يتم التحميل...

صفات الله الثّبوتية الذاتية (الإرادة)

صفات وأسماء الخالق

إِنَّ الإِرادة من صفاته سبحانه، والمُريد من أَسمائه، ولا يشك في ذلك أَحد من الإِلهيين أَبداً. وإِنَّما اختلفوا في حقيقة إِرادته تعالى. ولأجل ذلك يجب علينا الخوض في مقامين: الأول: استعراض الآراء المطروحة في تفسير الإِرادة على وجه الإِطلاق.الثاني: تفسير خصوص الإِرادة الإِلهية.

عدد الزوار: 85

الإِرادة
إِنَّ الإِرادة من صفاته سبحانه، والمُريد من أَسمائه، ولا يشك في ذلك أَحد من الإِلهيين أَبداً. وإِنَّما اختلفوا في حقيقة إِرادته تعالى. ولأجل ذلك يجب علينا الخوض في مقامين

الأول: استعراض الآراء المطروحة في تفسير الإِرادة على وجه الإِطلاق.

الثاني:
تفسير خصوص الإِرادة الإِلهية.

1ـ ما هي حقيقة الإِرادة؟
إِنَّ الإِرادة والكراهة كيفيتان نفسانيّتان كسائر الكيفيات النفسانيّة، يجدهما الإِنسان بذاتهما بلا توسط شيء مثل اللذَّة والأَلم وغيرهما من الأمور الوجدانية. غير أنَّ الهدف تحليل ذلك الأَمر الوجداني تحليلا علمياً وصياغته في قالب علمي. وإليك الآراء المطروحة في هذا المجال.

أ - فسَّرت المعتزلة الإِرادة بـ "اعتقاد النَّفع" والكراهة بـ "اعتقاد الضرر"، قائلين بأَنَّ نسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك متساوية، فإِذا حصل في النفس الإِعتقاد بالنفع في أَحد الطرفين، يرجُح بسببه ذلك الطرف ويصير الفاعل مؤثرّاً فيه.

ويلاحظ عليه: أَنّه ناقص جداً، لأَن مجرد الإِعتقاد بالنفع لا يكون مبدأ للتأثير والفعل، إذ كثيراً ما يعتقد الإِنسان بوجود النفع في كثير من الأَفعال ولا يريدها، وربما لا يعتقد بوجوده فيها، بل يعتقد بوجود الضرر ومع ذلك يريدها لموافقتها لبعض القوى الحيوانية.

ب - فسرت جماعة أخرى الإِرادة بأَنها شوق نفساني يحصل في الإِنسان تلو اعتقاده النفع.

ويلاحظ عليه: أَنَّ تفسير الإِرادة بالشوق ناقص جداً إِذ ربما تتحقق الإِرادة ولا يكون ثمَّة شوقٌ كما في تناول الأَدوية المُرَّة لأَجل العلاج. وقد يتحقق الشوق المؤكَّد ولا تكون هناك إِرادة موجدة للفعل كما في المحرَّمات والمشتَهَيَات المحظورة للرجل المتقي.

ولأَجل ذلك صارت النسبة بين الإِرادة والشوق عموماً وخصوصاً من وجه.

ج - الإِرادة كيفية نفسانيّة متخللة بين العلم الجازم والفعل ويعبر عنها بالقصد والعزم تارة، وبالإِجماع والتصميم أخرى. وليس ذلك القصد من مقولة الشوق بقسميه المؤكَّد وغير المؤكَّد، كما أَنَّه ليس من مقولة العلم رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيّات النفسانيّة.

وباختصار، حقيقة الإِرادة "القصد والميل القاطع نحو الفعل". هذه بعض التفاسير المختلفة حول حقيقة الإِرادة وهناك نظريات أُخرى طوينا عنها الكلام.

وعلى كل تقدير، لا يمكن تفسير الإِرادة الإِلهية بواحدة منها، أما أوّلُها فقد عرفت أنَّ تفسير الإِرادة باعتقاد النفع ملازم لإِنكار الإِرادة مطلقاً في الموجودات الإِمكانية فضلا عن الله سبحانه وذلك لأَنَّ مرجعها إلى العلم بالنفع، مع أنَّا نجد في أَنفسنا شيئاً وراء العلم والإِعتقاد بالنفع، والقائل بهذه النظرية يثبت العلم وينكر الإِرادة. فإِذا بطل تفسير الإِرادة بالإِعتقاد بالنفع في الموجودات الإِمكانية يبطل تفسير إرادته سبحانه به أيضاً. وسيوافيك أنَّ من يفسّر إِرادة الله سبحانه بالعلم بالأَصْلَح، متأثر من هذا التفسير، غير أَنَّه بدّل العلم بالنفع "الظاهر في النفع الشخصي" إلى العلم بالأَصْلَح اللائق بحاله سبحانه، الهادف إلى مصالح العباد، فانتظر.

وأَما التفسير الثاني، أَعني الشوق أو خصوص الشوق المؤكد، فلو صح في الإِنسان فلا يصح في الله سبحانه، لأَن الشوق من مقولة الإِنفعال تعالى عنه سبحانه. فإِنَّ الشوق إلى الشيء شأن الفاعل الناقص الذي يريد الخروج من النقص إلى الكمال، فيشتاق إلى الشيء شوقاً أكيداً.

وأما التفسير الثالث، فسواء أفسرت بالقصد والعزم، أو الإِجماع والتصميم، فحقيقتها الحدوث بعد العدم، والوجود بعد اللاوجود وهي بهذا المعنى يستحيل أن تقع وصفاً لذاته لاستلزامه كون ذاته معرضاً للحوادث.

ولأَجل عدم مناسبة هذه التعاريف لذاته سبحانه، صار المتألهون على طائفتين: طائفة تحاول جعلها من صفات الذات لكن بمعنى آخر، وطائفة تجعلها من صفات الفعل فتذهب إلى أنَّ الإِرادة كالخلق والرزق تنتزع من فعله سبحانه وإعمال قدرته وهذه الطائفة أراحت نفسها من الإِشكالات الواردة على كونها من الصفات الذاتية. وإليك الكلام حول نظريات هاتين الطائفتين.

2ـ تفسير خصوص الإِرادة الإِلهية
لما كانت الإرادة بالمعاني المتقدمة غير مناسبة لساحته سبحانه، ومن جانب آخر إِنَّ الإِرادة وكون الفاعل فاعلا مريداً - في مقابل كونه فاعلا مضّطراً - كمال فيه، وعدمها يعد نقصاً فيه، حاول الحكماء والمحققون توصيفه سبحانه بها بمعنى يصح حملُه عليه وتوصيفُه به. وإِليك تفسير هذه المحاولة بصور مختلفة.

أ - إرادته سبحانه علمُه بالنظام الأَصلح
إنَّ إرادَته سبحانه علمُه بالنظام الأَصلح والأَكمل والأَتم. وإِنما فسّروها بها فراراً من توصيفه سبحانه بأمر حدوثي وتدرُّجي، وما يستلزم الفعل والإِنفعال، كما هو الحال في الإِرادة الإِنسانية.

قال صَدْر المتأَلهين: "معنى كونه مريداً أَنَّه سبحانه يَعْقِل ذاتَه ويعقِلُ نظامَ الخَيْر الموجود في الكُلَّ من ذاته، وأَنَّه كيف يكون. وذلك النظام يكون لا محالة كائناً ومستفيضاً"1.

وقال أيضاً: "إِنَّ إرادته سبحانه بعينها هي علمه بالنظام الأَتم، وهو بعينه هو الداعي لا أمرٌ آخر"2.

وقال المحقق الطوسي: "إِنَّ إرادته سبحانه هي العلم بنظام الكلُ على الوجه الأَتم، وإِذا كانت القدرة والعلم شيئاً واحداً، مقتضياً لوجود الممكنات على النظام الأَكمل كانت القدرة والعلم والإِرادة شيئاً واحداً في ذاته مختلفاً بالإِعتبارات العقلية"3.
 
مناقشة هذه النظرية
لا شك أَنَّه سبحانه عالم بذاته وعالم بالنظام الأَكمل والأَتَمّ والأَصلح ولكن تفسير الإِرادة به، يرجع إلى إِنكار حقيقة الإِرادة فيه سبحانه. فإِنكارها في مرتبة الذات مساوق لإِنكار كمال فيه، إذ لا ريب أَنَّ الفاعل المريد أَكمل من الفاعل غير المريد، فلو فسّرنا إِرادته سبحانه بعلمه بالنظام، فقد نفينا ذلك الكمال عنه وعرَّفناه فاعلا يشبه الفاعل المضطر في فعله. وبذلك يظهر النظر فيما أفاده المحقق الطوسي حيث تصورَّ أَنَّ القدرة والعلم شيء واحد بذاته مختلفان بالإِعتبارات العقلية. ولأَجل عدم صحة هذا التفسير نرى أَنَّ ائمة أَهل البيت عليهم السَّلام ينكرون تفسيرها بالعلم. قال بُكَيْر بن أعْيَن: قلت لأبي عبدالله الصادق عليه السَّلام: علمه ومشيئته مختلفان أَو متّفقان؟

فقال عليه السَّلام: "العلم ليس هو المشيئة، ألاترى أَنك تقول سأفعل كذا إنْ شاءَ الله، ولا تقول سأفعل كذا إِنْ عَلِمَ الله"4.

وإنْ شئت قلت: إِنَّ الإِرادة صفة مخصِّصة لأحد المقدوريْن أَي الفعل والترك، وهي مغايرة للعلم والقدرة. أمّا القدرة، فخاصيّتُها صحة الإِيجاد واللاإيجاد، وذلك بالنسبة إلى جميع الأَوقات وإلى طرفي الفعل والتَّرك على السواء، فلا تكون نفسُ الإِرادة التي من شأنها تخصيص أَحد الطرفين وإِخراج القدرة عن كونها متساوية بالنسبة إلى الطرفين.

وأَما العلم فهو من المبادئ البعيدة للإِرادة، والإِرادة من المبادئ القريبة إلى الفعل، فلا معنى لعدِّهما شيئاً واحداً.

نعم، كون علمه بالمصالح والمفاسد مخصصاً لأَحد الطرفين، وإِنْ كان أَمراً معقولا، لكن لا يصح تسميتُه إِرادةً وإِن اشترك مع الإِرادة في النتيجة وهي تخصيص الفاعل قدرته بأَحد الطرفين، إِذ الإِشتراك في النتيجة لا يوجب أنْ يقوم العلم مقام الإِرادة ويكون كافياً عن توصيفه بذلك الكمال أَي الإِرادة.

سؤال وجواب
ربما يقال: لماذا لا تكون حقيقة الإِرادة نفس علمه سبحانه؟ إذ لو كانت واقعية الأَول غير واقعية الثاني للزمت الكثرة في ذاته سبحانه. والكثرة آية التركيب، والتركيب يلازم الإِمكان، لضرورة احتياج الكُلِّ إلى الأَجزاء، وهو تعالى منزه عن كل ذلك.

والجواب: إِنَّ معنى اتحاد الصفات بعضها مع بعض، والكل مع الذات، أن ذاته سبحانه علم كلها، قدرة كلها، حياة كلها وأَن تلك الصفات بواقعياتها، موجودة فيها على نحو البساطة، وليس بعضها حياة وبعضها الآخر علماً، وبعضها الثالث قدرة، لاستلزام ذلك التركيب في الذات. ولا يُراد من ذلك إِرجاع واقعية إِحدى الصفات إلى الأُخرى بأَنْ يقال مثلا: علمه قدرته. فإِنَّ مردّ ذلك إلى إِنكار جميع الصفات وإِثبات صفة واحدة.

وباختصار إِنَّ هناك واقعية واحدة بحتة وبسيطة اجتمع فيها العلم والحياة والقدرة بواقعياتها من دون أنْ يحدث في الذات تكثر وتركّب. وهذا غير القول بأنَّ واقعية إِرادته هي واقعية علمه، ليلزم من ذلك نفي واقعية الإِرادة والمشيئة. فإنَّ مرد ذلك إلى نفي الإِرادة. كما أَنَّ القول بأَنَّ واقعية قدرته ترجع إلى علمه مردّه إلى نفي القدرة لا إِثبات الوحدة ولتوضيح المطلب نقول:

إنَّه يمكن أن تنتزع مفاهيم كثيرة من الشيء البسيط ويكون لكل مفهوم واقعية فيه من دون طروء التكثّر والتركُّب. وذلك مثل الإِنسان الخارجي بالنسبة إلى الله سبحانه، فهو كله مقدور لله، كما أنَّ كلّه معلوم لله. لا أنَّ بعضاً منه مقدور، وبعضاً منه معلوم. فالكل مقدور، وفي الوقت نفسه معلوم. ومع ذلك ليست واقعية المعلوميّة نفس واقعية المقدوريّة.

وبهذا تقدر على تجويز أن تكون ذاتُه سبحانه علماً كلُّها، وقدرةً كلُّها، ويكون لكل وصف واقعية من دون طروء الكثرة والتركب.

ب - إرادته سبحانه ابتهاجُهُ بفعِلِه
إِنَّ إِرادته سبحانه ابتهاجُ ذاته المقدسة بفعلها ورضاها به. وذلك لأَنه لما كانت ذاته سبحانه صرف الخير وتمامه، فهو مبتهج بذاته أتَمَّ الإِبتهاج وينبعث من الإِبتهاج الذاتي ابتهاج في مرحلة الفعل، فإِنَّ من أَحبَّ شيئاً أَحب آثاره ولوازمه وهذه المحبة الفعلية هي الإِرادة في مرحلة الفعل، وهي الّتي وردت في الأَخبار الّتي جعلت الإرادة من صفات فعله. فللإِرادة مرحلتان: إِرادة في مقام الذات، وإِرادة في مقام الفعل: فابتهاجه الذاتي إِرادة ذاتية، ورضاه بفعله إِرادة في مقام الفعل.

يلاحظ عليه: إِنَّ هذه النظرية كسابقتها لا ترجع إلى محصّل. فإِنَّ حقيقة الإِرادة غير حقيقة الرضا، وغير حقيقة الإِبتهاج. وتفسير أَحدهما بالآخر إِنكار لهذا الكمال في ذاته سبحانه. وقد مرّ أَنَّ كون الفاعل مريداً، في مقابل كونه فاعلا مضطراً موجباً، أَفضل وأَكمل. فلا يمكن نفي هذا الكمال عن ذاته على الإِطلاق، بل يجب توصيفها بها على التطوير الخاص الذي مرّ مثله في تفسير الحياة، وسيوافيك بيانه في هذا الباب.

ج - إِرادته سبحانه إِعمال القدرة والسلطنة
إِنَّ جماعة من المتكلمين لما وقفوا على أَنَّه لا يمكن توصيفه سبحانه بالإِرادة وجعلها من صفات ذاته لاستلزامه بعض الإِشكالات التي مرت عليك، عمدوا إلى جعلها من صفات الفعل كالخالقية والرازقية. قالوا: "إِنَّا لا نتصور لإِرادته تعالى معنى غير إِعمال القدرة والسلطَنَة، ولما كانت سلطنته تعالى تامة من جميع الجهات والنواحي، ولا يتصور النقص فيها أَبداً، فبطبيعة الحال يتحقق الفعل في الخارج ويوجد صِرْفُ إِعمال القدرة من دون توقفه على أيّة مقدمة أخرى، كما هو مقتضى قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(يس:82 ).

يلاحظ عليه: إِنَّ إعمال القدرة والسلطنة إِما إِختياريُّ له سبحانه أو اضطراريٌّ، ولا سبيل إلى الثاني لأَنه يستلزم أنْ يكون تعالى فاعلا مضطراً ولا يصح توصيفه بالقدرة ولا تسميته بالقادر. وعلى الأَول، فما هو مِلاك كونه فاعلا مختاراً؟. لا بد أن يكون هناك قبل إعمال السلطنة وتنفيذ القدرة شيءٌ يدور عليه كونه فاعلا مختاراً، فلا يصح الأَكتفاء بإِعمال القدرة.

وباختصار، إِنَّ الإِكتِفاء بإِعمال القدرة من دون إِثبات اختيار له في مقام الذات بنحو من الأَنحاء، غير مفيد.

د - إرادته سبحانه نسبة تمامية السبب إلى الفعل
جعل العلامة الطباطبائي إرادته تعالى من صفات فعله، وحاصل نظريته: إنَّ الصفة الوحيدة من بين الصفات النفسانية التي يجدها الإِنسان في صميم ذاته، القابلة للإِنطباق على عنوان "الإِرادة"، هي صفة "القصد".

و"القصد" الذي هو واسطة بين العلم بالفعل وتحققه، عبارة عن الميل النفسي للفاعل إلى الإِتيان بالفعل.

ولا يصح أبداً تفسير الإِرادة بصفة العلم. لأننا ندرك بالوجدان أنّ ارادتنا متوسطة بين علمنا بالفعل والاتيان به، لا نفس العلم.

وعلى هذا، فإذا أردنا توصيفه تعالى بالإِرادة "بعد تجريدها من النقائص" لا يمكننا تطبيقها على علمه تعالى، لأن ماهية وحقيقة العلم غير ماهية الإِرادة.

وتجريد الإِرادة عن النقائص لا يجعلها متحدة مع العلم حقيقة.

ثم إن الإِرادة "بعد تجريدها من النقائص" تكون صفة فعلية لله تعالى، كصفات الخلق والإِيجاد والرحمة.

بيان ذلك: عندما تكتمل جميع مقدمات وأسباب إيجاد الفعل، تنتزع عند ذاك صفة الإِرادة، فيكون تعالى "مريداً"، والفعل "مراداً"، من دون أن تكون هناك واقعية ما بإزاء صفة الإِرادة سوى حالة تمامية الأسباب.

وبعبارة أُخرى: الإِرادة في الله تعالى صفة منتزعة من اجتماع علل ومقتضيات وجود الشيء. إذا عند ذاك، تارة ينسب اكتمال مقدمات الفعل وتماميتها إلى الفعل، وأخرى ينسب إلى الله تعالى. فإذا نسب إلى الفعل سميت هذه الحالة (اكتمال المقدمات): "إرادة الفعل"، ونفس الفعل: "مراد الله". وإذا نسب إلى الله تعالى سميت هذه الحالة: "إرادة الله"، والله تعالى: "مريداً".

ويقول العلامة قدس سره: إن البراهين التي أقامها الحكماء لإِثبات كون الإِرادة إحدى صفات الذات، لا تثبت أزيد من أن جميع مظاهر الوجود مستندة إلى قدرته تعالى وعلمه بالنظام الأَصلح، ولا تثبت أن إرادته تعالى عين علمه أو قدرته.

يلاحظ عليه: إِنَّه لو كان الملاك لإِطلاق الإِرادة هو تماميّة الفعل من حيث السَّبب، يلزم صحة إِطلاقها فيما إِذا كان الفاعل المضطر تاماً في سببيَّته، وهو كما ترى.

أَضف إلى ذلك أنَّ تمامية السبب فيما إِذا كان الفاعل عالماً وشاعراً، حقيقةٌ، والإِرادةُ حقيقةٌ أُخرى. وقد قلنا إِنَّه يجب إِجراء الصفات على الله سبحانه بعد التجريد عن شوائب الإِمكان والمادية، مع التَّحفُّظ على معناها، لا سَلْخها عن حقيقتها وواقعيتها.

هـ - الحق في الموضوع
الحق أنَّ الإِرادة من الصفات الذاتية وتجري عليه سبحانه على التطوير الذي ذكرناه في "الحياة" ولأَجل توضيح المطلب نأتي بكلمة مفيدة في جميع صفاته سبحانه وهي:

يجب على كل إلهي "في إجراء صفاته سبحانه عليه" تجريدها من شوائب النقص وسمات الإِمكان، وحملها عليه بالمعنى الذي يليق بساحته مع التحفظ على حقيقتها وواقعيتها حتى بعد التجريد.

مثلا، إنّا نصفه سبحانه بالعلم، ونُجريه عليه مُجَرَّداً عن الخصوصيات والحدود الإِمكانية ولكن مع التحفّظ على واقعيته، وهو حضور المعلوم لدى العالم. وأما كَونُ علمه كَيْفاً نفسانيِاً أو إضافةً بين العالِم والمعلوم، فهو مُنَزّه عن هذه الخصوصيات. ومثل ذلك الإِرادة، فلا شك أنها وصف كمال له سبحانه، وتجري عليه سبحانه مجرّدة عن سِمات الحدوث والطُروء والتَدرّج والانقضاء بعد حصول المراد، فإنَّ ذلك كلَّه من خصائص الإِرادة الإِمكانية. وإنما يُراد من توصيفه بالإِرادة كونه فاعلا مختاراً في مقابل كونه فاعلا مضطراً. وهذا هو الأصل المُتّبع في إجراء صفاته سبحانه وإليك توضيحه في مورد الإِرادة:

إِنَّ الفاعل إمّا أنْ يكون مؤثّراً بِطَبْعِه غيرَ عالم بفعله، وهو الفاعل الطبيعي، كالنار بالنسبة إلى الإِحراق. وإِمَّا أن يكون عالماً بفعله غير مُريد له فيصدر منه الفعل عن شعور بلا إرادة كرعشة المرتعش. وإما أن يكون عالماً مريداً عن كراهة لمراده وإنما أراده لأجل أنَّه أقل الخطيرن وأضعف الضررين، كما في الفاعل المكره. وإمّا أن يكون عالماً مريداً لكن لا عن كراهة بل عن رضا بفعله وهو الفاعل المريد الراضي بفعله. والقسمان الأخيران وإن كانا يشتركان في كون الفاعل فيهما مريداً لكن لمّا كان الفاعل في القسم الأول منهما مقهوراً بعامل خارجي، لا يُعد فعله مظهر للإِختيار التام، بخلاف الثاني فالفاعل فيه فاعل مختار تام وفعله مَجْلىً للإِختيار.

وهذا الحصر الحقيقي الذي يدور بين النفي والإِثبات يجرّنا إلى القول بأنَّ فاعليته سبحانه بأحد الوجوه الأربعة:

إمَّا أن يكون فاعلا فاقداً للعلم، أو يكون عالماً فاقداً للإِرادة، أو يكون عالماً ومريداً ولكن عن كراهة لفعله لأجل إحاطة قدرة قاهرة عليه، أو يكون عالماً ومريداً راضياً بفعله. وفاعلية الباري سبحانه غير خارجة عن إحدى هذه الوجوه. والثلاثة الأَول غير لائقة بساحته سبحانه فتعيّن كونه فاعلا مريداً مالكاً لزمام فعله وعمله، ولا يكون مقهوراً في الإِيجاد والخلق. هذا من جانب.

ومن جانب آخر إنَّ الإِرادة في المراتب الإِمكانية لا تنفك عن الحدوث والتدرّج والانقضاء بعد حصول المراد، ومن المعلوم إِنَّ إجراءها بهذه السِمات على الله سبحانه، محال لاستلزامه طروء الحدوث على ذاته. فيجب علينا في إجرائها عليه سبحانه حذف هذه الشوائب، فيكون المراد من إرادته حينئذ اختياره وعدم كونه مضطراً في فعله ومجبوراً بقدرة قاهرة.

فلو صح تسمية هذا الإِختيار بالإِرادة فنعم المراد، وإلاّ وجب القول بكونها من صفات الفعل.

وبعبارة أُخرى: إِنَّ الإِرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة منقضية بعد حدوث المراد، وإنما هي صفة كمال لكونها رمز الإِختيار وسِمَةَ عدم المَقْهُوريّة حتى إن الفاعل المريد المُكْرهَ له قِسْط من الإِختيار، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقلية فيرجح الفعل على الضرر المتوعد به. فإِذا كان الهدف والغاية من توصيف الفاعل بالإِرادة هو إثبات الإِختيار وعدم المقهوريّة فتوصيفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه، غير مجبور في إعمال قدرته، كاف في جري الإِرادة عليه، لأن المختار واجد لكمال الإِرادة على النحو الأتم والأكمل. وقد مرّ أنه يلزم في إجراء الصفات ترك المبادي والأخذ بجهة الكمال، فكمال الإِرادة ليس في كونها طارئة زائلة عند حدوث المراد أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوة إلى الفعل أو من النقص إلى الكمال. بل كمالها في كون صاحبها مختاراً، مالكاً لفعله آخذاً بزمام عمله، فلو كان هذا هو كمال الإِرادة، فالله سبحانه واجد له على النحو الأكمل إذْ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه، ﴿وَالله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ(يوسف:21).

الإِرادة في السُنَّة
يظهر من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السَّلام أنَّ مشيئته وإرادته من صفات فعله، كالرازقيّة والخالقيّة، وإليك نُبَذاً من هذه الروايات:

1ـ روى عاصِم بن حُمَيْد عن أبي عبدالله عليه السَّلام قال: "قلت: لم يَزَل الله مريداً؟. قال: إِنَّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه. لم يزل الله عالماً قادراً، ثم أراد"5.

يبدو أنَّ الإِرادة التي كانت في ذهن الراوي وسأل عنها الارادة بمعنى العزم على الفعل، الذي لا ينفك غالباً عن الفعل. فأراد الإِمام هدايته إلى أنَّ الإِرادة بهذا المعنى لا يمكن أن تكون من أوصافه الذاتية، لأنه يستلزم قدم المراد أو حدوث المريد. ولأجل أن يتلقى الراوي معنى صحيحاً للإِرادة، يناسب مستوى تفكيره، فَسّر عليه السَّلام الإِرادة بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل وقال: "لم يزل الله عالماً قادراً ثم أراد" أي ثم خلق. ولكن ما جاءت به الرواية لا ينفي أن تكون الإِرادة من أوصافه الذاتية بشكل لا يستلزم قدم المراد، وهو كونه سبحانه مختاراً بالذات غير مضطر ولا مجبور.

وبذلك ظهر أنَّ لإِرادته سبحانه مرحلتان كعلمه، ولكل تفسيره الخاص.

2ـ روى صَفْوان بن يَحيى قال: قلت لأبي الحسن عليه السَّلام: "أخْبِرْني عن الإِرادة من الله، ومن الخلق".

قال: فقال عليه السَّلام: "الإِرادة من الخلق الضمير، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله تعالى فإِرادته، إحداثه لا غير ذلك، لأنه لا يُروّي ولا يَهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفية عنه، وهي صفات الخلق. فإِرادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون، بلا لفظ، ولا نُطْق بلسان، ولا هِمَّة، ولا تَفَكُّر ولا كَيْف لذلك، كما أنَّه لا كَيْف له"6.

وهذه الرواية تتحد مع سابقتها في التفسير والتحليل. فالإِرادة التي كان البحث يدور عليها بين الإِمام والراوي هي الإِرادة بمعنى "الضمير وما يبدو للمريد بعد الضمير من الفعل". ومن المعلوم أنَّ الإِرادة بهذا المعنى سمة الحدوث، وآية الإِمكان، ولا يصح توصيفه سبحانه به. ولأجل ذلك ركّز الإِمام على نفيها بهذا المعنى عن الباري، فقال: "لأنه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر".

ولكن لأجل أن يتلقى الراوي مفهوماً صحيحاً عن الإِرادة يناسب مستوى عقليّته فسّر الإِمام الإِرادة، بالإِرادة الفعليّة، فقال: "فإِرادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون...". فمع ملاحظة هذه الجهات لا يصح لنا أن نقول إنَّ الإِمام بصدد نفي كون الإِرادة من صفات الذات، حتى بالمعنى المناسب لساحة قدسه سبحانه.

3ـ روى محمد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه السَّلام قال: "المشيئة مُحْدَثَة"7.

والهدف من توصيف مشيئته سبحانه بالحدوث هو إبعاد ذهن الراوي عن تفسيرها بالعزم على الفعل وجعلها وصفاً للذّات، فإنَّ تفسير الإِرادة بهذا المعنى لا يخلو عن مفاسد، منها كون المُراد قديماً. فلأجل ذلك فسّر الإِمام الإِرادة بأحد معنييها وهو الإِرادة في مقام الفعل وقال: "المشيئة مُحَدَثَة"، كناية عن حدوث فعله وعدمِ قدمه.

وبذلك تقدر على تفسير ما ورد حول الإِرادة من الروايات التي تركز على كونها وصفاً لفعله سبحانه.

ثم إِنَّ ها هنا أسئلة حول كون إرادته سبحانه من صفاته الذاتية، وأنت بعد الإِحاطة بما ذكرنا تقدر على الإِجابة عنها. وإليك بعض تلك الأسئلة:

1ـ إِنَّ الميزان في تمييز الصفات الذاتيّة عن الصفات الفعلية - كما ذكره الشيخ الكليني في ذيل باب الإِرادة - هو أنَّ الأُولى لا تدخل في إطار النفي والإِثبات بل تكون أحادية التعلق، فلا يقال إنَّ الله يعلم ولا يعلم، بخلاف الثانية فإنها تقع تحت دائرة النفي والإِثبات فيقال إِنَّ الله يُعطي ولا يعطي. فعلى ضوء هذا، يجب أن تكون الإِرادة من صفات الفعل إذ هي مما يتوارد عليها النفي والإِثبات. يقول سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ(البقرة:185).

والجواب عن هذا السؤال بوجهين:

أحدهما: إِنَّ الإِرادة التي يتوارد عليها النفي والإِثبات هي الإِرادة في مقام الفعل، وأما الإِرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإِرادة وهو الإِختيار، فلا تقع في إطار النفي والإِثبات.

وثانيهما: ما أجاب به صدر المتألهين معتقداً بأنَّ لله سبحانه إرادةً بسيطةً مجهولةَ الكُنه وأن الذي يتوارد عليه النفي والإِثبات، الإِرادة العددية الجزئية المتحققة في مقام الفعل. وأما أصل الإِرادة البسيطة، وكونه سبحانه فاعلا عن إرادة لا عن اضطرار وإيجاب، فلا يجوز سلبه عن الله سبحانه. وأنَّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإِرادة البسيطة في مقام الذات، الّتي لا تتعدد ولا تتثنى، وبين الإرادة العددية المتحققة في مقام الفعل التي تتعدد وتتثنى ويرد عليها النفي والإِثبات.

قال: "فرق بين الإِرادة التفصيليّة العددية التي يقع تعلّقها بجُزْئِيٍّ من أعداد طبيعة واحدة أو بكل واحد من طَرَفَيْ المقدور كما في القادرين من الحيوانات، وبين الإِرادة البسيطة الحقّة الإِلهية التي يَكِلّ عن إدراكها عقول أكثر الحكماء فضلا عن غيرهم"8.

2ـ لو كانت الإِرادة نفس ذاته سبحانه لزم قدم العالم، لأَنَّها متحدة مع الذات، والذات موصوفة بها، وهي لا تنفك عن المراد.

يلاحظ عليه:
أولا:
إنَّ الإِشكال لا يختص بمن جعل الإِرادة بمعناها الحقيقي وصفاً لذاته سبحانه، بل الإِشكال يتوجه أيضاً على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتمّ الذي هو عَيْن ذاته، واستحالة انفكاك المعلول عن العلّة أمر بَيِّن من غير فرق بين تَسْمِيَة هذا العلم إرادة أو غيرها، فلو كان النظام الأصلح معلولا لعلمه، والمفروض أنَّ علمه قديم، للزم قدم النظام لقدم علّته.

وثانياً:
إذا قلنا بأنَّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختاراً غير ملزم بواحد من الطرفين، لا يلزم عندئذ قِدَم العالم إذا اختار إيجاد العالم متأخراً عن ذاته.

وثالثاً:
إِنَّ لصدر المتألهين ومن حذا حذوه من الاعتقاد بالإِرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكُنْه، أنْ يجيب بأنَّ جهْلَنا بحقيقة هذه الإِرادة وكيفيّة إعمالها يصُدّنا عن البحث عن كيفية صدور فعله عنه وأنَّه لماذا خلق حادثاً ولم يخلق قديماً.

وها هنا نكتة نعلقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر وهو أنَّ الزمان كمٌّ مُتّصل يُنتزع من حَرَكة الشيء وتغيّره من حال إلى حال ومن مكان إلى مكان ومن صورة نوعية إلى أخرى، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان، ولولا المادة وحركتها لما كان للزمان مفهومٌ حقيقيٌ بل مفهوم وهمي.

هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان والحركة. وقد كان القدماء يزعمون أنَّ الزمان يتولد من حركة الأفلاك والنيّرين وغير ذلك من الكواكب السيارة، ولكن الحقيقة أَنَّ كل حركة حليفة الزمان وراسمته ومولدته.

وبعبارة ادقّ: إِنَّ التبدّلات عنصرية كانت أو أثيرية، مشتملة على أمرين: الأول، حالة الانتقال من المبداً إلى المنتهى، سواء أكان الإِنتقال في الوصف أم في الذات. الثاني، كَوْن ذلك الانتقال على وجه التدريج والسيلان لا على نحو دَفْعي.

فباعتبار الأمر الأول تُوصف بالحركة، وباعتبار الثاني تُوصف بالزمان.

فكأنَّ شيئاً واحداً باسم التغير والتبدل والإِنتقال، يكون مبدءً لانتزاع مفهومين منه، لكن كل باعتبار خاص، هذا من جانب.

ومن جانب آخر، إِنَّ المادة تتحقق على نحو التدريج والتجزئة ولا يصح وقوعها بنحو جمعي، لأن حقيقتها حقيقة سيّالة متدرجة أشبه بسيلان الماء، فكل ظاهرة ماديّة تتحقق تلو سبب خاص، وما هذا حاله يستحيل عليه التحققق الجمعي أو تقدم جزء منه أو تأخره بل لا مناص عن تحقُّق كل جزء في ظرفه وموطنه، وبهذا الاعتبار تشبه الأرقام والأعداد، فالعدد "خمسة" ليس له موطن إلاّ الوقوع بين "الأربعة والستة". وتقدمه على موطنه كتأخره عنه مستحيل. وعلى ذلك فالأسباب والمسببات المترتبة بنظام خاص يستحيل عليها خروج أي جز من أجزائها عن موطنه ومحله.

إذا عرفت هذا الأمر نرجع إلى بيان النكتة وهي: ماذا يريد القائل من قوله لو كانت الإِرادة صفة ذاتية لله سبحانه يلزم قدم العالم؟. فإن أراد أنَّه يلزم تحقق العالم في زمان قبله وفي فترة ماضية، فهذا ساقط بحكم المطلب الأول، لأنَّ المفروض أنَّه لازمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنَّ حركة المادة ترسم الزمان وتولده.

وإن أراد لزوم تقديم بعض أجزائه على البعض الآخر أو على مجموع العالم فقد عرفت استحالته، فإِنَّ إخراج كل جزء عن إطاره أمرٌ مستحيل مستلزم لا نعدامه.

ثم إِنَّ لصدر المتألهين في هذا المقام كلاماً عميقاً فمن أراد الإِطلاع فليرجع إليه9.


* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص165-181.


1- الأسفار الأربعة، ج 6، ص 316.
2- المصدر السابق، ص 333.
3- المصدر نفسه، ص 331.
4- الكافي، ج 1، ص 109، باب الإِرادة.
5- الكافي ج 1، باب الإِرادة، ص 109، الحديث الأول.
6- المصدر السابق، الحديث 3.
7- الكافي، ج 1، باب الإِرادة، الحديث 7.
8- الاسفار، ج 6، ص 324.
9- لأسفار، ج 6، ص 368.

2009-07-21