كلمة الإمام الخامنئي في الملتقى الأول للأفكار الاستراتيجية
2010
النموذج الإسلامي ـ الإيراني للتقدم: مجالاته الأساسية وأركانه الأصيلة
عدد الزوار: 245كلمة الإمام الخامنئي في الملتقى الأول للأفكار الاستراتيجية 01-12-2010
النموذج الإسلامي ـ الإيراني للتقدم: مجالاته الأساسية وأركانه الأصيلة
المحاور
الرئيسية
- التنظير لنموذج إسلامي ـ إيراني للتقدم عملية طويلة الأمد
- أربعة مجالات أساسية للتقدم:
- الفكرية والعلمية والحياتية والمعنوية
- الأركان الأصيلة للنموذج المنشود:
- التوحيد ـ المعاد والحساب ـ العدالة
- الأهلية الأخلاقية لطاقم الحكم والإدارة
- النظرة غير المادية للإقتصاد
بسم الله الرحمن الرحيم
أقيمت هذه الليلة والحمد لله جلسة جيدة جداً. وقد استفدت حقاً من الكلمات والآراء التي طرحت، وأكثر من ذلك من مشاهدة الإمكانية العالية المتوفرة لدى هذه الجماعة من المفكرين والمثقفين الإيرانيين لطرح القضايا وتمديد ومواصلة أجزاء قضية معقدة ومركبة.
هذا ما شاهدته الليلة على العموم، وأتقدم بالشكر الجزيل لكم أيها الحضور المحترمون الذين تفضلتم بالمجيء وقضيتم وقتاً طويلاً في هذه الجلسة، وللعاملين على إعداد هذه الجلسة السيد واعظ زاده وباقي الزملاء الذين سعوا وعملوا ونظموا هذه الجلسة. ولأن الوقت قد مضى فسوف لن أطيل في الكلام، وسوف أختصر...1، وسيبقى وقت للكلام التفصيلي إن شاء الله
أهداف
ملتقى الأفكار الإستراتيجية
هذا هو الاجتماع الأول من نوعه في الجمهورية الإسلامية. كانت لنا
اجتماعات كثيرة سواء اللقاءات التي كانت لي مع المجاميع المختلفة أو التي أنا على
اطلاع على أنها أقيمت. لذلك أقول إننا لم يكن لنا هذا النوع من الاجتماعات.
هدفنا الأول من أقامة هذا الاجتماع - أو بكلمة أدق: سلسلة الاجتماعات التي ستستمر في المستقبل أيضاً إن شاء الله - هو بالدرجة الأولى أن يندك مفكرو البلاد بقضايا البلاد الكبرى. لبلادنا قضايا أساس كبرى وثمة أعمال كبرى يجب أن تنجز. وثمة الكثير من القدرات والإمكانيات يمكن أن تستخدم لصالح هذه الحركة العظيمة.
ولن يتحقق هذا المراد إلا إذا ارتبط الزبدة والنخبة والمفكرون بهذه القضايا الكبرى وانهمكوا فيها. هذا ما يجب أن يحصل وسوف يحصل إن شاء الله.
قضية تدوين النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدم هي من هذه القضايا الكبرى، وهي قضية تنطوي في داخلها على العشرات من القضايا وسوف أشير إلى ذلك فيما بعد.
سوف تستمر هذه السلسلة من الاجتماعات بخصوص هذه القضية، وثمة إلى جانبها قضايا كبيرة أخرى يجب أن تطرح.
الهدف الثاني الذي نتوخاه من هذه الجلسة هو إيجاد ثقافة وخطاب بين النخبة أولاً، و ثانياً بين عموم المجتمع تبعاً لذلك.
هذه الآراء التي طرحتموها الليلة حينما تنتشر على مستوى المجتمع سوف تسوق أذهان النخبة ومن ثم أذهان عموم الناس إلى اتجاه معين أساس: هوالتفكير في نموذج للتنمية ونموذج للحركة نحو الأمام، والشعور بأننا يجب أن نكون مستقلين في هذا المجال ونقف على أرجلنا. حالة سوف تكشف أكثر فأكثر عن معايب التبعية والاعتماد على النماذج الأجنبية. هذا ما نحتاج إليه راهناً.
للأسف مجتمع نخبتنا لم يصل إلى نتائج صحيحة في أجزاء مهمة من هذه القضية، وهذا ما يجب أن يحصل وسيحصل بحول الله وقوته.
هدفنا الثالث هو احتياجنا إلى تمهيد السبل ومدّ السكك لإدارة البلاد على مدى عشرات الأعوام القادمة. هذه الجلسة والجلسات الشبيهة بها، سوف تفضي إلى مثل هذا التمهيد للسبل ومدّ السكك.
هذه هي أهدافنا من إقامة هذه الجلسة والجلسات القادمة إن شاء الله.
إذن، العملية لا تتعلق بالأشخاص والمسؤولين، وهي لا تتعلق بي، إنما هي عملية تتعلق بالجميع. كلنا مسؤولون بخصوص هذه العملية التي يتم إنجازها.. كل منا بقدر استطاعته وإمكانياته وسعته ومدى قدرته. كلنا مسؤولون في هذا المجال ويجب أن نتابع المسألة إن شاء الله.. هذه نقطة.
التنظير
لنموذج إسلامي ـ إيراني للتقدم عملية طويلة الأمد
النقطة التالية هي أن حصيلة هذه العملية ليست سريعة التحقق. لقد دخلنا في هذه
القضية ونحن متفطنون إلى هذه النقطة.
طبعاً طرح بعض السادة اقتراحات ومشاريع لنتائج سريعة، ولا إشكال في ذلك، لكن الشيء الذي نبتغيه لن يحصل إلا على المدى البعيد، وفي أحسن الظنون على المدى المتوسط. إنها عملية طويلة الأمد. إذا استطعنا بحول الله وقوته التوصل في إطار عملية معقولة، إلى نموذج إسلامي - إيراني للتقدم فسوف يكون ذلك وثيقة عليا على كل الوثائق الخاصة بالبرامج في البلاد والمتعلقة بأفق البلاد وسياساتها.
وحتى وثائق الأفق المرسومة لعشرين سنة وعشر سنوات يجب أن تدوّن على أساس هذا النموذج. السياسات التي ستُرسم - سياسات البلاد العامة - يجب أن تتبع هذا النموذج وتندرج ضمن هذا النموذج. طبعاً ليس هذا النموذج نموذجاً غير مرن. ما سوف يحصل ليس بالكلمة الأخيرة. لا شك أن ظروف الزمان المتجددة ستوجب بعض التغييرات، ولا بد من اجتراح هذه التغييرات. إذن النموذج نموذج مرن، أي إن فيه قابلية للمرونة والتغيير. والأهداف مشخصة ومعلومة: الاستراتيجيات قد تتغير وتعدَّل بحسب الظروف. وعليه فإننا لن نتسرّع في هذه القضية على الإطلاق. طبعاً لا بد من وجود السرعة المعقولة لكننا لن نصاب بداء التسرّع وسوف نتقدم إن شاء الله بحركة صحيحة ومتينة.
أ ــ أهداف
وقيم وأساليب النموذج مستمدة من الإسلام
حسناً، قدَّم الأعزاء نقاشات جيدة بخصوص مفردات هذه الجملة:
"النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدم". تم تقديم
آراء جيدة حول معنى هذا النموذج، وما هو المراد من الإيراني وما هو المقصود من
الإسلامي، والتقدم في أي اتجاهات. ما أريد أن أضيفه هو أولاً: كلمة التقدّم
اخترناها بدقة وتعمّدنا عدم استخدام كلمة التنمية. والسبب هو أن كلمة التنمية لها
محتوى من حيث القيمة والمعنى ولها لوازمها التي قد لا نكون من المواكبين أو
المتماشين أو الموافقين لها. لا نريد استخدام مصطلح عالمي دارج يُفهم منه معنى خاص
وإشراكه في مهمتنا وعملنا. إنما نطرح ونعرض مفهومنا الذي نقصده، وهذا المفهوم عبارة
عن "التقدّم".
نعرف المعنى الفارسي المعادل لكلمة تقدّم ونعلم ما هو المراد من التقدّم وسوف نعرف ما هو قصدنا من هذا التقدّم ذي المعنى الواضح في الفارسية. التقدّم في أيّ مجالات وفي أية اتجاهات. وقد كانت لنا تجربة عدم استعارة المفاهيم في مواطن أخرى من الثورة. لم نستخدم مثلاً كلمة إمبريالية واستخدمنا كلمة استكبار. قد تكون هناك بعض الجوانب في معنى الإمبريالية لا نوافقها ولا نقصدها، وتأكيدنا ليس على تلك الجوانب وإنما على المعنى المستحصل من كلمة الاستكبار. لذلك طرحنا هذه الكلمة وتكرست في الثورة، والعالم اليوم يفهم قصدنا منها، وكذا الحال بالنسبة لمفاهيم أخرى.
مفهوم التقدم مفهوم واضح بالنسبة لنا. إننا نستخدم كلمة التقدم ونعرفها ونقول ما هو مرادنا من التقدم. وبخصوص إيرانية النموذج، فضلاً عمّا قاله الأصدقاء حيث هناك تأثير للظروف التاريخية والجغرافية والثقافية والإقليمية والجيوسياسية في تكوين هذا النموذج - وهذا شيء صائب في محله بلا شك - تُطرَح أيضاً قضية أن مصمّميه هم المفكرون الإيرانيون، وهذا وجه مناسب جداً لعنوان "الإيراني"، بمعنى أننا لا نروم أخذ هذا النموذج من الآخرين، إنما نتوخّى تكوين ما نراه لازماً لنا، وما نجد فيه مصلحة لبلادنا، وما نرسم علىأساسه صورة مستقبلنا.
إذن، هذا النموذج إيراني، ومن ناحية أخرى فهو نموذج إسلامي، ذلك أن غاياته وأهدافه وقيمه وأساليب العمل فيه مستقاة كلها من الإسلام. أي إن اعتمادنا قائم على المفاهيم والمعارف الإسلامية. نحن مجتمع إسلامي وحكومة إسلامية، وفخرنا هو في أن نستطيع الاستفادة من المصادر الإسلامية، ولحسن الحظ فإن المصادر الإسلامية متوفرة بين أيدينا، فهناك القرآن وهناك السنّة وهناك المفاهيم الثرّة والممتازة جداً الموجودة في فلسفتنا وكلامنا وفقهنا وحقوقنا.
وعلى ذلك فإن صفة "الإسلامي" هذه تأتي من هذا الباب ولهذه المناسبة. وإذن، فـ "الإسلامي" هو لهذه المناسبة.
ب ــ
"النموذج" : خارطة شاملة تحدد إتجاه المسير
والنموذج هو الخارطة الشاملة. حينما نقول النموذج الإيراني - الإسلامي
فمعنى هذا الخارطة الشاملة.
من دون الخارطة الشاملة سوف نصاب بالحيرة والاضطراب، وقد كنا طوال هذه الأعوام الثلاثين نعاني من تحركات غير هادفة وارتدادية فنذهب ذات اليمين وذات الشمال وربما قمنا أحياناً بشيء ثم قمنا بنقيضه - سواء في مجال الثقافة أو في مجال الاقتصاد أو في المجالات المتنوعة الأخرى - والسبب في ذلك عدم وجود خارطة شاملة. وهذا النموذج هو الخارطة الشاملة التي تقول لنا إلى أي اتجاه يجب أن نسير وما الهدف الذي يجب أن نتجه نحوه. وبالطبع كما قال الأعزاء ينبغي رسم صورة الوضع المنشود، كما يجب إيضاح كيف ينبغي الوصول من الوضع القائم إلى ذلك الوضع المنشود. وسوف يُطرح الكثير من الأسئلة يقيناً، ولا بد من معرفة هذه الأسئلة، وقد قال أحد السادة هنا ثمة أربعة آلاف سؤال، وهذا جيد جداً. يجب معرفة هذه الأسئلة والعلم بها، ولا بد من تكوين مثل هذه الحركة بين نخبنا، وطرح الأسئلة والإجابة عنها وهي حركة وعملية طويلة الأمد.
طبعاً حين نقول الإيراني أو الإسلامي لا نقصد عدم الاستفادة مطلقاً من مكتسبات الآخرين، لا، لا نضع لأنفسنا أية قيود لاكتساب العلم.
أينما كان العلم والمعرفة الصحيحة والتجارب الصحيحة فسوف نتوجه نحوها، ولكننا لن نأخذ الأشياء بأعين مغلقة عمياء. سوف نستفيد من كل ما هو موجود في عالم المعرفة ويمكن الاستفادة منه.
المشروع
ضروري والإمكانات الفكرية لإنجازه متوفرة
ثمة أسئلة تُطرح وقد طُرحت بعض الأسئلة هنا وأجيب عنها، ولا أكررها،
وطُرحت آراء جيدة ولا حاجة إطلاقاً لأن أكررها. طبعاً كنت قد اطلعت سابقاً على
مجموعة الأعمال التي أُنجزت واستمعت لها الآن ثانية بدقة، وقد طرحت هنا آراء جيدة
جداً. بعضهم يسأل ما هي مناسبة هذا المقطع الزمني؟ بعد أن يوافقوا ضرورة المشروع
وأصله يسألون لماذا لم يجر هذا الأمر في السابق؟ أو ما هي الضرورة للقيام بهذا
العمل في الوقت الحاضر؟ الواقع أنه لم يقع فاصل زمني كبير.
ليست فترة ثلاثين عاماً بالمدة
الطويلة لهذه العملية المراد منها تدوين مثل هذا النموذج. التجارب تتراكم والمعارف
تتظافر والأوضاع والأحوال السياسية تفرض مقتضياتها ثم نصل إلى محطات كانت مجهولة
وتصبح معلومة إن شاء الله. أعتقد أن إمكانية البلد في هذه المرحلة إمكانية مناسبة.
قيل طبعاً إننا لا نمتلك القدرات الفكرية لتدوين مثل هذا النموذج، وهذا ما لا يمكن
قبوله، إذ إن إمكانيات البلاد إمكانيات كبيرة. وفي حدود علمي فإن الإمكانيات التي
انتقلت من حالة الكمون إلى الفعل والظهور إمكانيات يمكن أن نصفها بأنها جيدة جداً،
سواء على مستوى الجامعات أو على مستوى الحوزة العلمية في قم أو بعض الحوزات الأخرى.
أضف إلى ذلك وجود مواهب وإمكانيات يمكن تفعيلها وعرضها عن طريق المطالبة.
إذا لم نبدأ هذا المشروع اليوم ولم نتابعه فسوف نتأخر بلا شك وسوف نخسر، لذلك يجب أن تتقدم هذه الحركة التي تم تصميمها والتخطيط لها بهذا النحو.
أربعة
مجالات أساسية للتقدم
ما أضيفه هنا هو أن مجالات هذا التقدم يجب أن يتم تشخيصها عموماً. هناك أربعة
مجالات أساس، منها المجال الحياتي الذي يشمل العدالة والأمن والحكومة والرفاه وما
إلى ذلك.
المجال الفكري
والمجال الأهم هو المجال الفكري. يجب أن نأخذ المجتمع نحو أن يكون
مجتمعاً مفكراً وهذا درس من دروس القرآن.
لاحظوا كم ترد في القرآن الكريم عبارات ﴿ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ و ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ و ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ و ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾. علينا جعل تفجّر الأفكار والتفكير في مجتمعنا حقيقة واضحة جلية.
وهذا ما يبدأ طبعاً من جماعة النخبة ثم ينحدر نحو عموم الناس. ولهذا بطبيعة الحال استراتيجياته ولوازمه وأدواته وشروطه التربوية والتعليمية التي ينبغي أخذها جميعاً بعين الاعتبار في عمليات التخطيط والبرمجة.
المجال
العلمي
المجال الثاني الذي تعدّ أهميته أقل من أهمية المجال الأول هو مجال العلم. يجب أن
نتقدم في العلوم. وطبعاً العلم نفسه ثمرة التفكير. وفي هذه المرحلة الحالية والحركة
باتجاه التطور والتقدم الفكري يجب أن لا يكون هناك أي تقصير أو تقاعس أو تكاسل.
لحسن الحظ فقد بدأت هذه الحركة في البلاد منذ عدة سنوات، وبدأ العمل باتجاه الإبداع العلمي والاستقلال العلمي. العلم من طبيعته أن يفصح عن نفسه مباشرة على شكل تقنيات. وفي حالات كثيرة فإن حصيلة الحركة العلمية ليست طويلة الأمد كهذه المسألة التي نناقشها الآن، إنما هي أقرب زمنياً وثمارها أدنى.
يجب القيام بالأعمال والمشاريع العلمية بنحو عميق وأساس. هذا أيضاً مجال من مجالات التقدم.
المجال
الحياتي
المجال الثالث مجال الحياة الذي سبق أن أشرت إليه، وتندرج فيه جميع
الأشياء المطروحة في حياة المجتمع كقضايا أساس وخطوط أساس من قبيل الأمن والعدالة
والرفاه والاستقلال والعزة الوطنية والحرية والتعاون والدولة.. هذه كلها أرضيات
للتقدم يجب متابعتها والخوض فيها.
المجال
المعنوي
و المجال الرابع - وهو الأهم من كل هذه الأمور ويعدّ بمثابة الروح لكل هذه الأمور -
هو التقدم في المجال المعنوي.
يجب أن ننظم هذا النموذج بحيث تكون نتيجته تقدم مجتمعنا الإيراني نحو مزيد من المعنوية. وهذا طبعاً أمر واضح بالنسبة لنا في موضعه.
وقد يكون واضحاً بالنسبة لكثير من الحضور المحترمين، ولكن يجب أن يتضح للجميع أن المعنوية لا تتعارض إطلاقاً لا مع العلم ولا مع السياسة ولا مع الحرية ولا مع الأمور الأخرى، إنما المعنوية هي روح كل هذه الأمور.
يمكن بالمعنوية الوصول إلى قمم العلم وفتحها، بمعنى أن تكون هناك معنوية وقيم روحية ويكون هناك إلى جانبها تقدم علمي. وحينئذ سيكون العالم عالماً إنسانياً، سيكون عالماً جديراً بحياة الإنسان. والعالم اليوم هو عالم الغابة.
العالم الذي يترافق فيه العلم مع المعنوية وتترافق فيه الحضارة مع المعنوية وتترافق فيه الثروة مع المعنوية سوف يكون عالماً إنسانياً.
طبعاً النموذج الكامل لهذا العالم سوف يتحقق في فترة ظهور الإمام بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف ومن هناك سوف يبدأ العالم.
إننا نتحرك الآن في مقدمات العالم الإنساني. نحن أشبه بشخص يسير في منعطفات الجبال والتلال والطرق الصعبة حتى يصل إلى الطريق الأصلي. وحينما نصل إلى الطريق الأصلي عندئذ تبدأ الحركة نحو الأهداف السامية. والإنسانية طوال حركتها ومسيرتها التي استمرت لعدة آلاف من السنين إنما تجتاز هذه المنعطفات وصولاً إلى الطريق الأصلي.
وحينما تصل إلى الطريق الأصلي -وهو ما سيقع في زمن ظهور الإمام بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف- عندئذ تبدأ مسيرة الإنسان الأصلية وحركته السريعة الناجحة الخالية من العنت والمشقة، وستكون المشقة مجرد مشقة السير في هذا الطريق ولن تكون هناك ثمة حيرة.
على كل حال، هذه هي المجالات الأربعة للتقدم التي يجب أن نتقدم فيها على أساس النموذج الذي سوف تتابعونه إن شاء الله، وأسلوب المتابعة بدوره واضح لدينا على نحو الإجمال وبحدود معينة وسوف نذكره.
الأركان
الأصيلة للنموذج المنشود
بخصوص المحتوى الإسلامي كان للأعزاء إشارات جيدة جداً. المسألة الأولى التي يجب أن
تؤخذ بنظر الاعتبار هي مسألة المبدأ أو مسألة التوحيد.
﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾2.
المشكلة الأهم في العالم الراهن ـالعالم الذي يتجلى بأكثر بهرجة ممكنة في الغربـ هي البعد عن الله وعدم الإيمان به وعدم الالتزام بهذا الإيمان. طبعاً قد يكون هناك اعتقاد ظاهري وصُوَري وما إلى ذلك، ولكن ليس ثمة التزام بهذا الاعتقاد. إذا تم حل مسألة المبدأ فسوف يُحلّ الكثير من المسائل الأخرى ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾3. ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾4.
حينما يعتقد الإنسان بهذه الأمور فإن هذه العزة الإلهية وهذا التوحيد الذي يعرض علينا هذا المعنى سوف يوفر للإنسان طاقة عظيمة لا نهاية لها ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾5. حينما يؤمن الإنسان بمثل هذا التوحيد وعندما نستطيع بسط ونشر مثل هذا الاعتقاد في حياتنا فسوف يتم علاج مشكلات البشرية الأساس.
القضية ؛ الأساس الثانية هي قضية المعاد والحساب وعدم انتهاء المطاف والأمور بزوال الجسم عند الموت. إنها لقضية على جانب كبير من الأهمية أنّ هناك حساباً وكتاباً ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾6. الشعب الذي يعتقد بهذا ويكون هذا المعنى في برامجه العملية: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾7. سوف يحدث تحول أساس في حياته. والاعتقاد بامتداد نتائج العمل يضفي المعنى على الإيثار والجهاد ويجعلهما أمرين منطقيين. ومن الأدوات المهمة للأديان - والموجودة في الإسلام بوضوح - قضية الجهاد، والجهاد يجب أن يكون مصحوباً بالإيثار، وإلا لم يكن جهاداً. معنى الجهاد هو التجاوز عن الذات وغضّ الطرف عنها. غضّ الطرف عن الذات شيء غير منطقي حسب منطق العقل الذرائعي. فلماذا أغض الطرف عن ذاتي؟ إنه الإيمان بالمعاد الذي يجعل هذا الأمر منطقياً وعقلانياً. حينما نؤمن أنه ما من عمل سوف يذهب سدى بل ستُحفظ جميع الأعمال وسوف نراها في حياتنا الحقيقية الآخرة ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾8 عندها لو خسرنا هنا شيئاً في سبيل أداء التكليف والواجب فلن نشعر بالخسارة حتى لو كان ذلك الشيء هو أرواحنا أو أحباؤنا وأبناؤنا. يجب أن تُدرج هذه الأمور ضمن نموذج التطور وتكتسب معناها في تقدم المجتمع. إذن، فالمسألة الأصلية هي مسألة التوحيد والمعاد.
ثم هناك مسألة عدم الفصل بين الدنيا والآخرة: "الدنيا مزرعة الآخرة"9، وأخال أن بعض الأعزاء قد أشاروا لذلك، وهي مسألة مهمة جداً.
فالدنيا غير منفصلة عن الآخرة. والآخرة هي الوجه الآخر لعملة الدنيا. ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾10. الكافر في الجحيم منذ الآن، لكنه جحيم لا يدركه الكافر ولا يشعر به. وبعد ذلك حينما يتجسد الأمر سيفهم. والكافر الآن ذئب لكنه لا يشعر أنه ذئب، ونحن ذوي الأبصار المقفلة أيضاً لا نراه ذئباً، ولكن حين نستيقظ من نومنا سنرى أنه ذئب. إذن هناك ترابط بين الدنيا والآخرة بهذا المعنى. يجب أن لا نتصور أن الدنيا تشبه أوراق اليانصيب، لا، إنما الآخرة هي الوجه الآخر لهذه الدنيا، والوجه الآخر لهذه العملة.
المسألة الأخرى هي مسألة الإنسان، ونظرة الإسلام للإنسان، ومحورية الإنسان. لهذا الموضوع في الإسلام معنى واسع جداً. واضح أن الإنسان في الإسلام والإنسان في الفلسفات المادية الغربية والوضعية في القرن التاسع عشر وما بعد ذلك مختلفان أشد الاختلاف. فهذا إنسان وذاك إنسان آخر، بل إن تعريف هذين الإنسانين ليس واحداً. ومن هنا فإن محورية الإنسان في الإسلام تختلف تماماً عن محورية الإنسان في تلك المدارس المادية. الإنسان محور، وكل هذه القضايا التي نبحثها من قبيل قضية العدالة وقضية الأمن وقضية الرفاه وقضية العبادة هي من أجل سعادة الإنسان. مسألة السعادة ومسألة العقبى تتعلق هنا بالفرد، لا بمعنى أن يغفل الفرد عن حال الآخرين ولا يعمل لهم، لا،﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾11.
جاء في الرواية أنهم سألوا الإمام عليه السلام عن معنى هذه العبارة فقال إن تأويلها الأعظم هو أن تهدي أحد الناس، وواضح أن الهداية من واجب الجميع، لكن الأمر المطروح من قبل الإسلام للإنسان والذي يعدّ الأمر الأهم هو نجاة الإنسان نفسه. علينا إنقاذ أنفسنا وتخليصها. ونجاتنا هي في أن نعمل بواجباتنا وعندئذ سيكون العمل بالواجبات الاجتماعية وتكريس العدالة وتأسيس حكومة الحق ومكافحة الظلم والفساد من مقدمات تلك النجاة. إذن هذا هو الأصل وكل شيء مقدمة والمجتمع الإسلامي أيضاً مقدمة والعدالة أيضاً مقدمة. حين يقول القرآن الكريم: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾12، ويذكر ذلك باعتباره هدف الأنبياء - ولا شك أن العدل هدف، لكنه هدف وسيط والهدف النهائي عبارة عن فلاح الإنسان..
هذا ما ينبغي التنبه له، فالإنسان مخلوق مكلف ومختار وموضوع للهداية الإلهية - ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾13. وبوسع الإنسان أن يختار الهداية وبمقدوره أن يختار الضلالة، فالإنسان مخلوق ملتزم أمام نفسه وأمام مجتمعه وأهله. وحسب هذه النظرة ستكون الديمقراطية علاوة على كونها حقاً من حقوق الجماهير، واجباً من واجباتهم، بمعنى أن جميع الناس مسؤولون بخصوص مسألة الحكم في المجتمع، ولا يمكن القول إن هذه المسألة لا تتعلق بي. لا، صلاح البلاد وفسادها ونظام الحكم أمور ترتبط بكل الأفراد، أي إن الإنسان ملتزم حيالها. هذا أيضاً من العناصر الأصلية التي ينبغي ملاحظتها في الرؤية الإسلامية ومراعاتها في هذا النموذج.
المسألة الأخرى هي مسألة الدولة ونظام الحكم، فللإسلام في هذا الباب أيضاً نظرياته وآراؤه الخاصة. الأهلية الفردية في أمر الدولة في الإسلام قضية أساس وعلى جانب كبير من الأهمية. كل من يريد تولي جزء من الإدارة يجب أن يوفر لذلك الأهلية في نفسه أو يجد الأهلية في نفسه، ومن دون ذلك يكون قد ارتكب عملاً غير شرعي. عدم العلو وعدم الإسراف وعدم الاستئثار قضايا مهمة في أمر الحكم. يقول الله تعالى حول فرعون: ﴿كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ﴾14.
أي إن خطيئة فرعون هي أنه كان عالياً. وبهذا فالعلو والاستعلاء بالنسبة للحاكم صفة سلبية وليس من حقه أن يستعلي، ولا من حقه إذا كان من أهل العلو أن يتقبل السلطة، ولا من حق الناس أن يتقبلونه باعتباره حاكماً وإماماً للمجتمع. والاستئثار معناه أن يريد الإنسان كل شيء لنفسه، وهو في مقابل الإيثار. والإيثار معناه تقديم كل شيء لصالح الآخرين والاستئثار معناه أخذ كل شيء من الآخرين لصالح الذات. العلو والاستعلاء والاستئثار من الصفات السلبية للحاكم. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حول بني أمية: "يأخذون مال الله دولاً وعباد الله خولاً ودين الله دخلاً بينهم". فالسبب في عدم صلاحيتهم للحكم هو هذه الصفات فيهم، "يأخذون مال الله دولاً"، أي إنهم يتداولون الأموال العامة فيما بينهم، "وعباد الله خولاً"، ويعتبرون الناس كالعبيد لهم ويستخدمونهم كالخدم، "ودين الله دخلاً بينهم" ويتلاعبون بدين الله كيفما حلا لهم. وعلى ذلك فللإسلام رأيه في نظام الحكم، وهذا ما يجب أخذه بنظر الاعتبار في نموذج حياتنا على المدى البعيد.
وبخصوص المسألة الاقتصادية قدّم السادة بحوثاً جيدة. ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾15 معيار مهم. قضية العدالة مهمة جداً. لا بد أن تكون العدالة من الأركان الأصلية في هذا النموذج. بل إن العدالة هي معيار الحق والباطل في الحكومات والدول. بمعنى إذا لم يوجد معيار العدالة كانت الحقيّة والشرعية موضع نقاش وتشكيك من وجهة نظر الإسلام.
المسألة الأخرى هي النظرة غير المادية للاقتصاد. الكثير من هذه المشكلات التي ظهرت في العالم إنما هي بسبب النظرة المادية للمسألة الاقتصادية ومسألة المال والثروة. كل هذه الأمور التي ذكرها الأعزاء حول انحرافات الغرب والمشكلات العديدة وحالات الاستثمار والاستعمار وما إلى ذلك بسبب النظرة المادية للمال والثروة. يمكن تصحيح هذه النظرة. فالإسلام يهتم بالثروة ويقيم اعتباراً لها. وإنتاج الثروة في الإسلام عملية محبذة، ولكن بنظرة إلهية ومعنوية. والنظرة الإلهية والمعنوية هي أن لا تُستخدم هذه الثروة للفساد والهيمنة والإسراف وإنما تُستخذم لصالح المجتمع.. وغير ذلك من المسائل العديدة الموجودة.
المواضيع والنقاشات هنا كثيرة، ولا أريد إطالة الكلام، فقد انقضى الوقت ولا ضرورة لطرح هذه النقاشات في هذه الجلسة. وستكون لنا أوقات كثيرة إن شاء الله لمثل هذه النقاشات إذا كُتبت لنا أعمار.
إعداد
النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدم عملية تحتاج إلى طاقات الجميع
قلنا إن هذه بداية طريق.. أي إن جلستنا الليلة هي بداية، ويجب أن يتواصل هذا
السياق. قد يكون من الضروري عقد عشرة أو عشرات الاجتماعات والملتقيات حول قضية
النموذج الإسلامي - الإيراني للتقدم. وقد يكون من الضروري عقد عشرات الحلقات
العلمية في مختلف الجامعات لأجل ذلك.
قد يكون المئات من المثقفين والواعين والنخبة والعلماء في إيران الذين يفضلون العمل الفردي وليسوا من أهل العمل الجماعي، قد يكونون مستعدين للدراسة في بيوتهم ويجب الاستفادة من هؤلاء. يجب تشكيل حلقات فكرية، ولا بد من انهماك الجامعات والحوزات في هذه المسألة لنستطيع إن شاء الله الوصول بهذا المشروع إلى محطته المنشودة.
طبعاً التقرير الذي قدمه السيد داودي كان جيداً جداً، ولم أكن عديم الإطّلاع بالمرة على الأمور التي ذكرها، لكننا لم نكن مطّلعين على هذه التفاصيل. هذه حالة جيدة جداً ولا تنافي بين الأمرين. هذه العملية ليست عملية جماعة خاصة ومحدودة إنما هي عملية يجب أن تشترك فيها جميع إمكانيات النخبة في البلاد. وكما قلنا فهي ليست من المشاريع قصيرة الأمد والتي تؤتي نتائجها بسرعة بل هي عملية طويلة الأمد يجب أن تتم، ونحن لسنا في عجلة، بل سوف نتحرك ونسير إلى الأمام، وهي ليست من تلك الأمور التي تستطيع الحكومات أو المجالس المصادقة عليها، وإنما هي كما ذكرنا فوق كل الوثائق المهمة والفاعلة في البلاد، ويجب أن تقطع مراحل عديدة وتصل إلى قوامها اللازم. يجب تنضيج هذه الأفكار تماماً لتصل إلى مرحلة أساس.
ضرورة
تأسيس مركز للإشراف
ولا بد من وجود مركز لهذه المهمة يتابعها ويرصدها، وسوف نؤسس هذا المركز إن شاء
الله. يجب أن يكون هناك مركز من دون أن يحتكر لنفسه هذه الحركة، وسوف لن نتوقع من
ذلك المركز أن يقوم هو بهذه المهمة، بل نتوقع منه أن يشرف على هذه الحركة العظيمة
التي يقوم بها النخبة في البلاد، ويتابعها ويرصد أخبارها، ويساعد النخبة في مهمتهم
ويدعمهم بمختلف الوسائل والأساليب، بحيث لا تتوقف هذه الحركة. طبعاً قلنا إنه لا بد
من مركز أو لجنة، وسوف يصار إلى تأسيس هذا المركز إن شاء الله. وعليه، فإن عملنا
معكم لن ينتهي الليلة، أي إن هذه المسألة ليست مسألة تبدأ في هذه الجلسة وتنتهي في
هذه الجلسة، بل سوف تستمر إن شاء الله. وطبعاً ستكون هناك مجاميع متعددة، فهناك
الكثير من الأفراد والشخصيات. وكما أوصى السيد واعظ زاده وطلب، أطلبُ أنا أيضاً من
السادة الذين لديهم آراء وكانوا يريدون طرحها أن يقدموا آراءهم هذه. والطروحات التي
ذُكرت هنا بعضها مما يجب أن يفكر فيه الإنسان، أي يجب تشكيل حلقات فكرية تبحث في
هذه الآراء وتناقشها وتدافع عنها أو تسجل مؤاخذاتها وإشكالاتها عليها وتأخذ وتردّ
وتناقش كما عند طلبة العلوم الدينية حين يقولون: إن قلتَ قلتُ، لنصل إلى نتائج جيدة
إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- طلب السيد واعظ زاده من سماحة
قائد الثورة الإسلامية أن يلقي كلمة مفصلة في هذا الاجتماع.
2- سورة البقرة، الآية 156.
3- سورة الحشر، الآية 24.
4- سورة الفتح، الآية 7.
5- سورة الحشر، الآية 23.
6- سورة الزلزلة، الآية 7.
7- سورة الزلزلة، الآيتان 7 و8.
8- سورة العنكبوت، الآية 64.
9- إرشاد القلوب، ج 1، ص 89.
10- سورة التوبة، الآية 49.
11- سورة المائدة، الآية 32.
12- سورة الحديد، الآية 25.
13- سورة البلد، الآيات 8 - 10.
14- سورة الدخان، الآية 31.
15- سورة الحشر، الآية 7.