يتم التحميل...

عبادة الإمام الباقر عليه السلام

الهوية والسيرة

الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام من الأئمة المتقين في الإسلام عرف الله سبحانه وتعالى عن طريق آبائه المعصومين وأجداده المطهرين معرفة يقينية استوعب دخائل نفسه، فأقبل على ربه، فاطر السماوات والأرض بقلب منيب

عدد الزوار: 284

الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام من الأئمة المتقين في الإسلام عرف الله سبحانه وتعالى عن طريق آبائه المعصومين وأجداده المطهرين معرفة يقينية استوعب دخائل نفسه، فأقبل على ربه، فاطر السماوات والأرض بقلب منيب وإخلاص شديد وطاعة تامة. أما مظاهر عبادته:

1ـ خشوعه في صلاته:
روى المؤرخون أنه كان إذا أقبل على الصلاة اصفر لونه خوفاً من الله عز وجل وخشية منه، وهو كأبيه الإمام السجاد في ورعه وتقاه وتحرّجه في الدين. لقد عرف عظمة الله تعالى، خالق الكون وواهب الحياة معرفة النبيين والمتقين.

2ـ كثرة صلاته:
يقول الرواة إنه كان كثير الصلاة كثير الدعاء، كان يصلي في اليوم والليلة مائة وخمسين ركعة. ولم تشغله مرجعيته العامة للأمة وشؤونه العلمية عن كثرة الصلاة، كانت الصلاة بالنسبة إليه أعز شيء عنده وقرة عينه لأنها الصلة بينه وبين الله عز وجل.

3ـ دعاؤه في سجوده:
قال تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وجاء في الحديث الشريف: أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد. كان الإمام عليه السلام يتجه بقلبه وعقله نحو الله، رب العالمين، ليناجيه بانقطاع تام وإخلاص شفاف. وقد أثرت عنه بعض الأدعية.

رووا عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: كنت أمهد لأبي فراشه فأنتظره حتى يأتي، فإذا آوى إلى فراشه ونام قمت إلى فراشي. وقد أبطأ علي ذات ليلة فأتيت المسجد في طلبه وذلك بعدما هدأ الناس، فإذا هو في المسجد ساجد، وليس في المسجد غيره فسمعت حنينه وهو يقول:

سبحانك اللهم، أنت ربي حقاً حقاً، سجدت لك يا ربي تعبداً ورقاً، اللهم إن عملي ضعيف فضاعفه لي.. اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.

وما رواه أبو عبيدة الحذاء قال: سمعت أبا جعفر يقول: وهو ساجد في السجدة الأولى:

أسألك بحق حبيبك محمد صلّى الله عليه وآله إلا بدلت سيآتي حسنات وحاسبني حساباً يسيراً وقال في السجدة الثانية:

أسألك بحق حبيبك محمد صلّى الله عليه وآله إلا ما كفيتني مؤونة الدنيا، وكل هول دون الجنة ثم قال في السجدة الثالثة:

أسألك بحق حبيبك محمد صلّى الله عليه وآله لما أدخلتني الجنة، وجعلتني من سكانها ولما نجيتني من سفعات النار برحمتك، وصلى الله على محمد وآله 5 ثم قال في الرابعة:

أسألك بحق حبيبك محمد لما غفرت الكثير من ذنوبي والقليل، وقبلت مني العمل اليسير.


هذه الأدعية، كما يتوضح منها، تدل على شدة الإمام عليه السلام بتعلقه بالله وشدة تمسكه بطاعته، وعظيم إنابته إليه.

4ـ دعاؤه في قنوته:
وأثرت عنه أيضاً بعض الأدعية التي كان يدعو بها في قنوته منها:

بمنك وكرمك يا من يعلم هواجس السرائر ومكامن الضمائر وحقائق الخواطر، يا من هو لكل غيب حاضر، ولك منس ذاكر، وعلى كل شيء قادر، وإلى الكل ناظر، بعد المهل وقرب الأجل وضعف العمل، وأرأب الأمل.

وأنت يا الله الآخر كما أنت الأول مبيد ما أنشأت، ومصيرهم إلى البلى، وتقلدهم أعمالهم، ومحملها ظهورهم إلى وقت نشورهم من بعثة قبورهم عند نفخة الصور، وانشقاق السماء بالنور، والخروج بالمنشر إلى ساحة المحشر، لا ترتد إليهم أبصارهم وأفئدتهم هواء متراطمين في غمة مما أسلفوا، ومطالبين بما احتقبوا، ومحاسبين هناك على ما ارتكبوا، الصحائف في الأعناق منشورة، والأوزار على الظهور مارورة، لا انفكاك ولا مناص ولا محيص عن القصاص قد أقحمتهم الحجة وحلوا في حيرة المحجة وهمس الضجة، معدول بهم عن المحجة، إلا من سبقت له من الله الحسنى فنجا من هول المشهد وعظيم المورد، ولم يكن ممن في الدنيا تمرد، ولا على أولياء الله تعند ولهم استبعد، وعنهم بحقوقهم تفرد.

اللهم: فإن القلوب قد بلغت الحناجر، والنفوس قد علت التراقي والأعمار قد نفذت بالانتظار لا عن نقص استبصار، ولا عن اتهام مقدار، ولكن لما تعاني من ركوب معاصيك، والخلاف عليك في أوامرك ونهيك، والتلعب بأوليائك، ومظاهرة أعدائك.

اللهم: فقرب ما قد قرب، وأورد ما قد دنى، وحقق ظنون الموقنين وبلغ المؤمنين تأميلهم من إقامة حقك ونصر دينك وإظهار حجتك.


هذا الدعاء وثيقة كاملة تحفل بصورة واضحة عن سعة علم الإمام عليه السلام في جميع حقوق المعرفة في الظاهر والخفي والمعاد وحشر الناس يوم القيامة لعرضهم للحساب أمام الله، وكل واحد منهم يحمل وزره على ظهره ومطالبه بما اقترفه في الدار الدنيا، ولا ينجو من أهوال ذلك المشهد الرهيب إلا من سبقت له من الله الحسنى ولم يكن من المستعبدين لعباد الله ولا من المتمردين على حقوق الله.

كما يبدو من الدعاء تعريض بحكام الأمويين الذين اتخذوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، وإن القلوب قد بلغت الحناجر من ظلمهم.

5ـ ذكره لله تعالى:
يقول المؤرخون، إنه كان دائم الذكر لله، يلهج بذكر الله في أكثر أوقاته، يمشي ويذكر الله، ويتحدث مع الناس ويذكر الله، ولا يشغله عن ذكره تعالى أي شاغل. وكان يجمع ولده ويأمرهم بذكر الله حتى تطلع الشمس كما كان يأمرهم بقراءة القرآن، ومن لا يقرأ منهم أمره بذكر الله.

6 ـ مناجاته مع الله عز وجل:
كان أبو جعفر عليه السلام يناجي الله تعالى في غلس الليل البهيم، وكان مما قاله في مناجاته:

أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أنزجر، ها أنذا عبدك بين يديك.

7ـ حجه:
كان الإمام عليه السلام إذا حج البيت الحرام انقطع إلى الله تعالى وظهر عليه الخشوع والطاعة، وأناب نفسه كلياً إلى رب العالمين.

روى مولاه أفلح قال:

حججت مع أبي جعفر محمد الباقر فلما دخل إلى المسجد رفع صوته بالبكاء فقلت له:

بأبي أنت وأمي إن الناس ينتظرونك فلو خفضت صوتك قليلاً فلم يعن به الإمام وقال له: ويحك يا أفلح إني أرفع صوتي بالبكاء لعل الله ينظر إليّ برحمة فأفوز بها غداً.

ثم طاف بالبيت وركع خلف المقام، ولما فرغ وإذا بموضع سجوده قد ابتل من دموع عينيه.

وحج مرة أخرى فازدحم الحجاج عليه وأخذوا يستفتونه عن مناسكهم ويسألونه عن أمور دينهم، والإمام يجيبهم، فبهروا من سعة علومه، وأخذ بعضهم يسأل بعضاً عنه حتى انبرى شخص من أصحابه فعرفه لهم قائلاً:

إلا أن هذا باقر علم الرسول، وهذا مبين السبل، وهذا خير من رسخ في أصلاب أصحاب السفينة، هذا ابن فاطمة الغراء العذراء الزهراء. هذا بقية الله في أرضه، هذا ناموس الدهر، هذا ابن محمد وخديجة وعلي وفاطمة، هذا منار الدين القائمة لم تذكر المصادر عدد المرات التي حج فيها إلى البيت الحرام.


8ـ زهده في الدنيا:

كيف لا يزهد وجده أمير المؤمنين، أبو تراب، عليه السلام؟ كان زاهداً في جميع مباهج الحياة فاعرض عن بهارجها وزينتها، فلم يتخذ الرياش في داره، وإنما كان يفرش بمنزله حصيراً.

نظر نظرة عميقة في جميع شؤون الحياة فزهد في ملاذها، واتجه نحو الله تعالى بقلب منيب، يقول جابر بن يزيد الجعفي: قال لي محمد بن علي عليه السلام:

يا جابر إني لمحزون، وإني لمشتغل القلب.

فانبرى إليه جابر قائلاً:

ما حزنك وما شغل قلبك؟.

فأجابه عليه السلام بما أحزنه وزهده في هذه الحياة قائلاً: "يا جابر إنه من دخل قلبه صافي ويذكر الله عز وجل شغله عما سواه، يا جابر ما الدنيا؟ وما عسى أن تكون، هل هي إلا مركب ركبته أو ثوب لبسته أو امرأة أصبتها؟".

وقد أثرت عنه كلمات كثيرة في الزهد والإقبال على الله، والتحذير من غرور الدنيا. إنه ابن العترة الطاهرة الذين أرسلهم الله تعالى لإرشاد الناس إلى الطريق الصحيح ليأمروا بالحق ولينهوا عن الباطل ويعملوا في سبيل الخير والصلاح.


*سلسلة أعلام الهداية،المجمع العالمي لأهل البيت ع، ط1، 1422هـ، ج7، ص 31-35.

2010-11-12