، كما يدرك لزوم اختيار الأصلح والصالح على غيرهما. ولأجل ذلك لا يكون دليلا آخر.

هذا إِذا قلنا بأَنَّ كلامه من الصفات الفعلية. وأمَّا لو فسّرناه بالكلام النفسي "كما قالت الأَشاعرة" فقد عرفت أَنَّه لا يخرج عن اطار العلم والإِرادة والكراهة، فعندئذ يكون صدق كلامه بمعنى صدق علمه، ولا يمكن تفسير صدق العلم إِلاَّ بكونه مطابقاً للواقع. وأَمَّا صدق الإِرادة والكراهة فليس له فيهما معنى معقول. وعلى كل تقدير يكون الصدق عندهم "حينئذ" من الصفات الذّاتية لا الفعلية.

الحِكْمَةُ
إِنَّ الحكمة من صفاته سبحانه، كما أَنَّ الحكيم من أَسمائه وقد تواترت النصوص القرآنية بذلك، فقال سبحانه:

﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(النساء:26). مشعراً بأنَّ العلم غير الحكمة.

إِنَّ الحكمة تطلق على معنيين:أحدهما، كون الفعل في غاية الإِحكام والإِتقان، وغاية الإِتمام والإِكمال. وثانيها، كون الفاعل لا يفعل قبيحاً ولا يخلّ بواجب.

قال الرازي: في الحكيم وجود:

الأول: إِنه فعيل بمعنى مُفْعِل، كأليم بمعنى مُؤلم، ومعنى الإِحكام في حق الله تعالى في خلق الأَشياء، هو إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها ففيها ما لا يوصف بوثاقة البنية كالبقة والنملة وغيرهما، إلاّ أنَّ آثار التدبير فيها "وجهات الدلالات فيها على قدرة الصانع وعلمه" ليست بأَقل من دلالة السموات والأَرض والجبال على علم الصانع وقدرته. وكذا هذا في قوله: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيء خَلَقَهُ(السجدة:7). وليس المراد منه الحَسَن الرائق في المنظر، فإِنَّ ذلك مفقود في القرد والخنزير، وإِنما المراد منه حسن التدبير في وضع كل شيء موضعه بحسب المصلحة. وهو المراد بقوله:﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(الفرقان:2).

الثانى
:
إِنَّه عبارة عن كونه مقدّساً عن فعل ما لا ينبغي، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً(الفرقان:2).

وقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً(الفرقان:2)2

ونبحث فيما يلي عن كلا المعنيين واحداً بعد الآخر.

الحِكْمَةُ
الحكيم
: المتقن فعله


قد عَرَفْتَ أنَّ الحكيم يُطلق على الفاعل الذي يعمل بإتقان ويُقدّر ويُدبِّر باتّزان والله سبحانه حكيم بهذا المعنى.

وأوضحُ دليل على ذلك أنَّ فعله في غاية البداعة والإحكام والإِتقان فإِنَّ الناظر يرى أنَّ العالم خُلِقَ على نظام بديع، وأنَّ كل نوع خُلق بأَفضل صورة تناسبه، وجُهّز بكل ما يحتاج إليه من أَجهزة تهديه في حياته وتساعده على السير إلى الكمال. وإنْ شئت فانظر إلى الأَشياء المحيطة بك مما هو من مظاهر حِكْمِتِه تعالى.

فلاحظ العينَ مثلا فإِنَّ فيها ما يقرب من مائة وأربعين مليون مستقبل حساس للضوء تُسمَّى بالمخاريط والعصي، وطبقة المخاريط والعصي هذه واحدة من الطبقات العشر التي تشكل شَبَكيّة العين، ولا يتجاوز ثخانتها "بطبقاتها العشر" أربعة أَعشار المليمتر الواحد. ويخرج من العين نصف مليون ليف عصبي ينقل الصورة بشكل ملون!

وهذا القلب وهو مضخة الحياة التي لا تَكِلَّ عن العمل، فإِنه ينبض يومياً ما يزيد على مائة ألف مرة، يضخ خلالها ثمانية آلاف ليتر من الدم،و بمعدل وسطي يضخ ستة وخمسين مليون غالون على مدى حياة الإِنسان، فترى هل يستطيع محرك آخر القيام بمثل هذا العمل الشاق لمثل تلك الفترة الطويلة من دون حاجة لإِصلاح؟...

وأَمثال ذلك الكثير مما لا تستوعبه السطور بل ولا الزبر.

إنَّ معطيات العلوم الطبيعية عما في الكون أَفضلُ دليل على وجود الحكمة الإِلهية في الفَلَكيّات والأَرضيات. ولا نطيل الكلام في الحكمة بهذا المعنى، فإنها في الحقيقة من شعب القدرة التي استوفينا الكلام فيها. على أنَّه يمكن الإِستدلال على كونه حكيماً من وجهين آخرين غير ما مر:

الأول: إِنَّ إرادته سبحانه تعلقت بخلق كل شيء بأحسن نظام، وإِلاّ فإِنَّ صدور فعل خارج عن الإِتقان والإِحكام، إمَّا لأَجل جهل الفاعل بالنظام الصحيح، وإمّا لأَجل عجزه، وكلا العاملين منفيان عن ساحته، لسعة علمه لكلِّ شيء وسعة قدرته. فعدوله عن مقتضى العِلْم والقدرة الوسيعين يحتاج إلى دليل، وليس هو إلاّ كونه عابثاً ولاغياً، وسيوافيك فيما يأتي أَنَّه منزَّهٌ عن القبيح.

الثاني: إِنَّ أَثر كل فاعل يناسب واقع فاعله ومؤثره، فهو كالظل يناسب ذا الظل. فالفاعل الكامل من جميع الجهات يكون مصدراً لفعل كامل، وموجود متوازن أخْذاً بقاعدة مشابهة الظل لذي الظلّ.

الحكمة والإِتقان في الكتاب والسنة
إِنَّ توصيفه سبحانه بالحكمة بهذا المعنى ورد في الذكر الحكيم، قال سبحانه: ﴿آلر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيم خَبِير(هود:1).

وقد أشار الإِمام علي عليه السَّلام إلى الحكمة الإِلهية بمعنى الإِتقان والإِحكام بقوله:"قَدّر ما خَلَقْ فأحْكَمَ تقديرَه"3.

وقوله: "مُبْتَدِعِ الخلائِقِ بِعِلْمِهِ، ومُنْشئهم بحُكْمِهِ، بلا اقتِداء ولا تعليم ولا احتذاء لمِثالِ صانع حكيم"4.

ثم إِنَّ بعض المغرورين أثاروا شكوكاً حول حكمته تعالى، وسألوا عن فوائد الأمور التالية وهي:

1- الزائدة الدودِيّة.
2- اللوزتان.
3- ثديا الرجل.
4- صيوان الأذن.
5- الفضاء الوسيع.

ولكن هؤلاء اغتروا بما حصلوا عليه من علوم تجريبية، وتصوروا أَنهم أحاطوا بأسرار العالم، مع أَنَّ الواقعيين من العلماء يعترفون بضآلة علومهم وقلة اطلاعهم على سُنَن الكون ورُموزه. قال سبحانه:﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً(الأسراء:85).

وقال سبحانه:﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا(الروم:7).

هذا، مع أَنَّ العلم الحديث كشف عن الفوائد الجمة لهذه الأمور التي استشكل فيها هؤلاء المغرورون وزعموا أَنَّها مضادة لحكمته سبحانه5.

الحكيم: المنزَّه عن فعل ما لا ينبغي

إِنَّ المعنى الثاني للحكمة هو التَنَزُّه عن فعل ما لا ينبغي، وهي بهذا المعنى أَعمّ من العدل الذي نعرفه بعدَم الجور والظلم، وغيره. فالحكيم "بعبارة أخرى" هو الذي لا يفعل القبيح.

والتصديق بثبوت هذه الصفة للباري تعالى مبني على القول بالتحسين والتقبيح العقليين. فإِنَّ مفاد تلك المسألة أَنَّ هناك أَفعالا يدرك العقل كونها حسنة أو قبيحة، ويُدرك أَنَّ الغَنيّ بالذات مُنَزّه عن الإِتصاف بالقبيح، وفعل ما لا ينبغي.

وهذا هو الأَساس للحكم باتصافه تعالى بالحكمة والعدل وأَنه موجود لا يجور ولا يظلم ومن هنا يلزمنا البحث عن تلك المسألة على ضوء العقل والكتاب العزيز.

* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص221-231 .


1- شرح القوشجي، ص 320.
2- قد ذكر الرازي هنا معنى ثالثاً وهو أنَّ الحكمة عبارة عن معرفة أفضل المعلومات بأفضل العلوم، فالحكيم بمعنى العليم، قال الغزالي: وقد دللنا على أنَّه لا يعرف الله إلاّ الله، فيلزم أن يكون الحكيم الحق هو الله، لأنه يعلم أصل الأشياء، وهو (العلم بأصل الأشياء) أصل العلوم، وهو علمه الأزلي الدائم الذي لا يُتصور زواله، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها الخفاء ولا الشبهة2. أقول: وعلى المعنى الثالث تكون الحكمة من شعب علْمه.
3- نهج البلاغة، الخطبة 91.
4- نهج البلاغة، الخطبة 191.
5- لاحظ "الله خالق الكون" ص 370 - 378، تحت عنوان "الأعضاء الزائدة لماذا"؟.

2009-07-21