السيد حسن نصر الله – ليلة الثالث من شهر محرم
2016
السيد حسن نصر الله – ليلة الثالث من شهر محرم
عدد الزوار: 188السيد حسن نصر الله – ليلة الثالث من شهر محرم 1438 – 2016
الصراع بين"إبليس وجنوده" و"الأنبياء وأتباعهم" جوهر
التنازع البشري
المحاور الرئيسية
• منطلق الصراع قتل قابيل لأخيه
• قوة إبليس الحقيقة: التزيين والإغواء
• لا سلطان لإبليس على المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا
خاتم النبيين أبا القاسم محمد ابن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه
الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك عليكم
مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا جعله الله آخر العهد
مني لزيارتكم. السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب
الحسين.
السادة العلماء، الإخوة والأخوات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته. وعظّم
الله أجوركم.
جوهر المعركة القائمة على وجه الأرض
عندما نكون في ذكرى كربلاء، وأمام حادثة كربلاء وما جرى فيها، ونبحث عن عمق المسألة،
كذلك ما كان يجري على الناس في هذه الأرض، قبل كربلاء وبعدها، في هذا الزمن الحاضر
إلى قيام الساعة، يمكن بل يجب أن نعود فيه إلى الأساسيات، إلى الجذور، إلى أصل
المسألة، وأصل الصراع وحقيقته وعمق المعركة وأساسها، والله سبحانه وتعالى حدّثنا عن
ذلك في كتابه الكريم في العديد من الصور. وفي الحقيقة، سنحاول أن نذهب إلى جوهر
الصراع، وجوهر المعركة القائمة على وجه الأرض.فما هي قصة هذه المعركة القائمة؟
المرحلة الأولى: تشخيص المعركة وحقيقتها وميدانها
في القرآن الكريم، الله سبحانه وتعالى، يحدّثنا عن قصة آدم وإبليس. آدم هو مصداق
لعنوان ومفهوم كلّي هو الإنسان. وإبليس، هو اسم لشخص ينتسب إلى الجن، والجن هو مثل
الإنس - أي مثل الإنسان - عنوان كلّي لأشخاص.
بين آدم وإبليسن: عندما يتحدّث الله سبحانه وتعالى عن قصة في القرآن، ـ الكتاب
الخالد ـ هذا يعني أن هذه القصة لها أهمية كبيرة ولها دلالات وعِبَر ودروس وتأثير
على حياة الناس لأنّ القرآن ليس كتاب تاريخ وقصص وإنما كتاب هداية بالدرجة الأولى.
وعندما يعيد نفس القصة، ببيان زائد أو ناقص بعدد من سور القرآن، فإن ذلك دليل
الأهمية الفائقة والعالية لهذه القصة وتأثيرها في هداية البشرية، وإرشاد الناس،
والإضاءة على الطريق، وتحديد المسؤوليات، والإشارة إلى عمق المعركة والصراع
القائم.اليوم سأطرح هذا الموضوع، كمقاربة بالأدبيات المعاصرة في هذا الزمن.
أ ــ الله يختار آدم خليفة له وإبليس يتمرد
قبل أن يخلق الله سبحانه وتعالى آدم، أب البشرية، كان قد خلق السماوات والأرض
والملائكة والجن والحيوانات... إلى آخره. كانت الملائكة تعبد الله سبحانه وتعالى
وكان رجلٌ من الجن، شخص محدّد – لأنّ القرآن يتحدّث عن رجال من الإنس ورجال من الجنّ
– اسمه إبليس، كثير العبادة لله عزّ وجلّ، عابد، زاهد، ساجد، راكع، مسبّح، ذاكر،
ولشدّة عبادته وكثرتها عُدَّ في جَمع الملائكة والتحق بهذا الجَمع المبارك، والعظيم
والمقدّس. ثم أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل في الأرض خليفة، ولم يكن قد اتخذ أياً
من الملائكة أو أياً من الجنّ خليفة، وإنما اختار الإنسان، اختار آدم الإنسان. وهذا
من كرامة الإنسان وعظمته عند خالقه. اختار الإنسان آدم ليكون خليفته في الأرض،
وعلّمه الأسماء كلّها، واحتجَّ به على الملائكة والموجودات والمخلوقات، وبيَّن فضل
آدم وجدارته للخلافة. ثم أمر الملائكة بالسجود لآدم - لم يكن سجود عبادة، وإنما
سجود تعظيم، وتكريم، وتقدير لخليفة الله في أرضه؛ هذا الموجود، المخلوق، المكرَّم
من الله والمميَّز من عند الله سبحانه وتعالى – فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا هذا
الرجل من الجنّ ـ والذي هو بالأصل دخيل على الملائكة تإلا إبليس، أبى واستكبر
وتمرَّد. لأنّ داخله كِبَر وعُجُب وأنانية وحسد وعنصرية. قال أنا خيرٌ منه، خلقتني
من نار وخلقته من طين. هذه هي العنصرية. وكان هذا التمرّد الأوّل.
ب ــ الله يعرّف آدم وزوجه عدوهما ويحذرهما منه
الله سبحانه وتعالى طرد هذا المتمرّد من رحمته ولعنه. وأصبح لعيناً، مطروداً، رجيماً،
مغضوباً عليه لعصيانه لربّ العالمين. طلب إبليس من الله سبحانه وتعالى أن يمدَّ في
عمره إلى يوم يبعثون؛ قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. وقَبِل الله سبحانه وتعالى أن
يمدّ في عمر إبليس إلى وقت اليوم المعلوم. ثم أمر الله سبحانه وتعالى أن يسكن آدم
وزوجه الجنّة. بغض النظر إن كانت الجنّة في السماء أم في الأرض، هذا موضوع آخر. لكن
من بداية الطريق قال له: هذا هو العدو. من بداية الخِلقة، من الأحداث الأولى، الله
سبحانه وتعالى قال لآدم وزوج آدم، ومن وراءه لكل وُلد آدم وذريّة آدم، قال لهم هذا
هو العدو. وهنا تكمن أهمية معرفة العدو منذ اللحظات الأولى. وعي العدو، معرفة العدو،
تشخيص العدو، عدم الاشتباه في تشخيص العدو وتحديد العدو، هذا أساس في النصر، وفي
الفوز وفي أي معركة: سياسية، عسكرية، أخلاقية، ثقافية، انتخابية... - أن تعرف صديقك
وأن تشخّص عدوك.
ج ــ إبليس يعلن الحرب على آدم وذريته
فالله سبحانه وتعالى منذ البداية، عرَّف آدم عدوّه الحقيقي واللدود، وأكثر من هذا
نبّهه وحذّره وكشف له مخطّط هذا العدو. وسندخل في هذا التفصيل.
عندما طلب إبليس من الله سبحانه وتعالى أن يبقيه على قيد الحياة إلى يوم يبعثون،
وتمرّد على الإرادة الإلهية والأمر الإلهي، وفي تلك اللحظة بالذات أعلن هدفه بصراحة،
بدأ معركته وأعلن هدفه بصراحة. والله سبحانه وتعالى عندما يحدّثنا في القرآن،
يحدّثنا وينبّهنا ويعلّمنا ويعرّفنا ويهدينا ويرشدنا إلى هدف هذا العدو، فهو لم يقل
لنا بأن إبليس هو العدو فقط، بل يبيّن لنا هدف هذا العدو وغايته.
إبليس أعلن هدفه من موقع الانتقام والثأر. فالقصة بدأت: حسد، كبرياء – كل ما يجري
بدايته حسد – ثم الاستمرار من موقع الانتقام الثأر. وإبليس قال مخاطباً الله عزّ
وجلّ: أرأيت هذا الذي كرّمته عليّ، هذا الذي فضّلته عليّ [آدم]، سأريك ماذا سأفعل
به. هذه من البدايات وحتى من بداية دخول آدم للجنة.
﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ
عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ – اسمعوا يا وُلد آدم -
لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً﴾
(الإسراء: 62) يعني لأستولينَّ عليهم أو لأستأصلهن بالإغواء، أعطني هذه الفرصة فقط.
في أماكن أخرى، الله سبحانه وتعالى يقول نصّاً آخر:
﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي – إبليس
يخاطب الله - لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ﴾
(الأعراف: 16) بمعنى هذا طريقك المستقيم سأنصب فيه الكمائن كي أمنعهم من الوصول
إليك . لذلك أول قاطع طريق، هو إبليس. وأكبر قطّاع طرق في هذا الكون هو إبليس. أي
طريق؟ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى.
﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
(الأعراف: 17). إذا استطاع إبليس أن يوصلنا إلى الكفر الإيماني والعقائدي، أن ننكر
وجود الله، فهذا عمل ممتاز بالنسبة له وهو السقف الأعلى لديه. وفي حال لم يستطع
الوصول بنا إلى هذا السقف الأعلى فالحد الأدنى بالنسبة له أن نكون كافري نعمة، أن
لا نكون شاكرين لله سبحانه وتعالى.
وفي آية ثالثة:
﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ﴾
(الحجر: 39 - 40). إذن، إبليس أعلن الحرب على آدم وزوجه وذريّته ووُلده إلى قيام
الساعة، وهي حرب لا هوادة فيها، وأعلن الهدف، والهدف هو قطع طريقهم إلى الله سبحانه
وتعالى.
هدف إبليس، ومشروعه، وجنوده من الجنّ والإنس، تحت مسمّى الشياطين في القرآن، هدفهم
هو التالي: قطع طريق وُلد آدم إلى الله سبحانه وتعالى، وإضلالهم، وإغوائهم،
وإسقاطهم إيمانياً، وسلوكياً، وأخلاقياً، وإنسانياً حتى لا ينعموا في الأرض،
بالدنيا، في الحياة الطيبة الشريفة التي أرادها الله لعباده وحتى يُزجَّ بهم في نار
جهنم في الآخرة.
وبالفعل، منذ ذلك الوقت، بدأت هذه المعركة.
1 ــ إبليس ينجح فيإخراج آدم من الجنة
الله سبحانه تعالى أتى آدم وقال له هذا إبليس، هذا عدوّك، هذه أهدافه، قد أعطيته
فرصة إلى يوم القيامة، إذن هذه معركة مفتوحة بينكما. أنت لديك الإرادة والعلم
والإمكانات، وهو لديه الإرادة والعلم والإمكانات أيضاً والمعركة بينكما. ولكن هذا
عدو فانتبهوا واحذروه.
الله سبحانه وتعالى في عدد من الآيات يقول:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ
وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾
(طه: 116 - 117)، الله سبحانه تعالى لم يحدّد له العدوّ فقط بل أيضاً حدَّد له هدف
العملية الأولى التي سيشنّها هذا العدو، هدفه أن يخرجكما من الجنة، قد أدخلتك هذه
الجنة لتبقى فيها ما شئت وأن تأكل فيها رغداً حيث شئت، وهي حلال، زلال، مباح،
نعيمها وكل ما فيها لك إلا هذه الشجرة، لا تقربها، وهذا إبليس عدوّك ويريد إخراجك
من الجنة.
إذن، الله سبحانه وتعالى شخّص العدوّ وحدَّد الهدف وكشف نوايا العدوّ في أول عملية
في هذه المعركة، ومن المفترض أنه أفقد إبليس عنصر المفاجأة، وينبغي أن يكون لدى آدم
الحيطة والحذر والانتباه اللازم في هذه المواجهة. لكن، طبعاً، هذه الجولة قد
خسرناها.
الله سبحانه وتعالى يخاطب الناس:
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا﴾
(فاطر: 6).
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾
(يوسف: 5).
﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن
لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾
(يس: 60).
عدوّ واضح، بيِّن، مُعلن، صارخ، فلما أنتم غير آبهين لعداوته، وغير متخذين موقع
المواجهة مع هذ االعدو؟
المرحلة الأولى، البعض يعتبرها مرحلة تأهيلية، مرحلة تجريبية، مرحلة تدريبية...
بالفعل، آدم وزوجه يسكنان الجنة ويأتي إبليس ليوسوس لهما، والقصة معروفة، فأخرجهما
من الجنة.
• الصراع بين آدم وإبليس ينتقل إلى الأرض
بكى آدم، وتاب، وندم، وتاب الله عليه واجتباه. لكن القصة لم تنتهي بعد، فهذه
الخسارة لها تداعياتها، وكبرى تداعياتها القرار الإلهي:
﴿اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً﴾
﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾،
فاهبطوا جميعاً على الأرض، آدم وزوجه وإبليس، ومن هنا بدأت المرحلة الجديدة التي ما
زالت مستمرة إلى الآن وإلى قيام الساعة.
وهنا يمكن أن نسجل النجاح الأول لإبليس،
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ
هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى﴾
(طه: 120)، وفي مكان آخر
﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا – آدم وزوجه
- فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾
(البقرة: 36).
وصلنا إلى أن الجميع قد هبط على الأرض، والله سبحانه وتعالى قال لهم هذه هي المرحلة
الجديدة في حياتكم إلى قيام الساعة.
ولذلك هنا، على هذه الأرض، يجب أن تواجهوا مسؤولياتكم، فالأرض ليست كما الجنة: كُلا
حيث شئتما رغدا، بل هنا عليكم أن تعملوا، وتزرعوا، وتحصدوا، وأن تواجهوا الجوع،
والعطش، والأعاصير، وأن تستغلوا الطبيعة، وعليكم أن تسجدوا، وتعبدوا، وأن تواجهوا
إبليس و... إلى آخره، وهنا ستتحملون المسؤولية وهنا ستعيشون، وهنا ستموتون وفي هذه
الأرض ستُدفون ومنها ستُبعثون من جديد ويوم القيامة بحساب.
يقول الله عزّ وجلّ:
﴿قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾
(الأعراف: 24) أي إلى قيام الساعة،
﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ – أي على الأرض -
وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾
(الأعراف: 25) أي إلى البعث، إلى الحساب، إلى القيامة.
وفي بعض الآيات نرى تتابع للمشهد:
﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
(البقرة: 38 - 39).
2 ـ قتل قابيل لأخيه وانطلاق الصراع الأبدي بين إبليس وذرية آدم
بطبيعة الحال، آدم وزوجه محصّنان نتيجة مجموعة من العوامل – ولسنا بصدد التركيز
عليها – فأصبح التركيز على وُلد آدم وذريّته، لأنّ الأرض هي أرض الذريّة والتناسل
والامتداد البشري. هنا تأتي الحادثة الأولى على الأرض، حادثة قتل الأخ لأخيه؛قتل
قابيل لهابيل بحسب الروايات. والقرآن عندما يتحدّث عن هذه القصة، لا يتحدث بالأسماء،
بل عن ابنَي آدم
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ
يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ
مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾
(المائدة: 27). فالقصة المعروفة، أنّ هابيل المؤمن، الصالح، النظيف، الطاهر، التقي
قدَّم قرباناً لله عزَّ وجلّ ـ بغض النظر عن التفاصيل ـ وقابيل السيّئ، الحسود،
الأناني، المتكبّر قدَّم قرباناً لله سبحانه وتعالى. فتقبَّل الله قربان هابيل
التقي لأنّه
﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾،
فغضب قابيل ولم يسلّم بهذه النتيجة وهدَّد أخاه بالقتل وطوَّعت له نفسه قتل أخيه
وقتله. طبعاً، هنا علينا أن نفتش عن دور إبليس والحسد. فالحسد الأول كان في بداية
المعركة - في السماء في الجنة حيث يُقال – والحسد عند المعركة الأولى، في الأرض.
لذلك، لا يستخفنَّ أحدكم بهذه الآفّة الأخلاقية والنفسية، الشيطانية، القذرة جدّاً.
وكان هابيل أول شهيد مظلوم يُقتل ظلماً وبغياً، وصار لإبليس جنديٌّ من وُلد آدم –
قابيل - ليكمل في غيّه، في ظلمه، في إجرامه، في طغيانه وفي إفساده، وهكذا تمّ فرز
معسكرين.
صراع بين معسكرين:"إبليس وجنوده" و"الأنبياء وأتباعهم"
إذا أردنا الكلام بلغتنا المعاصرة، فأوّل انقسام بشري، وأوّل صراع إنساني بشري،
وأوّل احتكاك يؤدي إلى قتل، أفرز معسكرين في الأرض، يتصارعان وما زالا يتصارعان إلى
قيام الساعة. هذا عمق الموضوع وهذا جوهره.
المعسكر الأول، آدم وزوجه، والصالحون من ذريّته، قادتهم الأنبياء وأتباع الأنبياء،
منذ آدم إلى خاتم النبيين.
والمعسكر الثاني، إبليس وجنوده من الجنّ والإنس.
فهذا معسكر وذاك معسكر، بل هذا مشروع وذاك مشروع، وهنا عمق المعركة. وكلا المعسكرين
له أهدافه، ويتصارعان في هذه الأرض، وفي هذا العمر، وعلى امتداد الأجيال.
المعركة الحقيقية لم تكن بين آدم وقابيل، بل كانت بين آدم وإبليس منذ البداية وبقيت
بين آدم وإبليس. كما لم تكن بين نوح والملأ الأعلى المتكبّرين من قوم نوح، بل هؤلاء
كانوا ألعوبة في يد إبليس؛ هم سلّموا رقابهم وعقولهم وقيادهم لإبليس. ومعركة
إبراهيم، لم تكن بين إبراهيم ونمرود في الجوهر والحقيقة، بل كانت بين إبراهيم
وإبليس؛ بينما نمرود كان ألعوبة في يد إبليس. وسيأتي تفسيره لاحقاً. وهكذا بين موسى
وفرعون. وبين السيد المسيح وطغاة زمانه. وبين رسول الله محمد (ص) وأبي جهل وطغاة
قريش، فالمعركة كانت مع إبليس. فأبو جهل مجرد جندي، أو ضابط، أو قائد في جيش إبليس.
لنصل إلى أن قائد المعسكر الذي يوجّه ويخطّط ويوسوس هو إبليس. وهذه المعركة مستمرة
إلى النهايةبين المعسكرين والمشروعين.
معسكر إبليس؛إبليس وجنوده من الإنس والجن – قد بيَّنت سابقاً عن هدفه- يريدون
للإنسان ـ كفرد، وللناس، وللبشرية أن تضلَّ وتزيغ وتنحرف وتُنكر الخالق وتكفر
بنعمائه وتظلم وتطغى وتنشر الفساد وترتكب الجرائم ويكون لها بؤس الدنيا وعذاب
الآخرة. بالتالي، هذا مشروعه بالكامل، وهذا كل ما كان يحدث من يوم قابيل إلى هذا
الجيل. وفي المقابل، الأنبياء وأتباع الأنبياء يريدون للإنسان، الفرد، وللناس
وللبشرية أن يكونوا مؤمنين بربهم، عارفين له، شاكرين لنعمائه، مطيعين لأوامره،
عابدين له في أرضه، لتكون لهم الحياة الطيبة الشريفة الكريمة في الدنيا، وليكون لهم
النعيم الخالد في الآخرة.
إذن، هذه أهداف كل معسكر على حدة، وبالتالي كل ما يحدث في المعركة هو تطبيقات،
مصاديق، تجليات، تجسّدات... من جيل إلى جيل ومن زمن إلى زمن، فجوهر المعركة وحقيقة
المعركة ثابتة وواضحة وواحدة وهي تلك التي بدأت منذ أن أمر الله سبحانه وتعالى
الملائكة أن يسجدوا لآدم.خلاصة هذه المرحلة هو تشخيص جوهر المعركة وحقيقتها، وأيضاً
ميدان المعركة.
• ميدان المعركة الإنسان فردا وجماعة
وميدان المعركة هو الإنسان، الإنسان الفرد، والإنسانالجماعة؛ الناس. القتال بين
المعسكرين على الناس، الأنبياء يريدون هؤلاء الناس لله ولخير الدنيا والآخرة
ولسعادة الدنيا والآخرة، وللعبودية الحقّة لربّ الأرباب. وإبليس يريد الناس لجهنم،
ويريدها للشقاء، ويريدها للجريمة، وللفساد، وللظلم، وللطغيان، وللفتنة، وللضلال
وللانحراف. إذاً، ساحة القتال هي ساحة الناس. ميدان المعركة هو الإنسان.
المرحلة الثانية: معركة وجود الإنسان
الله تعالى جهز الإنسان بقدرات كافية لهزيمة إبليس
في هذه المرحلة، كما أنه واجب علينا معرفة العدو، علينا أيضاً معرفة إمكانات العدو:
قدراته، خططه، أساليبه، وسائله، تكتيكاته، نقاط ضعفه وقوته، فترة صموده. هذا هو
العدو الذي نخوض معه معركة مصيرية ولكن في المقابل علينا معرفة إمكاناتنا، وقدراتنا،
ونقاط ضعفنا وقوتنا، وحصننا، وعيوبنا، وثغراتنا، وإمكانية تسلل العدو إلينا،
وإمكانية استغلاله لنا، أيضاً هذا جزء من المواجهة.
فالذي يريد الذهاب إلى المعركة، دون معرفة عدوّه، ولا إمكانياته، ولا خططه، ولا
ظروفه، وأيضاً عدم معرفة إمكاناته هو، كعدد عسكره، وكمية ذخيرته وسلاحه، وفترة
صموده، وإمكانية صمود الناس معه، فهو حتماً ذاهب إلى الضياع.
فمن شروط العركة الطبيعية، مهما كانت، أن تعرف العدو وإمكاناته وخططه وأن تعرف نفسك
أو جبهتك وإمكاناتهم... إلى آخره.
في هذه المعركة الكبرى - من البداية إلى النهاية مع إبليس وجنوده –معركة وجود
الإنسان الذي سيخوض المعركة ويواجه ويدافع. فإبليس لديه إمكانات كبيرة وكثيرة جداً
وأيضاً الإنسان لديه إمكانات. فلولا أن الله أعطى لهذا الإنسان الإمكانات وقدرة على
إلحاق الهزيمة بإبليس، ومشروع إبليس، وجنود إبليس، لِما كان طلب الله من الإنسان أن
يُلحق بهم الهزيمة، وأن يقاتلهم، وأن لا يستسلم لهم، وأن لا يُسلِّم لهم عقله وقلبه
ودينه ونفسه.
ابنة التسع سنوات مطلوبٌ منها هذه المعركة عند بلوغها سنّ التكليف، وابن الخامسة
عشرة مطلوب منه أيضاً هذه المعركة. السؤال: أتجعل شاب صغير مقابل إبليس؟ نعم، فهذا
الشاب الصغير يستطيع أن يلحق الهزيمة بإبليس وبكل مشروعه ولكن بشرطها وشروطها.
أــ إبليس وإمكانياته
1 ــالمعرفة والتجربة الواسعة
بداية، إبليس لديه من العلم الكثير إضافة إلى المعرفة. بعض الروايات تقول بأن إبليس
عبد الله مع الملائكة آلاف السنين قبل خلق آدم. وذلك نتيجة أنه شهد الملائكة،
وملكوت السماوات والأرض، ورأى الجنة، وشهد خلق آدم، فكلّ ما يحدّثنا به الله عزّ
وجلّ، قد شهده. وبطبيعة الحال شخص عاش من آلاف السنين وما زال على قيد الحياة سيكون
لديه تراكم تجربة وخبرة هائلين.
2 ــ معرفة وخبرة بالنفس البشرية
واليوم أيضاً، إذا تحدّثنا عن خبراء الحرب النفسية، من أعظم الخبراء في هذا الكون
بالحرب النفسية، إبليس، كونه لديه العلم والمعرفة والتجربة والخبرة ومواكبة لكل
المراحل التاريخية، والأهم معرفته بالنفس البشرية.
فالإنسان كإنسان – رجل كان أم امرأة - يحب بعض الأشياء ويبغض بعضها الآخر. مثلاً:
الإنسان يحب المال، الإنسان يحب السلطة والزعامة، الإنسان يحب حُسن الثناء والمديح،
الإنسان يحب كل ما هو جميل، الإنسان يحب أن يعيش كما يشاء يحبّ الدعة وهناءة العيش،
إذا استطاع أن لا يتعب فلا يتعب، وإذا أراد أن لا يضحي فلا يضحي، وإذا واتته الفرصة
أن ينال كل شيء أمامه فهو يحب ذلك، وبالتالي فالإنسان لديه حاجات جسدية، جنسية،
اجتماعية... وإبليس يعلم كل ذلك، ويعلم أنّ الإنسان، عموماً، لديه نقاط ضعف، خاصة
عند وجود الأرضية للحسد والغضب، وبالتالي فإن إبليس يقوم بعملية استطلاع ويكوّن ملف
شخصي لكل إنسان ليصل إليه عن طريق نقاط ضعفه.
وألفت نظركم، إخواني وأخواتي، أنه يجب معرفة إمكانيات عدوّكم لأنّ هذه المعركة هي
على مدار الساعة والدقيقة والثانية وحتى على مدار النَفَس؛ معركة دائمة ومستمرة،
تبدأ من سن التكليف لغاية خروج الروح من الجسد.
إذاً، عدوّنا لديه إمكانيات معلوماتية هائلة جداً، لديه إحاطة بالمحيط والمعلومات
التي تتعلق بنا، لأنّه يريد أخذنا والسيطرة علينا، على عقولنا، على أنفسنا، على
قلوبنا، على إرادتنا، على قرارنا، على سلوكنا وبالتالي لديه المعلومات الكافية. إذن،
هو عدوّ خطير. هذا أولاً.
ثانياً، إضافة إلى الإحاطة المعلوماتية الكبيرة جداً، لديه خبرة بالنفس البشرية -
بمعنى كيفية التعاطي مع كل إنسان – ويخاطب كل إنسان باللغة التي يفهمها ويحبها وكلٌّ
حسب حاجته. إذاً، عُمدة إبليس هو التسلل.
ب ــ قوة إبليس الحقيقة: ليست أكبر من التزيين والإغواء
لكن، وهذا هو الأهم، ما هي قدرة إبليس الحقيقية؟
بغض النظر عن كل ما سبق وذكرناه؛ إبليسهذا – رغم كل ما يدور حوله – هو مخلوق ضعيف
﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾
(النساء: 76). ما الذي لدى إبليس؟ هل الله أعطاه ولاية تكوينية وسلطة على الوجود؟
كلا، بل هو مخلوق ضعيف، لسانه قوي وشاطر، كل ما لديه هو التزيين والوسوسة – شيء
حقير وتافه يزيّنه ويهندسه ويقدّمه كأجمل ما يكون؛ يزيّن الفكرة، ويزيّن الموقف.
إضافة إلى أن إبليس لديه خبرة بالقوانين، والشرائع، والأديان، والمذاهب. فللفقيه
يأتيه كفقيه، وللمتديّن كمتديّن، ولتاجر المخدرات كتاجر مخدرات، وللمجرم كشخصية
مجرم، هو يفهم نقاط ضعف كل إنسان ويعلم بالمخارج الفقهية، والشرعية، والقانونية،
والحيل، والخدع والأكاذيب... يعني خبرة عظيمة بهذا الموضوع.
نعم، هو قادر على تزيين كل شيء، مثال على ذلك، كيف أصبحت الناس تعبد الأصنام؟ هي
حتماً تعلم أن هذا الصنم مجرد حجر، لكنه وسوس إليهم بأنكم أنتم تعبدون الله ـ وهي
ترمز إلى الله ـ فاعتبروها فكرة معقولة ومع مرور الوقت أصبحوا يعبدون الصنم كإله.
إبليس، يسير بالتدرّج، يشتغل بمرحليّة، وهذه إمكانياته عن طريق الوسوسة.
إذاً، إبليس، يزيّن، يمنّي، يَعِد، يسوّل، يسوّف، يُنسّي، هذه هي قدرات إبليس.
بالعودة إلى أصل القصة: الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾
بمعنى أنه عندما أخرج آدم من الجنة، لم يسحب عليه السلاح، ولم يهدده بالقصف، ولم
يغرِه بالمال. مجرد عملية خداعفقط وآدم صدّقه. كل عمل إبليس كان عملية وسوسة.
• لا سلطان لإبليس على المؤمنين
نأتي للسؤال الأخير: أليس له سلطان على الناس؟ بعض الناس يقول بأن الله سلّط علينا
إبليس والشياطين وليس لنا القدرة على مواجهته. ويبحثون عن الأعذار للاستسلام.
الجواب، كلا. الله لم يعطِ سلطان لإبليس، بل سلطان إبليس يكون على الذي يسمح له
بذلك، ويسمح له بأن يتسلّط عليه ليصبح كل شيء بخدمته وبخدمة مشروعه، ولا يضع حدود
لعدوّ الله، الحقير، المتآمر منذ خلق آدم إلى قيام الساعة.
فأنا عبدٌ لله ولست عبداً له [إبليس]، وأنا إنسان ولي كرامتي، وأنا ابن آدم الذي
أمرك [إبليس] الله بأن تسجد له، سجود تعظيم وتكريم، فكيف تريدني أن أصبح عبدك وأن
أخضع لك وأتبع أوامرك؟ لا.
يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ
إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾
(الحجر: 42) – بمعنى من يتّبعك [إبليس] بسبب اتّباعه لك يصبح لك سلطان عليه.
من أراد أن يكون عبداً لله يستطيع أن يكون عبداً لله، ومن أراد أن يكون عبداً
للشيطان؛ هو يعطي للشيطان سلطاناً على نفسه.
وفي آية أخرى قال تعالى:
﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُون﴾
(النحل: 98 - 100).
وفي آية ثالثة:
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ
اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ﴾ِ–
اعتراف بإبليس بالحقيقة -﴿
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ﴾
– إبليس هنا لا يتحدث مع المؤمنين بل مع جماعته -﴿إِلاَّ
أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم
مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ
أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
(إبراهيم: 22).
ج ــ قدرات الإنسان في وجه إبليس
السؤال المطروح: هل نستطيع أن نواجه إبليس الذي يملك هذه الإمكانات؟ ما هي
المقدّرات التي أعطانا الله سبحانه وتعالى إياها ليحمّلنا مسؤولية هذه المواجهة
وليطلب منّا أن ننتصر في هذه المواجهة؟ في بعض المعارك المطلوب أن نقاتل والنصر
نتيجة ليست مطلوبة منّا لكن في المعركة مع إبليس المطلوب أن ننتصر وليس أن نقاتل
فقط، المطلوب أن نلحق بالهزيمة بإبليس. إذاً، ما هي هذه القدرات لإلحاق الهزيمة
بإبليس؟