المرأة حين تفوق الرجال
دور الأم في الأسرة والمجتمع
الثورة التي تنطلق من صميم الشعب، وتهدف الى حماية حقوقه وصيانة رسالته ومبادئه.. هذه الثورة المخلصة من الذي يحميها من الأعداء الحاقدين والمتسلطين والذين إنما انطلقت الثورة لتخلص الشعب من ظلمهم وطغيانهم؟...
عدد الزوار: 252
الثورة التي تنطلق من صميم الشعب، وتهدف الى حماية حقوقه وصيانة رسالته ومبادئه..
هذه الثورة المخلصة من الذي يحميها من الأعداء الحاقدين والمتسلطين والذين إنما انطلقت الثورة لتخلص الشعب من ظلمهم وطغيانهم؟
هل يُنتظر من القوى الأجنبية خارج المحيط الإسلامي أن تدعم ثورة مخلصة تريد إسعاد الشعب المسلم واستقلاله وتقدمه؟.
بالطبع: كلا. فالقوى الأجنبية إنما تدعم الثورات العميلة والحركات المضللة، حتى تجعلها جسراً تعبر عليه للتغلغل والسيطرة ومد النفوذ داخل الأمة الإسلامية، لتحقيق المصالح الاستعمارية.
اما الثورة الإسلامية المخلصة التي تنطلق من صميم الشعب فلا يُنتظر لها الدعم من القوى الأجنبية.. بل ستسدد لها الضربات العنيفة القاضية.
فهل سيحتضنها التجار الأثرياء والشخصيات الاجتماعية النافذة.
في الواقع، كان من الواجب على التجار والزعماء الاجتماعيين أن يقوموا بدورهم في دعم الثورات المخلصة المستقلة وحمايتها من ضربات الأعداء.. ولكن المؤسف جداً أن غالبية هذه الطبقة تتخذ موقفاً سلبياً ومناوئاً من الثورات الشعبية المخلصة! وذلك لرغبتها في مهادنة الوضع القائم والاستفادة من الامتيازات التي يمنحها لهم ولو على حساب الشعب والمبدأ. ولخوفها من تطبيق حكم الحق والعدل بعد نجاح الثورة، فسوف لن تتمكن حينئذٍ وفي ظل حكم العدالة والحق أن تمارس أي دور استغلالي، أو تنال أي امتيازات طبقية!.
ولذلك كان موقف أكثرية الأثرياء والزعماء موقفاً عدائياً للثورات الرسالية الصادقة، طوال التاريخ، كما يؤكد القرآن الكريم بقوله:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾1.
والمترفون هنا هم الأثرياء والشخصيات الاجتماعية، والذين يتخذون منهم هذا الموقف المناوئ للحركات الشعبية الرسالية يرتكبون خطأ كبيراً، ويمارسون دوراً أحمقاً جداً.
ذلك لأن إخلاصهم لسلطات الظلم وواقع الطغيان، سوف لا يحميهم من نزوات الطغيان والظلم، ففي أية لحظة من لحظات الهوى والطيش عند الحاكم المستبد الظالم يمكن أن يقرر مصادرة حياة أكبر تاجر أو أعظم شخصية وزعيم!! وفي التاريخ مشاهد بشعة لنهايات كثير من الأثرياء والزعماء على أيدي الطغاة الديكتاتوريين!..
فالثري والزعيم الذي يضع مستقبله ومصيره في يد حاكم مستبد إنما يسلم نفسه إلى كف عفريت.
ومن ناحية أخرى، فإنهم سيكونون مجبرين على الخضوع وقبول تجبر ذلك الطاغية وتكبره، فهم بين يديه أذلاء خاضعون وعبيد مطيعون، وإن كانوا يتعاملون مع سائر الناس كزعماء وشخصيات محترمة.
وفوق كل ذلك، فإن ثورة الشعب وحركته لا بدّ وأن تنتصر وتسحق عروش الظلم والطغيان بإذن الله تعالى الذي وعد المستضعفين بالظفر والغلبة كما يقول عز وجل:﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾2.
فلماذا يراهن الأثرياء والزعماء على ورقة الظلم الخاسرة ويناوئون جبهة الحق التي لا بد وأن يحالفها النجاح؟.
وإذا كان أكثر أصحاب النفوذ الاجتماعي والثروة المالية يتخذون هذا الموقف الأحمق في مواجهة الثورة الشعبية الرسالية، فمن يحمي الثورة إذاً من أعداء الرسالة والشعب؟.
ليس إلا جماهير الشعب نفسه، فالثورة منهم وإليهم، ولأجلهم انطلقت، وفي سبيل تحريرهم وسعادتهم تفجرت..
وجماهير الشعب إذا صممت على النضال ونظمت صفوفها في مواجهة العدو قادرة بإذن الله على إسقاط أكبر فرعون، وتحطيم أقوى عرش!. تلك هي إرادة الله، وذلك هو منطق التاريخ الذي أجاد أبو القاسم الشابي في التعبير عنه بقوله:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولكن... ماذا إذا استطاعت أساليب السلطة المختلفة بالترهيب والترغيب، وإعلامها المزيف: أن تخدع جماهير الشعب وتضللهم، وتبعث في صفوفهم الانقسام والتخاذل واليأس والإستسلام؟.
-ستصاب الثورة عندها بهزيمة بشعة، ونكسة مؤلمة، يبقى الشعب على أثرها ولمدة طويلة تحت سيطرة الظلم والجور!..
وهذا ما حدث لثورة الإمام الحسين عليه السلام، فقد قاربت النجاح وأوشكت أن تسيطر على الأمور في عاصمة العراق: الكوفة، بعد قدوم سفير الحسين وممثله الشخصي: مسلم بن عقيل عليه السلام والذي بايعته جماهير الكوفة بتلهف واشتياق، فأخذ ينظم صفوفهم، يعدّهم للانقضاض على الحكم الأموي المستبد، ويهيأهم للخضوع لسلطة الإسلام العادلة..
بيد أن السلطة الأموية تداركت الأمر بخبث، فاختارت عبيد الله بن زياد، الإرهابي المخادع، للسيطرة على الوضع في الكوفة، وإجهاض حركة مسلم بن عقيل قبل أن يكتمل نجاحها.
وما أن وصل ابن زياد إلى الكوفة، واستلم قصر الإمارة، حتى بدأ يتفنن في أساليب التضليل والخداع، والترهيب والترغيب، للفصل بين الجماهير وبين قائد الحركة وممثل الثورة مسلم بن عقيل.
فقد أرسل الرشوات والهدايا والعطاءات لزعماء القبائل، ووعدهم بالمزيد، وزاد في رواتب الجنود والموظفين، واعتقل الزعماء المخلصين، وصار يهدد الناس ويتوعدهم بجيوش الشام.
نجحت أساليبه في تثبيط عزائم الناس، وتضليلهم وخداعهم، وأخذوا يتفرقون عن ممثل الثورة مسلم بن عقيل!
اللهم إلا من رسخ الإيمان في نفسه فتجاوز به حدود العقبات والمخاطر، واستقر الوعي في قلبه فسما به على أساليب الخداع والتضليل.
وكانت المرأة هي المظهر الصادق، والنموذج الرائع، للفرد الذي يتسامى على وسائل الترهيب، وأساليب الخداع، في ذلك الجو الحالك المكفهرّ.
إنها طوعة السيدة المؤمنة الواعية، التي احتضنت ممثل الثورة مسلم بن عقيل حين تفرّق الناس عنه.. وحمت القائد وآوته حين تقاذفته سكك الكوفة وشوارعها... فتفوقت بعملها البطولي وموقفها الثوري على جميع رجال مجتمعها الجبناء الخانعين!..
فبعد أن اعتقل هاني بن عروة، والذي كان بيته مقرّاً لمسلم بن عقيل ومنطلقاً للثورة، أصبح مسلم بن عقيل يبحث عن مأوى جديد، يعيش فيه بعيداً عن عيون السلطة، ويمارس نشاطه الثوري.
بيد أن الهزيمة في ذلك اليوم والتخاذل سيطرا على كل النفوس، فما أن انتهى مسلم من صلاة الجماعة ليلاً، حتى تفرّق الناس عنه، وذهب كل رجل إلى بيته، بينما بقي القائد وحيداً حائراً لا يعرف بيتاً ملائماً يلتجئ إليه لمواصلة نشاطه وعمله.
وصار يتمشى في شوارع الكوفة وسككها في ظلام الليل الدامس، وإذا به يجد نفسه أمام امرأة محتشمة، تقف على باب دارها كأنما تنتظر أحداً من أهلها.
فبادرها مسلم بالتحية والسلام.
فردَّت عليه طوعة تحيته وسلامه بتثاقل وحذر! ثم قالت له: ما حاجتك؟
أجاب مسلم: اسقني ماءً.
فجاءته بالماء، وشرب منه، ثم بقي واقفاً أمام المنزل!
قالت طوعة: ألم تشرب الماء؟.
- بلى.
- إذاً اذهب إلى أهلك إن مجلسك هنا مجلس ريبة!.
وسكت مسلم على مضض، فأعادت عليه القول بالانصراف وهو ساكت، وكررت عليه القول ثالثاً فلم يجبها، فذعرت منه وصاحت به:
- سبحان الله.. إني لا احل لك الجلوس على بابي!
هنا لم يجد مسلم بدّاً من الانصراف، ولكنه قال لها بصوت هادئ حزين النبرات:
- ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك إلى أجر ومعروف باستضافتي هذه الليلة، ولعلي أُكافئكِ بعد هذا اليوم؟.
وشعرت المرأة بأن الرجل غريب، وأنه ذو شأن يمكنه من الوعد بمجازاتها على معروفها وإحسانها، فبادرته قائلة:
- وما ذاك؟.
فقال لها والألم يعتصر قلبه:
- أنا مسلم بن عقيل، كذبني القوم وغرّوني!
فقالت له طوعة في دهشة وإكبار:
- أنت مسلم بن عقيل؟!
- نعم.
فرحبت به أجمل ترحيب، واعتبرت الموقف نعمة كبرى، وفرصة ذهبية، وفرها لها التوفيق، لتستطيع أن تقدم خدمة لممثل الإمام الحسين عليه السلام، وسفير الثورة، وربيب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
هيّأت له بيتاً في دارها، وقدمت له الطعام، ولكن نفسه الحزينة على أوضاع المجتمع لم تسمح له بالأكل ولو قليلاً.
وبعد فترة أقبل ولد طوعة الذي كانت تنتظره على الباب واسمه بلال.
فرأى أُمه تكثر الدخول إلى البيت الذي يقيم فيه مسلم وتحمل إليه ما يحتاج من طعام وشراب وفراش وماء للوضوء... فسألها؟.
- هل لديك ضيف في هذا البيت؟.
أجابته طوعة:
- نعم، ولكن لا أخبرك به حتى تعاهدني وتحلف لي اليمين على أن لا تفشي سرّه.. فهي تعرف الأوضاع وتعي الظروف.
فعاهدها وحلف لها أن يكتم السرّ ولا يخبر به أحداً.. فأعلمته بخبر مسلم، فتظاهر بالرضا عما حصل.
وبات مسلم بن عقيل تلك الليلة متفكراً في قضايا الأمة، متأملاً في أوضاع المجتمع، متألماً من مسيرة الأحداث، ولكنه كان يستلهم من تلاوة القرآن وأوراد الصلاة روح الصمود والصبر، لمواجهة الواقع الأليم.
وباتت طوعة شاكرة لله هذه النعمة الكبيرة، حامدة له على هذا التوفيق العظيم، ولكنها في نفس الوقت، كانت قلقة وجلة مما قد يخبئه المستقبل لممثل الثورة في بيتها.
وبات ولدها بلال في غمرة من الفرح والسرور، ينتظر انبثاق نور الفجر، ليبشر السلطة بالعثور على القائد البطل، وكانت السلطة جادّة في البحث عن مسلم، وتبذل الإغراءات والعطاءات كجوائز لمن يأتي للسلطة بخبر مسلم.
وهاهو بلال يجد مسلم في بيته دون أن يحتاج إلى عناء البحث والطلب، فما عليه إلا أن يغتنم الفرصة، ويوصل الخبر إلى السلطة لينال الجائزة الثمينة! ويحظى بالمكانة السامية!... وهكذا زينت له نفسه الشقية، فخرج في الصباح مبكراً، وأوصل الخبر إلى الأمير الأموي عبيد الله بن زياد، الذي أسرع في إرسال فرقة من الجيش معززة بالسلاح، لتطويق بيت طوعة للقبض على مسلم بن عقيل.
وحينما سمع مسلم وقع حوافر الخيل، استعد لمواجهة العدو مبادراً لحمل السلاح... والتفت إلى السيدة المؤمنة طوعة وشكرها على ضيافتها، وأخبرها أن ولدها هو الذي أوصل الخبر إلى السلطة، وقال لها:
- رحمك الله وجزاك عني خيراً.. اعلمي إنما أتيت من قبل ابنك!
وهنا تمزقت نفس طوعة حزناً وألماً، واسودّ الفضاء أمام عينيها، وضاقت الدنيا على نفسها.. بينما كان مسلم يبادر إلى الخروج من الدار قبل أن يقتحمها الجيش، فتضعف فرصته في المقاومة داخل الدار.
وعلى باب منزل طوعة دارت معركة عنيفة بين رجل واحد هو مسلم بن عقيل وبين جيش كبير...
وبينما كان مسلم يدير المعركة ببطولة رائعة، وصمود عجيب، كانت طوعة على سطح الدار، تشجعه وتذكره ببطولات عمه أمير المؤمنين وسائر رجالات أسرته المغاوير.
وانذعر القوم من بسالة مسلم وبطولته، فعرضوا عليه وقف القتال، وأعطوه الأمان إن هو استسلم، فأبى الاستسلام ورفض أمان الخونة، واستمر في مقاومتهم وهو يرتجز قائلاً:
أقسمت لا أٌقتل إلا حراً وإن رأيت الموت شيئاً نكراً
كل امرئ يوماً يلاقي شراً أخاف أن أكذب أو اغرّا
إلى أن تكالب عليه القوم، وأثخنوه جراحاً، فوقع في أيديهم أسيراً!! فساد عليهم فرح الانتصار، بينما ذاب قلب طوعة ألماً وحزناً تعاطفاً مع القائد الأسير3.
وقُتل مسلم وأُجهضت تلك الحركة الثورية، ولكن طوعة سجلت في التاريخ موقفاً ثورياً مشرفاً يُرينا شخصية المرأة حين تفوق الرجال.
*مسؤولية المرأة، الشيخ حسن الصفار، ص39-44.
1- سبأ:34-35.
2- القصص:5.
3- حياة الإمام الحسين للقرشي 2/386.