مظلومية الإمام الكاظم (عليه السلام) في زمن هارون
الحياة السياسية
مظلومية الإمام الكاظم (عليه السلام) في زمن هارون
عدد الزوار: 326
عاش الإمام الكاظم (عليه السلام) أطول فترة من إمامته في زمان الخليفة العباسي هارون، فكان نصيبه من ظلم هذا الطاغية كبيراً، اذ لم يرق لهارون ما يملك الإمام من امتداد واسع في الواقع الإسلامي، وما يشاهده من إقبال الناس عليه ورجوعهم إليه، وتأثرهم بروحانيته ورجاحة علمه، فاستدعى الإمام (عليه السلام) إلى بغداد وعرضه للسجن والتعذيب بذرائع وتهم شتى، أثبتت الوقائع براءته عن كل ما يرمى به منها، حتى أن رأس السلطة صرح بذلك في أكثر من مناسبة، حيث قال هارون نفسه: الناس يحملونني على موسى بن جعفر وهو برئ مما يرمى به[1]. لأن الإمام (عليه السلام) كان يعتزل العمل السياسي، فلم يخرج على حاكم ولا دعا أحداً إلى مبايعته، ولم يتحرك ضدّ هارون ولا غيره، ولكنها الغيرة من النجاحات الهائلة التي حققها الإمام (عليه السلام) في مختلف أوساط الأُمّة.
وشهدت هذه الفترة من جانب آخر كثيراً من المناظرات التي خاضها الإمام مع هذا الطاغية وغيره من رجال السلطة، تتعلق بأهم الشبهات المثارة من قبل بني العباس حول الإمامة وحقوق أهل البيت (عليهم السلام).
إشخاص الإمام إلى العراق:
ذكر كثير من المؤرخين أن الإمام (عليه السلام) أقام في المدينة بعد أن أطلقه المهدي العباسي إلى أيام هارون، فقدم هارون منصرفاً من عمرة شهر رمضان سنة (179 ه)[2]، فحمل موسى الكاظم معه إلى بغداد وحبسه بها إلى أن استُشهد في محبسه مسموماً سنة (183 ه)، وقيل: سنة (186 ه)[3].
وقد انصرف هارون من الحج على طريق البصرة، فحمل الإمام الكاظم (عليه السلام) مقيداً، وخرج على بغلين عليهما قبتان مغطاتان هو في احداهما، ووجه مع كل واحد منهما خيلاً، فأخذوا بواحدة على طريق البصرة والاُخرى على طريق الكوفة، ليعمي على الناس أمره، وكان الإمام في التي مضت إلى البصرة. فأمر المأمور أن يسلمه إلى عيسى بن جعفر بن المنصور، وكان على البصرة حينئذ، فحبسه عيسى عنده سنة، ثم كتب إليه الرشيد في سفك دمه، فاستشار عيسى بعض خاصته فأشاروا عليه بالتوقف عن ذلك والاستعفاء منه، فكتب عيسى إلى هارون: قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله ووضعت عليه العيون طول هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة، ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه، فما دعا عليك ولا علي ولا ذكرنا في دعائه بسوء، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليّ من يتسلمه مني وإلاّ خليت سبيله فانني متحرج من حبسه.
وأنت تلاحظ دقة المراقبة التي تتابع الإمام (عليه السلام) حتى في انقطاعه إلى ربه ودعائه الذي يقوله في صلاته، فوجه هارون من تسلمه من عيسى وحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد، فبقي محبوساً عنده مدة طويلة، وأراده هارون على شيء من أمره فأبى.
روى الشيخ الصدوق بسنده عن الفضل بن الربيع، قال: «قد أرسلوا إليَّ في غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك، وأعلمتهم أني لا أفعل ذلك، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني»[4].
وكتب هارون إلى الفضل بن الربيع ليسلمه إلى الفضل بن يحيى البرمكي، فتسلمه منه وأراد هارون ذلك منه فلم يفعله، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة وهو حينئذ بالرقة، فكتب إليه ينكر ذلك عليه ويأمره بقتله، فتوقف عن ذلك ولم يقدم عليه، فاغتاظ هارون من ذلك، ودعا مسروراً الخادم أن يخرج على البريد من وقته إلى بغداد، ويحمل كتابين إلى العباس بن محمد والسندي بن شاهك، وحين وصول الكتابين جلد ابن شاهك الفضل بن يحيى مائة سوط، وحبس الإمام عنده.
روى الشيخ الخصيبي بالاسناد عن علي بن أحمد البزاز، قال: «أمر هارون السندي بن شاهك أن يبني لموسى (عليه السلام) محبساً في داره ويقيده بثلاثة قيود من ثلاثة أرطال حديد، ويغلق الباب في وجهه إلاّ وقت الطعام ووضوء الصلاة»[5].
وجلس هارون في مجلس حافل، فأمر الناس بلعن الفضل بن يحيى فلعنوه، ثم ان يحيى بن خالد قال لهارون: ان الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد، ثم دعا يحيى بن خالد السندي فأمره فيه بأمره فامتثله، فقتل الإمام على يد السندي بسمّ جعله في طعام، وقيل: في رطب قدمه إليه، ولبث ثلاثاً بعده موعوكاً، ثم مات في اليوم الثالث.
فلما استشهد الإمام (عليه السلام) أدخل السندي الفقهاء ووجوه أهل بغداد عليه، فنظروا إليه لا أثر به وشهدوا على ذلك، وإنما فعل السندي ذلك لإخفاء جريمة قتل الإمام (عليه السلام) بالسمّ، وأخرج الجثمان المطهر فوضع على الجسر ببغداد، ونودي: هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه.
فجعل الناس يتفرسون في وجهه وهو ميت، وأمر يحيى ابن خالد أن ينادى عليه عند موته: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه.
فنظر الناس إليه ميتاً، ثم حمل فدفن في مقابر قريش[6].
وفي هذا يقول أحد الشعراء[7]:
ما أنصفتك بنو الأعمام إذ قطعت
أواصراً برسول الله تتحد
أبكيك رهن السجون المظلمات وقد
ضاق الفضا وتوإلى حولك الرصد
لبثت فيهن أعواماً ثمانية
ما بارحتك القيود الدهم والصفد
تمسي وتغدو بنو العباس في مرح
وأنت في محبس السندي مضطهد
دسوا اليك نقيع السم في رطب
فاخضر لونك مذ ذابت به الكبد
حتى قضيت غريب الدار منفرداً
لله ناءٍ غريب الدار منفرد
أبكي لنعشك والأبصار ترمقه
ملقى على الجسر لا يدنو له أحد
أبكيك ما بين حمالين أربعة
تشال جهراً وكل الناس قد شهدوا
نادوا عليه نداء تقشعر له
السبع الطباق فهلا زلزل البلد
لم تجتمع هاشم البطحا لديه ولا
الأشراف من مضر الحمراء تحتشد
كأنها ما درت أن العميد مضى
ومن رواق علاها قد هوى العمد[8]
المصدر: الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، سيرة وتاريخ
[1] الكافي 1: 366 / 99، بحار الأنوار 48: 165 / 7.
[2] وحدد الشيخ الكليني: لعشر ليال بقين من شوال سنة (179 ه).
[3] تاريخ بغداد 13: 29، وفيات الأعيان 5: 308، الكافي 1: 476.
[4] عيون أخبار الرضا 1: 106 / 10، أمالي الصدوق: 136 / 18.
[5] الهداية الكبرى / الخصيبي: 265.
[6] الإرشاد 2: 240، مناقب آل أبي طالب 3: 440، مقاتل الطالبيين: 336، الغيبة / الطوسي: 26 / 6، اعلام الورى / الطبرسي 2: 33، الفصول المهمة / ابن الصباغ: 220.
[7] هو الشيخ محمد علي اليعقوبي (ت / 1385 هـ).
[8] ديوان اليعقوبي الموسوم بالذخائر: 55.