مداواة الأرواح بالقرآن
المتقون
إن شدة يقين المتقين وتأثرهم العميق بالقرآن الكريم جعلهم يتجاوزون الوجود اللفظي للقرآن على الألسنة، والوجود الذهني للمعاني في العقول والافهام، إلى الوجود الحقيقي في قلب الحقائق
عدد الزوار: 400إن شدة يقين المتقين وتأثرهم العميق بالقرآن الكريم جعلهم يتجاوزون الوجود اللفظي للقرآن على الألسنة، والوجود الذهني للمعاني في العقول والافهام، إلى الوجود الحقيقي في قلب الحقائق كما يقول الإمام: "فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها معذّبون"، فصاروا في مقام الرّجاء والشوق إلى الثواب وقوّة اليقين بحقايق وعده سبحانه بمنزلة من رأى بحسّ بصره الجنّة وسعادتها، فتنعّموا فيها والتذّوا بلذائذها، وفي مقام الخوف من النار والعقاب وكمال اليقين بحقايق وعيده تعالى بمنزلة من شاهد النّار وشقاوتها فتعذّبوا بعذابها وتألّموا بآلامها (فإذا مرّوا بآية فيها تشويق) إلى الجنّة (ركنوا) مالوا واشتاقوا (إليها طمعا وتطلعت) أشرفت (نفوسهم إليها شوقا وظنّوا أنّها نصب أعينهم) فأيقنوا أنّ تلك الجنّة الموعودة معدّة لهم حتى صارت كأنها نصب أعينهم. (وإذا مرّوا بآية فيها تخويف) وتحذير من النار (أصغوا) وأمالوا (إليها مسامع قلوبهم وظنّوا) كأن (أنّ زفير جهنّم وشهيقها) صوت توقدها (في أصول آذانهم).
وقد روى في الكافي عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:
إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم صلّى بالنّاس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوى برأسه مصفرّا لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:
كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقنا، فعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من قوله، وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الذي أحزنني وأسهر ليلى وأظمأ هواجري([1]) فعزفت نفسي عن الدّنيا وما فيها، حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون على الأرائك يتكئون، وكأني أنظر إلى أهل النّار وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النّار يدور في مسامعي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان ثمّ قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم له: الزم ما أنت عليه، فقال الشّاب: ادع اللّه لي يا رسول اللّه أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النّبي فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر([2]).
القرآن شفاء النفوس
قال تعالى: "ونُنزِّلُ مِن الْقُرْآنِ ما هُو شِفاء ورحْمةٌ لِّلْمُؤْمِنِين ولا يزِيدُ الظّالِمِين إلاّ خسارا"([3]) فالقرآن شفاء ورحمة لمن غمر الإيمان قلوبهم وأرواحهم، فأشرقت وتفتحت وأقبلت في بشر وتفاؤل لتلقى ما في القرآن الكريم من صفاء وطمأنينة وأمان، وذاقت من النعيـم ما لم تعرفه قلوب وأرواح أغنى ملوك الأرض. إنه حقا سد منيع يستطيع الإنسان أن يحتمي به من مخاطر كل الهجمات المتتالية على نفسه وقلبه، فيقي القلب من الأمراض التي يتعرض لها كما أنه ينقيه من الأمراض التي علقت به، كالهو ى والطمع والحسد ونزغات الشيطان والخبث والحقد...فهو كتاب ومنهج أنزله رب العالمين على قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لعباده هاديا ونذيرا وشفاء لما في الصدور.
وهذا دأب المتقين كما قال الإمام علي عليه السلام "ويسْتثِيرُون بِهِ دواء دائِهِمْ" فهم يلتمسون الدواء لكل داء كداء الذّنوب الموجب للحرمان من الجنّة والدّخول في النّار، بدواء القرآن عبر التّدبّر والتفكّر.
ويستجيبون لندائه "فاستشفوه من أدوائكم واسـتعينوا به على لأوائكم، فان فيه شفاء من اكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال" فكانوا المتسمين بطهارة النفوس ومكارم الأخلاق ومرضيّ الصفات "تراهُ قرِيبا أملُهُ، قلِيلا زللُهُ، خاشِعا قلْبُهُ، قانِعة نفْسُهُ، منْزُورا أكْلُهُ، سهْلا أمْرُهُ، حرِيزا دِينُهُ، ميِّتة شهْوتُهُ، مكْظُوما غُيْظُهُ...."
* المتقون، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
([1]) الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس.
([2]) الشيخ الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي- الطبعة الثالثة- ج2 ص53.
([3]) الإسراء: 82.