يتم التحميل...

كيف ينبغي استهلاك المال؟

إضاءات إسلامية

الاستهلاك عبارة عن تسخير المصادر المُتاحة كالدخل الفردي أو المال الموروث وغيره، بهدف تحقيق متطلّبات الحياة الراهنة والمستقبليّة

عدد الزوار: 589

الاستهلاك عبارة عن تسخير المصادر المُتاحة كالدخل الفردي أو المال الموروث وغيره، بهدف تحقيق متطلّبات الحياة الراهنة والمستقبليّة[1].
 
إنّ أُسس الاستهلاك الأمثل في النظريّة الإسلاميّة هي وجوب اجتناب الإسراف[2] والتبذير، واجتناب التقتير والبخل، أي الاعتدال في الإنفاق، والادخار. وسوف نفصِّل الكلام فيها وفق الشكل الآتي:
 
1- تجنّب الإسراف:
السّرف هو تجاوز الحدّ في كلّ فعلٍ يفعله الإنسان[3] فالله تعالى عدّه من السُّنَن الفرعونيّة: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾[4]، وتوعّد المسرفين بعذابٍ أليمٍ: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾[5].
 
المراد من الإسراف في الاستهلاك تجاوز الحدّ في الإنفاق، أي أنّ الإنسان يتجاوز المستوى المتعارف في إنفاق المال، فينفق أكثر من حاجته، ويسرف في ذلك. فعلى سبيل المثال: شخص لا يتقاضى في اليوم أكثر من دولارين، لكنّه يشتري لنفسه ولأسرته ثياباً بمئات الدولارات.
 
وقد تطرّق الإمام جعفر الصادق عليه السلام لهذا الأمر، حين قال: "ربّ فقير هو أسرف من الغني، إنّ الغني ينفق ممّا أوتي، والفقير ينفق من غير ما أوتي"[6].
 
وهذه الرواية تشير إلى بعض الموارد النادرة التي لا يتّبع فيها الفقير برنامجاً صحيحاً في معيشته، وذلك حينما ينفق ما يكسبه من مالٍ يسيرٍ في مسائل لا تتناسب مع وضعه الماديّ، وبالتالي يُهدرِ دخله، بسبب إسرافه. وبالتأكيد، فإنّ هذا الفعل بالنسبة للأثرياء قد لا يكون إسرافاً، إذ أنّ إسرافهم يتحقّق عبر إنفاقهم الأموال في أمورٍ أشدّ فداحة ممّا فعله هذا الفقير.
 
ومن هنا، يتّضح أنّ معيار حقيقة الإسراف نسبيّ، حيث تكون بعض مصاديق الإنفاق الصادرة من بعض الأفراد مؤدّية إلى الوقوع في الإسراف، ولكنّها ليست كذلك بالنسبة للبعض الآخر.

ويُعدّ الإسراف في استهلاك الموارد الطبيعيّة تعدّياً على حقوق الآخرين، وإهداراً للثروة العامّة ونتيجة هذا الإهدار هي البعد عن رحمة الله تعالى ورضوانه.
 
ومن النتائج السيّئة الأخرى للإسراف والتبذير، ابتلاء الفرد والمجتمع بالفقر والحرمان. فالمُسرِف الذي لا يُحسن التدبير في معيشته، قد يُبتلى بالفقر، بسبب إسرافه، وبالتالي لا يتمكّن من تأمين متطلّبات معيشته. وكذلك، فإنّ عدداً من المسرفين قد يؤثّرون سلبيّاً على المجتمع برمّته إثر إسرافهم وإهدارهم الثروة العامّة، أي أنّهم يحرمون الآخرين من استثمار هذه الثروة، ليكون سوء تصرّفهم موجباً لحرمان المجتمع، ورواج الفقر فيه. يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام في هذا الصدد: "إنَّ السّرفَ يُورِثُ الفَقرَ، وَإنَّ القَصدَ يُورِثُ الغِنَى"[7].
 
نهى تعالى عن البخل والإسراف، وأوصى الناس باتّباع الوسطيّة في الإنفاق: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامً﴾[8].
 
فالحدّ المعقول من استثمار نِعَم الله تعالى والمقرّر حسب تعاليم ديننا الحنيف، هو ما كان مطابقاً للاعتدال والوسطيّة. فالإنفاق المعتدل، يعني: خلوّه من الإسراف والتقتير في آنٍ واحدٍ، وقد عبّرت عنه الأحاديث بـ "القصد" أو "الاقتصاد". والإمام عليّ بن الحسين عليه السلام يطلب من الله تعالى أن يكرمه بهذه النعمة بدعائه: "وَاحجُبنِي عَن السّرفِ وَالازدِيادِ، وَقَوّمنِي بالبَذلِ وَالاقتِصادِ"[9].
 
2- تحديد الأولويّة في إنفاق الأموال:
لا ريب في أنّ الدخل المحدود، والإمكانيّات القليلة، وغلاء الأسعار، أمورٌ تحول دون قدرة الإنسان على تلبية جميع متطلّبات حياته.
 
لذا، فإنّ حسن التدبير في المعيشة يقتضي تسخير الأموال لتوفير المتطلّبات الضروريّة والأوليَّة، أمّا الأمور الثانويّة، التي لا ضرورة لها، فهي في الدرجة الثانية في سُلّم الترتيب، وإن لم يلتزم بهذا الأمر سوف يضطرّ الشخص إلى الاقتراض، فيسبّب ضغوطاً تُنهكه وتُنهك أسرته.
 
فلا بدّ من التصرّف بوعيٍ، وكسب المعلوماتٍ اللازمةٍ، في كيفيّة تسخير الأموال لموردٍ ما، وإنفاقها فيه. كما يتوجّب عليه كسب معلوماتٍ بخصوص أسعار البضائع والخدمات التي تقدّم في مختلف الأماكن، بغية اتّخاذ القرار المناسب.
 
3- تدوين النفقات:
تُعدّ عمليّة تدوين النّفقات من الأمور الهامّة، لأنّها تُمكّن الإنسان من معرفة مقدار ما يحتاج إليه من أموالٍ في حياته، إذ يسعى من خلالها إلى رفع مستوى دخله.
 
وهناك مرحلة هامّةٌ في موضوع تدوين النفقات، تتمثّل عند نهاية كلّ دورةٍ يتمّ تدوينها، حيث، لا بدّ من الاطّلاع على مقدار النفقات، وتقويم مدى صحّة الإنفاق أو عدمه، فإذا كان الدّخل والإنفاق متوازنين، فهذا يدلّ على أنّ الخطط الاقتصاديّة صحيحةٌ، ولكن، إذا كان الدخل والإنفاق غير متوازنين، أي كان الإنفاق أكثر من الدخل، يجب حينها تشخيص أسباب عدم الاتّزان، ومعرفة هل إنّه ناشئٌ من التضخّم والغلاء، أم من البذخ في الضيافة، أم من النّفقات غير الضروريّة.
 
وبعد معرفة هذه الأسباب، يتوجّب على المدبّر التخطيط للمرحلة القادمة، واجتناب الأخطاء التي حصلت، لكي يتسنّى له إيجاد توازنٍ بين مقدار الدخل والإنفاق، وبالتالي، تحقيق تناسقٍ مطلوبٍ بين أمور المعيشة ومقدار نفقاتها.
 
وقد عُبّر عن التدوين في الأحاديث الشريفة، بالتقدير والتدبير، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "التَّقدِيرُ نِصفُ العيشِ"[10].
 
كما روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "قِوامُ العيشِ حُسنُ التَّقدِيرِ، ومِلاكُهُ حُسنُ التَّدبيرِ"[11].
 
4- وجوب الرضا والقناعة:
"القَناعة بالفتح: الرِّضا بالقِسْمِ"[12]. وفي اللغة تعني "الرضا باليسير من العطاء"[13]. قال الإمام عليّ عليه السلام: "طَلَبت الغِنَى، فَما وجدت إلا بالقَناعةِ، عَلَيكُم بالقَناعَةِ تَستَغنُوا"[14].
 
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "الغِنَى فِي القَناعَةِ، وَهُم يَطلبُونَهُ فِي كَثرَةِ المالِ فَلا يَجِدُونَهُ"[15].
 
وسبيل كسب القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى، عيّنه لنا الإمام الصادق عليه السلام في قوله: "انظُر إلى مَن هُو دُونكَ فِي المقدِرةِ، ولا تَنظُر إلى مَن هُو فَوقكَ فِي المقدِرةِ، فإنَّ ذلِكَ أقنَع لَكَ بِما قُسِمَ لَكَ"[16].
 
من المفروض على كلّ مسلمٍ أن يُبرمج حياته الفرديّة والاجتماعيّة طبق أصول دينه ومبادئه، ويؤدّي أعماله وفق ذلك. كما أنّ الله تعالى منح الإنسانَ الحقَّ ببذل أمواله في ما يحتاج إليه، واستثمار نِعم الطبيعة، ففي الوقت ذاته كلّفه بواجباتٍ في هذا المضمار، وألزمه بأداء حقوق الآخرين، كالخمس، والزكاة، والحقّ المعلوم. والإذعان لهذا التكليف - بالتأكيد - من شأنه تقليص مستوى الفقر في المجتمع.
 
5- حُسن الادّخار:
لا يختلف اثنان في تأثير ادّخار الأموال على تماسك الأسرة والمجتمع ورقيّهما، وهذا الأمر طبعاً من أهمّ سياسات حُسن التدبير في المعيشة.
 
إذاً، لو سلك أعضاء الأسرة أو المجتمع نهج الإسراف والتبذير، فسوف لا يمكنهم ادّخار ما يلبّي متطلّباتهم عند الحاجة، حتّى وإن كان وليّ أمرهم مدبّراً وقانعاً. فإذا تمكّن الناس من ادّخار أموالهم وتسخيرها في النشاطات الإنتاجيّة، فسوف تتهيّأ الأرضيّة اللازمة للرقيّ الاقتصاديّ، وتتوافر فُرص العمل، ويرتفع المستوى المعيشيّ للناس. كما أنّ الادّخار بذاته يُعدّ سبباً للحيلولة دون الإسراف والتبذير. وكلّما زادت قدرة الناس على الادّخار، فسوف يبتعدون عن طبيعة الاستهلاك المُفرِط إلى حدٍّ كبيرٍ.
 
ومصادرنا الدينيّة حافلةٌ بنصوصٍ تؤكّد على أهمّيّة الادّخار، منها: ما قاله الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: "إنَّ الإنسانَ إذا أدخل (ادّخر) طَعامَ سَنَةٍ، خَفَّ ظَهرُهُ وَاستَراحَ. وَكانَ أبو جَعفر وَأبو عَبدِ اللهِ عليهما السلام لا يَشتَريانِ عُقدَةً، حَتَّى يُحرِزا طَعامَ سَنَتِهِما"[17].
 
والادّخار يكون حميداً، لو كان الهدف منه حماية اقتصاد المجتمع، والحفاظ على تماسكه، لدرجة أنّ نبيّاً من أنبياء الله تعالى قد تولّى هذه المهمّة بنفسه.
 
فقصّة النبيّ يوسف عليه السلام في القرآن الكريم خير دليلٍ على أهمّيّة الادّخار، وذلك عندما فسّر رؤيا فرعون مصر في البقرات السبع العجاف بسنوات الجفاف، والجدب، ومن ثمّ اقترح عليه توفير القمح، لتجاوز هذه المحنة.
 
إنّ توفير الخدمات العامّة للمجتمع من شأنه المساعدة على ادّخار النعمة، وفي الوقت نفسه يُعدّ ذخراً معنويّاً للعبد في آخرته، كحفر بئرٍ، أو شقّ قناةٍ، لتأمين مياه الشرب والسَّقي للناس. ولهذا التوفير آثاره المعنويّة التي لا ينكرها أحدٌ. قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "سِتُّ خِصالٍ يَنتَفِعُ بِها المؤمِنُ بَعدَ مَوتِهِ: وَلَدٌ صالِحٌ يَستَغفِرُ لَهُ، وَمُصحَفٌ يُقرَأ فِيهِ، وَقُلَيبٌ يَحفِرُهُ، وَغَرس يَغرِسُهُ، وَصَدَقَةُ ماءٍ يجرِيهِ، وَسُنَّةٌ حَسَنَةٌ يُؤخَذُ بِها بَعدَهُ"[18].
 
أمّا إنْ كانت هذه الأهداف لا تنسجم مع حكم العقل والشرع، فسيكون الادّخار حينها مذموماً ومنهيّاً عنه، لأنّه يؤدّي إلى تسخير الثروة في غير رضا الربّ، ويحرم المجتمع والفقراء من منافعه.
 
فالإمام الصادق عليه السلام يُعلّمنا الأسلوب الصحيح في توفير المال، وذلك بادّخاره في عدّة أماكن، كاستثماره في عدّة مشاريع، فذلك أنسب وأحفظ له. فلو وقعت حادثةٌ، فإنّ المال لا يتلف كلّه، ويبقى منه شيءٌ، ولا يحتاج الإنسان إلى الآخرين حينها.
 
* هُدىً وبشرى، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] محمّدي، حميد رضا ملك: على هاوية النزعة الاستهلاكيّة بر لبه برتكاه مصرف كرائي-، ط1، إيران، منشورات مركز وثائق الثورة الإسلاميّة، 1381هـ.ش، ص20.
[2] سوف نتطرّق إلى بيان الفرق بين الإسراف والتبذير لاحقاً.
[3] الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة "سرف".
[4] سورة يونس، الآية 83.
[5] سورة غافر، الآية 43.
[6] الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص55.
[7] الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص53.
[8] سورة الفرقان، الآية 67.
[9] الصحيفة السجاديّة، الدعاء30.
[10] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ح5904، ص416.
[11] الآمدي، غرر الحِكم ودرر الكلِم، ح6807.
[12] لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص298، مادّة "قنع".
[13] ابن الأثير، مجد الدين: النهاية في غريب الحديث والأثر، لاط، لام، منشورات المكتبة الإسلاميّة، لات، ج4، ص114.
[14] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص399.
[15] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص230.
[16] الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص244.
[17] الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص89.
[18] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص233.

2024-07-23