ثلاث سمات للدولة العباسية في عصر الإمام العسكري (عليه السلام)
الحياة السياسية
ثلاث سمات للدولة العباسية في عصر الإمام العسكري (عليه السلام)
عدد الزوار: 274
يعتبر العصر الذي عاش فيه الإمام العسكري (عليه السلام) بداية لضعف سلطة الدولة العباسية وسقوط هيبتها وانحلالها، بسبب استيلاء الأتراك على عاصمة الملك، وانتقاض أطراف الدولة واستيلاء العمال والولاة عليها، واعتزال الخلفاء عن شؤون الحكم وانصراف غالبيتهم إلى أسباب اللهو والترف والمجون، وقد انعكست آثار ذلك على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر، وفيما يلي أهم خصائص هذا العصر:
السمة الأولى: نفوذ الأتراك وضعف العباسيين
تميز هذا العصر بغلبة الأتراك والفراغنه والمغاربة وغيرهم من الموالي وتدخّلهم في مقاليد الحكم، وكان أول ذلك في عصر المعصتم الذي اعتنى منذ توليه الحكم سنة 218 ه، باقتناء الترك، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم، وبذل فيهم الأموال، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب، فكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس، وضاقت بهم البلد، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا: إن لم تخرج عنا بجندك حاربناك، فكان سبب بنائه سرّ من رأى وتحوّله إليها سنة: 220 وقيل: 221 ه[1].
وبعد ذلك ازداد نفوذ الأتراك في عاصمة العسكر سامراء وتسنّموا مناصب هامة كولاة وعمال وقادة جيش، ومنهم بغا الكبير، وابناه موسى ومحمد، وبابكيال، وياركوج، واذكوتكين، وبغا الصغير الشرابي، ووصيف بن باغر وغيرهم. وبعد عصر المتوكل ازدادت سيطرتهم على مقاليد الحكم فأهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا إرادتهم، وتدخلوا في شؤون الملك، وتلاعبوا ببيوت الأموال، وانتكهوا مصالح الاُمة ومقدراتها ؛ فقد قتلوا المتوكل والمهتدي، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد، واستخلفوا للمستعين، واستولوا على الأموال في عهده، وقاتلوه حين غضب عليهم، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.
قال ابن طقطقا: كان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه[2].
وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولا قوة مع اُمراء الجند الأتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله:
خليفة في قفصٍ
بين وصيفٍ وبغا
يقول ما قال لهُ
كما تقول الببغـا[3]
ومن مظاهر سيطرة اُمراء الأتراك على جميع أفراد الدولة بما فيهم الخليفة في زمان المعتزّ بالله، ما ذكره اليعقوبي في تاريخه حوادث سنة 255 ه، قال: وثب صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز، وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع، وعلى عيسىٰ بن إبراهيم بن نوح وعلى ابن نوح، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذّبهم بأنواع العذاب، وغلب على الأمر، فهمّ المعتزّ بجمع الأتراك، ثمّ دخل إليه فأزاله من مجلسه، وصُيّر في بيت، وأخذ رقعته بخلع نفسه، وتوفي بعد يومين، وصلّى عليه المهتدي[4].
السمة الثانية ـ استئثار رجال السلطة بالأموال العامة
السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاء هي الاستئثار ببيت المال وتسخيره لخدمة مصالحهم الخاصه وحرمان الأغلبية الساحقة منه، ومن مظاهر ذلك الاستئثار ان اُمّ شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت أموالاً لا تُحصر ؛ من ذلك خمسة آلاف ألف دينار من العين وحده[5]. ونقل المؤرخون في أحداث سنة 249 أن المستعين أطلق يد والدته ويد أتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباحهم فعل ما أرادوا، فكانت الأموال التي ترد من الآفاق يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة. .. وما يفضل من هؤلاء الثلاثة يأخذه أتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته[6].
وذكروا أنه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة 252 ه خلّف في بيت المال بسامراء نحو خمسائة ألف دينار، وفي بيت مال أم المستعين ألف ألف دينار، وفي بيت المال العباس ابنه ستمائة ألف دينار[7].
وفي أحداث سنة 255 ه ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار، وفي سفط آخر مقدار كليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله، فقوّمت الأسفاط بالفي ألف دينار[8].
أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاء وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط، فمما يخرج بنا عن الغرض، ويكفي مثالاً على ذلك أن بغا الكبير حينما مات سنة 248 ه ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار[9].
وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم. .. وحينما مات خلّف من العين عشرة ألف دينار، وأربعة وعشرين ألف مملوك[10]. وكانت غُريب جارية المعتمد ذات أموال جزيلة[11].
السمة الثالثة ـ ميل العباسيين إلى البذخ والترف واللهو
كان رجال الدولة وعلى رأسهم السلطان ينفقون الأموال الطائلة لشؤونهم الخاصة كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين وجميع وسائل اللهو والمجون المتاحة في ذلك العصر، وكانوا يسرفون في الانفاق على الشعراء وبناء القصور، بينما تعيش الأكثرية الساحقة من الناس على الكفاف وينهكها الجوع والفقر وتفتك بها الأمراض والأوبئة.
فقد كان المتوكل كثير الانفاق على الشعراء حتى قيل: ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكل[12]، فأجاز مروان بن أبي الجنوب علي قصيدة في مدحه بمائة وعشرين ألف درهم، وأعطاه حتى أثرى كثيراً فقال:
فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد
فقد خفت أن أطغى وأن اتجبرا
فقال: لا أمسك حتى يغرقك جودي[13].
وقرّب المتوكل أبا شبل عاصم بن وهب البرجمي، وكان شاعراً ماجناً، وأنفق عليه حتى أثرى، قال أبو الفرج: نَفَق عند المتوكل بايثاره العبث وخدمه وخُصّ به فأثرى، وأمر له بثلاثين ألف درهم على قصيدة من ثلاثين بيتاً[14].
وأجاز عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبا شبل البرجمي أيضاً على قصيدة في مدحه خمسة آلاف درهم ودابة وخلع عليه[15].
وعن أحمد بن المكي، قال: غنيت المتوكل صوتاً شعره لأبي شبل البرجمي، فأمر لي بعشرين ألف درهم، فقلت: يا سيدي أسأل الله أن يبلّغك الهُنيدة. فسأل عنها الفتح، فقال: يعني مائة سنة، فأمر لي بعشرة آلاف اُخرى[16].
وأجاز المتوكل الحسين بن الضحاك الخليع على أربعة أبيات أربعة آلاف دينار[17].
وكان المتوكل مغرماً بالجواري اللاتي يجلبن من أنحاء البلاد بأموال طائلة، فقد روي عن المسعودي أنه قال: كان المتوكل منهمكاً في اللذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سُرّية ووطئ الجميع[18].
كما كان ميالاً إلى التأنّق في تشييد القصور الضخمة التي تعجّ بألوانٍ من مظاهر الترف والبذخ والعبث اللهو والمجون، قال اليعقوبي: بني المتوكل قصوراً أنفق عليها أموالاً عظاماً منها: الشاه، والعروس، والشِّبندار، والبديع، والغريب، والبرج، وأنفق على البرج ألف ألف وسبعمائة ألف دينار[19].
وقيل: أنفق على الجوسق والجعفري والهاروني أكثر من مئتي ألف ألف درهم[20].
أما الإسراف في مراسم البلاط الخاصه باولاد الخلفاء وغيرهم فمما يطول به الحديث، ومن شواهد ذلك ما نقله ابن كثير عن مراسم تسليم المعتز على أبيه بالخلافة، قال: لما جلس [المعتزّ] وهو صبي على المنبر وسلم على أبيه بالخلافة، وخطب الناس، نثرت الجواهر والذهب والدراهم على الخواص والعوام بدار الخلافة، وكان قيمة ما نثر من الجواهر يساوي مائة ألف دينار، ومثلها ذهباً، وألف وألف درهم غير ما كان من خلع وأسمطة وأقمشة مما يفوت الحصر. ..[21].
أمّا المستعين فقد قالوا عنه: إنه كان متلافاً للمال مبذراً، فرّق الجواهر وفاخر الثياب، واختلّت الخلافه بولايته واضطربت الاُمور[22].
وذكروا أنّ اُم المهتدي محمد بن الواثق، التي ماتت قبل استخلافه، أنّها كانت تحت المستعين، فلمّا قُتل المستعين صيّرها المعتزّ في قصر الرصافة الذي فيه الحرم، فلمّا ولي المهتدي الخلافة قال يوماً لجماعة من الموالي: أمّا أنا فليس لي اُمّ أحتاج لها إلى غلّة عشرة آلاف ألف في كلّ سنة لجواريها وخدمها والمتّصلين بها. ..[23].
وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ، وهي تحكي عن حجم التبذير في بيوت الأموال والإسراف في النفقات الخاصه على حساب الأغلبية المحرومة، وكان من نتائج ذلك أن ابتعد الخليفة عن الرعية وأهمل شؤونهم فكرهه غالبية الناس.
قال ابن كثير في حوادث سنة 249 ـ خلافة المستعين ـ: قد ضعف جانب الخلافة، واشتغلوا بالقيان والملاهي، فعند ذلك غضبت العوام من ذلك[24].
اما المعتمد الذي مات بالقصر الحسني مع الندماء والمطربين. .. وكان يكسر ويعربد على الندماء[25]، فقد قال السيوطي وغيره: انهمك باللهو واللذات، واشتغل عن الرعية فكرهه الناس[26].
ولعلّ ذلك هو أحد الاسباب في تعاطف عامة الناس سيما أهل بغداد مع بعض الطالبيين الثائرين بوجه الظلم والاستئثار، ومنهم يحيى بن عمر الشهيد سنة 250 ه فضلاً عن حسن سيرته، قال أبو الفرج: كان هوى أهل بغداد مع يحيى، ولم يُروَ قطّ أنّهم مالوا إلى طالبي خرج غيره[27].
وقال ابن الأثير: تولاه العامة من أهل بغداد، ولا يعلم أنّهم تولوا أحداً من [أهل] بيته سواه[28].
الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) سيرة وتاريخ - بتصرّف
[1] تاريخ الخلفاء / السيوطي: 259، معجم البلدان / ياقوت الحموي ـ المجلد الثالث: 10 ـ 13 ـ (مدينة سامراء) دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ 1417 ه.
[2] الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطا: 243، نشر الشريف الرضي، قم.
[3] تاريخ الخلفاء / السيوطي: 278.
[4] تاريخ اليعقوبي: 2: 504، سير أعلام النبلاء / الذهبي 12: 535 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1419 ه.
[5] سير أعلام النبلاء 12: 41.
[6] الكامل في التاريخ / ابن الأثير 6: 154 ـ دار الكتاب العلمية ـ 1415 ه، البداية والنهاية / ابن كثير 11: 3 ـ مكتبة المعارف ـ 1414 ه.
[7] الكامل في التاريخ 6: 166، البلادية والنهاية 11: 7.
[8] تاريخ الطبري 9: 395 بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم ـ بيروت، الكامل في التاريخ 6: 202، البداية والنهاية 11: 17، تاريخ الخلفاء / السيوطي: 280.
[9] البداية والنهاية 11: 2.
[10] سير أعلام النبلاء 12: 94 ـ 95.
[11] سير أعلام النبلاء 12: 552.
[12] تاريخ الخلفاء / السيوطي: 270.
[13] تاريخ الخلفاء / السيوطي: 270.
[14] الأغاني / ابو الفرج الاصفهاني 14: 193 ـ دار إحياء التراث العربي.
[15] الأغاني 14: 199.
[16] الأغاني 14: 193 ـ 194.
[17] مروج الذهب / المسعودي 4: 388 ـ دار إحياء التراث العربي ـ 1422 ه، سير أعلام النبلاء 12: 40.
[18] تاريخ الخلفاء / السيوطي: 271، سير أعلام النبلاء 12: 40.
[19] تاريخ اليعقوبي 2: 491.
[20] سير أعلام النبلاء 12: 40، وراجع: معجم البلدان / ياقوت 2: 60 ـ دار إحياء التراث العربي ـ عند ترجمة الجعفري، وتاريخ اليعقوبي 2: 492، والبداية والنهاية 10: 346، والكامل في التاريخ 6: 130.
[21] البداية والنهاية 11: 17.
[22] سير أعلام النبلاء 12: 46.
[23] تاريخ الطبري 9: 396، الكامل في التاريخ 6: 203، البداية والنهاية 11: 18.
[24] البداية والنهاية 11: 3.
[25] سير أعلام النبلاء 12: 552.
[26] تاريخ الخلفاء / السيوطي: 282، سير أعلام النبلاء 12: 540.
[27] مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الاصفهاني: 421 ـ المكتبة الحيدرية ـ النجف.
[28] الكامل في التاريخ 6: 157.