صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله
مقتطفات أخلاقية
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "أنه كان يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه، شغلا بالله عن كل شيء"
عدد الزوار: 452
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "أنه كان يحدثنا ونحدثه فإذا
حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه، شغلا بالله عن كل شيء" البحارج81ص258..وقد
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل
ويتلون، فيقال ما لك يا أمير المؤمنين ؟، فيقول (عليه السلام): "جاء وقت الصلاة،
وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن
منها"المستدرك- كتاب الصلاة..وعن السجاد (عليه السلام) عندما يصفر لونه، فيقال له:
ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء ؟، فيقول: "ما تدرون بين يدي من أقوم ؟"المحجةج1ص
351..فالصلاة التي هي معراج المؤمن تحتاج إلى ( تهيـؤ ) واستعداد، ( توفّرها )
المستحبات والواجبات السابقة على الصلاة..إضافة إلى ( استحضار ) أن الصلاة ورود على
رب الأرباب، ومثل ذلك لا يتم دفعة واحدة وبذهول يعتري أغلب المصلين..ومما ذكر يعلم
السر في أن صلاة عامة الخلق، فاقدة لأعظم خواصّها المتمثلة بالنهي عن الفحشاء
والمنكر.
دفع المقتضي قبل المانع
ينبغي الالتفات إلى قاعدة المقتضي والمانع في ارتكاب المحرمات..فبدلا من أن
نسعى ( لمنع ) تحقق المعصية بعد استكمال مقتضياتها، فإنه ينبغي أن نسعى ( لقطع )
روافد الخطيئة أو ( دفع ) مقتضياتها..فما يفرضه العقل هو أن لا يعرّض المرء نفسه
لمثيرات الشهوات - حساً وفكراً - لئلا يتورط بالمواجهة، بعد اشتعال نيران الشهوات
في النفس، بما لا يطفؤها أعظم الزّواجر.
العذر عند التعب والمرض
قد يرى العبد نفسه معذورا في ( ترك ) الإقبال على الحق في ساعات المرض، أو
التعب الشديد، أو اضطراب الحال في سفر أو غيره، والحال أن وفاء العبد وشدة ولائه
لمولاه يتـبين في المواقف المذكورة..فلا يطلب من العبد أن ( يحرز ) الإقبال الفعلي
في تلك المواطن الحرجة، بمقدار ما يطلب منه أن يكون في ( هيئة ) المقبلين..ومن
المعلوم أن هذا السعي من العبد - في تلك الحالات الطارئة - مما يوجب له الهبات
العظمى في الساعات اللاحقة لها..كما أن التوجه إلى المخلوقين في مثل تلك الحالات،
مما يشكر من قِـبَلِهم أيضا..كمن يذكر صديقه في حال سفره أو مرضه أو تعبه.
حقيقة الركوع والسجود
روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: "لا يركع عبد لله ركوعا على الحقيقة، إلا
زيّنه الله تعالى بنور بهائه، وأظله في ظلال كبريائه وكساه كسوة أصفيائه، وفي
الركوع أدب وفي السجود قرب، ومن لا يحسن الأدب لا يصلح للقرب"البحار ج82 ص
108..فالركوع والسجود حركتان بدنيّتان يراد بهما إظهار الخضوع والتواضع ( القلبي )،
فمع خلوهما من الدلالة المذكورة استحالتا إلى حركة لا قيمة لهـا، شأنهـا شأن
الحركات التي يمارسها البدن في رياضة أو لهو أو غير ذلك..ومن الملفت ذلك التدرج من
الركوع وهو ( الأدب ) إلى السجود وهو ( القرب )، فمن لم يركع لا يؤذن له بالسجود
لعدم امتثاله لقواعد الأدب..ومن هنا يعلم ضرورة مراعاة المتقرب إلى الحق، لآداب
المثول بين يديه في كل آن من آناء حياته.
القلب كالمسجد
إذا لم يرض الشارع بإبقاء الخبائث ( الخارجية ) في المسجد وحكم بفورية إزالته،
فكيف يرضى ببقاء الخبائث ( الباطنية ) في قلب عبده المؤمن الذي يفترض فيه أن يكون
عرشا للرحمن ؟!..فكما ينبغي المسارعة في طهارة ( المسجد )، فإنه كذلك ينبغي
المسارعة في طهارة ( القلب ) قبل أن تتراكم الخبائث فيها بما يصعب معه إزالتها،
وبالتالي يتبدل ما خلق للطهارة والصفاء، إلى مجمَع للرجس والأدناس.
اجتياز حدود الحق
ورد التحذير في آياتٍ عديدةٍ من اجتياز حدود الله تعالى، فكما أن اجتياز الحدود
في البلاد يتم بخطوة واحدة توجب له العقوبة المغلّظة، فكذلك فإن ما يتجاوز به العبد
حدود ربه، قد يكون أمرا ( يسيرا ) إلا أنه قد يوجب له العقوبة الشديدة، عندما يكون
العبد قاصداً لمثل ذلك التجاوز..ومن هنا تأكد النهي عن ( المحقرات ) من الذنوب -
وهي التي يستهين بها صاحبها - والحال أنها قد تكون بمثابة الخطوة الأخيرة التي
تخرجه عن حدود مملكة الرب المتعال، بكل ما يحمله الخروج: من تبعات الحرمان من حماية
مملكة الحق له، والدخول في مملكة الطاغوت..وقد حذر الحق مرات عديدة في آية: "الطلاق
مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"من تعدي حدوده، وخاصة أنها تتعلق بالخلاف بين
الزوجين، الذَّين يسهل عليهما تجاوز الحدود، لعدم وجود ( الرقيب ) بينهما..أضف إلى
جوّ الخصومة التي تلفهما بما ينسيهما الحدود الإلهية.
العناية الخاصة
إن العبد الذي يود الدخول في دائرة العناية الخاصة التي تجعله يلتحق بركب
الأنبياء والشهداء، لا بد له من الإتيان بما يحقق له ( الترجيح ) من بين الخلق،
لئلا تكون الهبات الإلهية جزافاً بلاحكمة ظاهرة فيها..فهذا النبي المصطفى (صلى الله
عليه وآله وسلم)لم يُبتعث في أعلى درجات المرسلين، إلا بعد أن وجده الحق كما يصفه
الحديث القائل: "فلما استكمل أربعين سنة ونظر الله عز وجل إلى قلبه، فوجده أفضل
القلوب وأجلها وأطوعها وأخشعها وأخضعها، أذن لأبواب السماء ففتحت"البحار-ج17ص309.
الاستهزاء بالنفس
إن العبد قد لا ( يقصّر ) في الدعاء لإنجاح مهامه - وخاصة الأخروية منها - إلا
أنه ( يتقاعس ) في مقام العمل، حتى في القيام بالمقدمات البسيطة المحققّة لحاجته،
كمن يطلب مقام القرب وجوار الحق المتعال وهو لا يعلم تفصيل أحكام شريعته حلالاً
وحراماً، فضلا عن العمل المستوعب لجزئيات تلك الأحكام..ولطالما ( عتب ) على الحق -
في نفسه - لتأخر الإجابة، والحال أن غيره ممن أحرز الرتب العالية، جمع بين الدعاء
المتواصل والعمل الكامل..وقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: "من سأل
الله التوفيق ولم يجتهد، فقد استهزأ بنفسه"البحار-ج78ص356.
فضول النظر
كما أن الإكثار من القول من موجبات ( بعثرة ) الفكر وسد أبواب الحكمة في القلب،
فكذلك الأمر في فضول ( النظر )، فإنه من دواعي تكثّر الصور الذهنية التي توجب تفاعل
النفس مع بعضها تفاعلاً، يكدر صفو الفكر بل سلامة القلب، ومن هنا كان المحروم من
نعمة البصر أبعد من بعض دواعي الغفلة عند من أعطي نعمة الإبصار..وقد ورد في الخبر:
"إياكم وفضول النظر، فإنه يبذر الهوى، ويولد الغفلة"البحار-ج72ص199..وينبغي
الالتفات إلى دقة التعبير بـ( يـبذر )، فإن فيه إشعارا بأن الهوى المستنبَت من
النظر يتدرج في النمو كالبذرة، ليعطي ثماره الفاسدة من الوقوع في المعاصي العظام.
ذكرى الدار
إن الحق المتعال يصف مجموعة من الأنبياء السلف وهم: إبراهيم واسحق ويعقوب بأنهم
ذو ( الأيدي ) أي القوة في العبادة أو الحكم أو كليهما، و( الأبصار ) أي البصيرة في
الدين والدنيا..ثم يعقّب ذلك بأنهم أخلِصوا بصفة خالصة، وهي ذكرى ( الدار ) وهي
الآخرة..ومن ذلك يُعلم أهمية هذه الصفة الخالصة - وهي ذكرى الموت - في مسيرة
الأنبياء عليهم السلام، ولا شك في أنها مهدت السبيل لكونهم من المصطفَين الأخيار،
وهي غاية المنى من بين الغايات..وما قيمة الاصطفاء والاصطباغ بصبغة الأخيار عند غير
الحق المتعال ؟!.
كاشفية الزيارة
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: "من أراد الله به الخير، قذف في
قلبه حب الحسين (عليه السلام)، وحب زيارته"البحار-ج101 ص76..فالمستفاد من هذه
الرواية أن بعض الأمور لها صفة ( الكاشفية ) عن إرادة الخير بالعبد، ومن المعلوم أن
ذلك الخير بداية مرحلة لا خاتمة لهـا، فإن الحق المتعال أجلّ من أن يسوق خيراً إلى
عبده ثم يسلبه منه، إلا إذا صدر من العبد ما يوجب له ذلك الحرمان..ولـيُعلم أن هذا
الكاشف وإن كان أمراً جليلاً - في حد نفسه - إلا أنه يكشف عن أمرٍ جليلٍ آخر،
يستوجب الشكر من العبد مرتين، وخاصة مع ملاحظة أن كلمة القذف يستشعر منه ( الدفعية
) والمفاجأة..ومن هنا نجد حالات ( إنقلاب ) السلوك العملي عند بعض من شُـرّف بزيارة
أولياء الحق المتعال، فيعيش حالة من الإنابة والتوبة، يستشعر خفّتها في نفسه.
عدم الاسترسال المذهل
إن من الصفات المطلوبة للمؤمن، هو ( الإقبال ) على الخلق بشرط: عدم الاسترسال
أولاً، والهادفية ثانياً..فلا يُقبل على الخلق إلا حيث يرى في إقباله ( خيراً ) في
دنيا العباد أو في آخرتهم، ثم لا يُقبل في مورد الخير إلا بمقدار ما يتحقق به الخير،
فإن الإحسان إلى الخلق وخاصة إذا جمعه بهم جامع الإيمان والتقوى، لمن أعظم صور
العبودية للحق، إذ الحق هو المحسن إلى خلقه ويحب من يكون سبباً لذلك الإحسان، ومن
أحب شيئاً أحب أسبابه..ومن هنا يوصي الإمام الرضا (عليه السلام) أولياءه بقوله: "وإقبال
بعضهم على بعض والمزاورة، فإن ذلك قربة إلىّ"البحار-ج74ص 230..وإن من الملفت في هذا
الحديث أن الإمام (عليه السلام) يجعل الإقبال والمزاورة من موجبات القربة إليه، وهو
ملازم ( لمباركة ) الإمام (عليه السلام) لتلك المجالس التي يتم فيها التزاور
والإقبال.
الموت المتكرر
لو تأمل العبد في النظام الأحسن البديع في بدنه، لرأى أنه يعيش ( موتاً )
متكرراً في كل آن من آناء حياته..فصعود نَفَسه بعد الشهيق إنما هو حياة بعد موت،
ولولا ذلك الشهيق لقتله الزفير..ورجوع الدم النقي إلى شرايينه كذلك حياة بعد موت،
ولولا ذلك الرجوع لقتله الدم الفاسد الذي نقله الوريد..وعودة روحه إليه بعد المنام
كذلك حياة بعد موت، ولولا ذلك الرجوع لبقي العبد في برزخه إلى يوم يبعثون، هذا كله
فضلاً عن ( الحوادث ) القاتلة التي صُرفت عنه ولم يحط بها علماً..إن مجموع هذه
الأحاسيس، يدعو العبد للشكر المتواصل من أعماق وجوده، شكر من استوهب الحياة بعد
الممات، بكل ما يلزمه الشكر من شعور بالخجل ولزوم العمل بما يرضى به المنعم..وقد
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: "والذي نفس محمد بيده، ما طرفت
عيناي إلا ظننت أن شفراي لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي"البحار-ج73ص177.
منحة الانقطاع إلى الحق
إن العبد عندما يُعطى منحة الانقطاع إلى الحق في فترات من حياته، فإنه يستشعر
حالة من ( الثقل ) المرهق في معاشرة الخلق، والتوجه إلى جزئيات شؤونه اللازمة في
الحياة..وهذا شأن المستغرق في أي أمرٍ من الأمور، فإن ذلك يذهله عما سواه، كما
نلاحظ ذلك كثيراً في أبناء الدنيا عندما يستهويهم متاع من متاعها، أو يعشقون جمالاً
من جمالها، فيشغلهم ذلك عما سواه من المتاع أو الجمال، إلى حد الوله والافتتان
المستوجب للخبط والذهول..ومن هنا يلطف الحق بأوليائه في ( تخـفيف ) هذه الهبات
المتميزة، لئلا ( ينفرط ) عقد حياتهم، ويختل نظام معاشهم، مما لا يحتمله العباد
عادة، لانسحاب أثر ذلك على المحيطين به من أهله وعياله.
أهل التأمل والتفكير
إن من يمارس عملية ( التفكير ) والتأمل في المجال العلمي - ولو الدنيوي - يمتلك
( قابلية ) التركيز والسيطرة على الذهن في مجمل حياته..وبذلك يكون أقرب من غيره
للتأمل في ما يحسن التفكير فيه مما يتصل بأمر آخرته، كما أنه يكون أقدر من غيره على
التركيز الذهني في العبادة، وهو بدوره عامل مساعد للتفاعل النفسي معها..فعند انتفاء
الصورة المزاحمة والمنافرة لما تقتضيه العبادة -كالصلاة مثلاً - فإن النفس تكون (
أقدر ) على الالتفات إلى الجهة الواحدة التي أمِـر بالالتفات إليها..ومن هنا كان
أهل الفكر والنظر، أقدر من غيرهم على السير الفكري والنفسي إلى الحق المتعال.
أساليب الجذب
إن على الدعاة إلى الحق، ( مراعاة ) أساليب الجذب التي تحبّب القلوب إلى الله
تعالى في مختلف شؤون الطاعة، كما يجب عليهم ( الاجتناب ) عن أسباب تنفير
القلوب..ومثال ذلك في الأثر ما ورد في الحث على الصلاة بأضعف المصلين، فقد ورد في
النهج: "صلوا بهم صلاة أضعفهم، ولا تكونوا فتانين"البحار-ج33ص472..وكقوله (عليه
السلام): "وإذا قمت في صلاتك للناس، فلا تكونن منفراً ولا
مضيعاً"البحار-ج33ص609..فنهى (عليه السلام) عن فتنة الناس بترك الجماعة وذلك بإطالة
الصلاة..ومن الممكن أن يستفاد من ذلك ( قاعدة ) عامة وهي التحرز عن كل ما يوجب فتنة
الناس عن الدين: كإطالة الحديث ولو كــان نافعاً، واتباع أسلوب الوعظ المباشر،
والقسوة في القول، وغير ذلك من الأساليب التي نجدها عند بعض من يتصدى لترويج الدين
من غير سبيله.
الاتكال على الغير
إن من الطبيعي أن تكون ( العقوبة ) الإلهية للعبد من ( جنس ) عمله..فمنع الحقوق
المالية الواجبة مستلزم: إما للفقر أو لنـزع البركة من المال، وفيه ملاك الفقر نفسه،
إذ ما قيمة المال الذي لا يستجلب بركة في الدنيا أو أجراً في الآخرة ؟!..وكذلك
التسلط على رقاب العباد ظلماً وعدواناً، يوجب وقوع العبد في يد ظالم أو من هو أظلم
منه..والاتكال على الغير يوجب خيبة الأمل ممن اتكل عليه العبد من دون الله تعالى،
وقد روي في الحديث القدسي: "لأقطعن أمل كل مؤمل من الناس، أمل غيري باليأس،
ولأكسونه ثوب المذلة"البحار-ج71ص130.. ومن العقوبات القاسية في هذا السياق: هو ما
نراه من أن توزّع الفكر والهم بما يلهي عن ذكر الحق المتعال، مستلزم للعقوبة
المسانخة لذلك أيضاً، فيعيش العبد عندها حالة من ( تشتت ) الفكر، واضطراب النفس،
وقلق البال، مما يجعله لا يهنأ بعيشٍ مهما كان رغيداً..إذ أن الابتلاء بالنفس
والفكر لمن أهم صور الابتلاء.
مقومات نجاح الملُك
إن من مقومات النجاح في إدارة الملُك هو: الجمع بين ( التشريع ) الحكيم، و(
التنفيذ ) العادل، و( القضاء ) الحق فيما اختلف فيه العباد..وهذا المبدأ هو ما
اتفقت عليه الأمم في كلياتها، وإن انحرفوا في تطبيقاتها إلى حد ارتكاب عكس ذلك..وقد
يفهم ذلك من قوله تعالى: "وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصــل الخطاب"..ففيــه قـوة
التنفيذ بشد الملك، وحكمة التشريع بإتيان الحكمة، وفصل الخطاب في الخصومة، وهذا كله
هو ما أعطي داود (عليه السلام) ذو الأيدي، أي ذو القوة على العباد.
الصرف عن الصلاة
إن مما يسعى إليه الشيطان بشدة هو ( صرف ) المصلي عن صلاته، حتى ولو استلزم
التصرف في ( حواسه ): نفثاً في الصدور، ونقراً في الآذان..وذلك لأن صده للعبد عن
صلاته إنما هو صد لما ينهى عن الفحشاء والمنكر، مما يسهل له السبيل للتغلغل إلى
قلبه..وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "إن العبد إذا اشتغل
بالصلاة، جاءه الشيطان وقال له: اذكر كذا اذكر كذا، حتى يضل الرجل أن يدري كم
صلى!!"البحار- ج5 ص158..ولهذا نجد المصلي ( يتذكر ) ما نسيه في سابق أيامه، أو (
يتأثر ) بالتوافه من الأمور التي لم يكن يتأثر بها قبل الصلاة ولا بعدها.
العلم المخزون
إن العلم ( المخزون ) في معادن حكمة الحق - المتمثلة بأئمة الهدى (عليهم السلام)
- لا ( يعكسه ) ما صدر منهم وإن كان كثيراً خلال قرنين ونصف من الزمان قولاً وفعلاً
وتقريراً، فضلاً عما وصل إلينا من تراثهم وهو أقل القليل، نظراً إلى عدم ( تدوين )
آثارهم من قِبَل مواليهم بما يليق بشأنهم، إضافة إلى ( ضياع ) الكثير من مرويّـاتهم
على أيدي أعدائهم، وهذه الحقيقة يفصح عنها الإمام الصادق (عليه السلام) بكلمة مؤثرة
فيقول: "ما خرج إليكم من علمنا، إلا ألفاً غير معطوفة" البحار-ج25 ص283..يعني به
الألف الذي لم يتعقبه الباء، أو الألف الناقصة، أو عدد الواحد الذي لم يُشفع بأعداد
أخر.
الهدف من اللذائذ
إن من المعلوم أن الحق المتعال جعل الشهوات في وجود العبد لمصالح ( أرقى )،
تتجاوز مصلحة التلذذ المجرد، والذي بالغ فيه العباد حتى نسوا ( الهدف ) الذي لا
يتحقق غالباً إلا في ضمن تلك اللذة، التي جعلها الحق ( تحريكاً ) للعباد نحو ذلك
الهدف..وقد ورد فيما ذَكَره الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضل ما يؤيد ذلك، وذلك
بالقول: "أن الجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن وقوامه، والكرى يقتضي النوم الذي
فيه راحة بدنه وإجمام قواه، والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاءه"..ثم
يذكر (عليه السلام) أن الهدف من وراء الشهوات مما لا يحرك عامة الخلـق فيقول: "ولو
كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد، كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقل النسل
أو ينقطـع، فإن من الناس من لا يرغب في الولد ولا يحفل به"البحار-ج3ص 79..وبناء على
ما ذكر كله، فإن على العبد الملتفت أن لا ينسى الهدف من هذه اللذائذ التي جعلت
طريقاً لتحقق تلـك الأهداف، وإن تحققت اللذائذ تبعا لذلك من دون قصد صاحبها.
الشغف العلمي
يعيش بعضهم حالة من ( الشغف ) العلمي وحب الاستطلاع، فيطرق أبواب العلوم
المختلفة من دون النظر إلى مدى ( جدوى ) انشغاله بتلك العلوم من جهة دنياه أو آخرته،
وبذلك يعيش حالة من ( الانشغال ) الكاذب، وخاصة أن بعض العلوم تستهوي العبد، فتشغل
بعض لبه أو كله، بما يصرفه عن الاهتمام فيما خلق من أجله..والقاعدة العامة التي
يسير عليها العبد في مجمل حياته، هي أن كل حركة في علم أو عمل، لا بد وأن تكون
منسجمة مع هدف الخلقة وهو عبودية الواحد القهار..وقد روي عن الإمام الكاظم (عليه
السلام) أنه قال: "وأحمد العلم عاقبةً ما زاد في علمك العاجل، فلا تشتغلن بعلمِ ما
لا يضرك جهله، ولا تغفلن عن علمِ ما يزيد في جهلك تركه"البحار-ج78 ص333.
التمكين بالتصرف في القلوب
إن مما يعول عليه المؤمن في حياته هو ( التصرف ) الإلهي في قلوب العباد حباً
وبغضاً..ومثال ذلك في حياة الأنبياء (عليه السلام) هو تصرف الحق المتعال في قلب
العزيز، بما جعله يهوى يوسف الصديق ويكرم مثواه إلى درجة اتخاذه ولداً مع ما
يستلزمه من العطف والحنان، ثم يعقّب ذلك بقوله تعالى: "وكذلك مكّنا ليوسف في
الأرض"..فهذا ( تمكين ) منتسب للحق وإن كان تصرفاً في قلب العزيز، وعليه فإن من
يرغب في العزة والملك، فعليه أن يعلم أن ( أسباب ) ذلك كله بيد القدير المتعال، فهو
الذي يسوق الأسباب في هذا المجال - وما أكثرها - لمن يريد له العزة والملك..وشتان
بين عزة وملك يعطيهما الحكيم الخبير، وبين ما يتكلفه العبد تسلطاً على رقاب الآخرين،
بما يؤول أخيراً إلى الذل في الدنيا والعذاب في الآخرة.
المفاهيم الخاطئة
هنالك بعض المفاهيم التي يخطئ فهمها من لم يؤت حظاً من العلم، والإلمام بالنصوص
الواردة عن حملة الوحي الإلهي، فمن تلك المفاهيم: الزهد، والعزلة، والتوكل، والصمت،
والذكر، والانتصار للحق، والأنس بالغير، والانقطاع بترك الأسباب، والكرامة،
والواردات الغيبية وما شابه ذلك، لأنها مفاهيم ( متأرجحة ) عند الخلق بين جانبي
الإفراط والتفريط مفهوماً وتطبيقاً، فقد يأخذ العبد بأحد جانبيه ليجلب لنفسه ما لا
يحمد عقباه..وقد يُـوفق ( للاعتدال ) في تطبيق بعض المفاهيم دون بعضها الآخر، فينمو
نمواً غير متزنٍ، كما لو نما بعض أجزاء بدنه دون الآخر، مما يجعله موجوداً غير
مستوي الخلقة في تكوينه النفسي..ومن هنا لزم أن يكون ( الإمام ) على الأمة الوسط،
هو من اعتدلت فيه كل صفات الكمال - فهماً وتطبيقاً - ومن بعده الأقرب فالأقرب إلى
مثل هذا الاعتدال.
استقلالية الذكر الكثير
إن العبد لا يستغني عن ( ذكر ) الحق ولو كان في حال ممارسة عملٍ ( قربيّ )
كالجهاد الذي هو - كما روي - فوق كل برّ..فقد يكون العبد مجاهداً بنفسه وماله وبدنه،
متقرباً إلى الحق المتعال بمجمل نيّته، إلا أنه لا ( يستحضر ) رقابة الحق في كل
خطوة من خطواته..ولهذا ورد في القرآن الكريم ما يؤكد هذا المعنى بقوله: "يا أيها
الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً"..فقد طلب الحق الذكر
الكثير حتى بعد اللقاء والثبات في مجاهدة الأعداء، رغم أن الموقف أبعد ما يكون عن
الغفلة، لأنه قتال في سبيل الحق المتعال بما فيه من معاناة واصطبار..ومن ذلك يُعلم
أن للذكر الكثير قيمة كمالية مستقلة، قد تفارق حتى الجهاد على عظمة تأثيره في تكامل
الفرد والأمة.
الانطباع الأولي للعبد
إن الانطباع ( الأولي ) للعبد عند مواجهة أهل المعاصي، هو الإحساس ( بالتعالي )
والنفور، بما قد يؤدي إلى العجب بالنفس والاحتقار للغير، واليأس من هداية
الخلق..والمطلوب من العبد أن يعيش شعوراً ( بالشفقة ) والأسى، وخاصة تجاه
المستضعفين من الرجال والولدان الذين لم تكتمل حلومهم، بل وأحاطتهم ما يسلبهم
القليل مما بقي من عقولهم..وإن التأمل في هذه الآيات مما يعكس حالة الشفقة والحسرة
التي كانت تعتلج في نفس من بعثه الحق المتعال رحمةً للعالمين وهي: "فلا تذهب نفسك
عليهم حسرات"و"لعلك باخع نفسك على آثارهم"و{عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم".
الشوق إلى الموت
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) يفصح عن شدّة ( شوقه ) إلى الموت في مواقف
عديدة منها قوله (عليه السلام): "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه،
ومن الرجل بأخيه وعمه"البحار-ج28ص233..والسر في ذلك واضح، إذ الموت عنده (عليه
السلام) سفر من ( الضيق ) إلى عالم لا يعرف الحدود، ومن ( مصاحبة ) الخلق إلى
التفرغ لمجالسة الحق في مقعد الصدق عند المليك المقتدر..فالذي يرى الموت جسراً بين
العناء والسعادة المطلقة، لا يمكن أن يستوحش منه وهو على مشارفه، وهذا خلافاً لمن
لا يعلم ما وراء ذلك الحد، بل يعلم بما هو أسوأ من حاضره..ولهذا جعل الحق المتعال
تمنيّ الموت من دلائل الصدق في دعوى الولاية للحق، وذلك في قوله تعالى: "إن زعمتم
أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين".
طمع القلوب
إن ( التفاعلات ) السيئة - كالتأثر بشهوة بالنساء - فرع صفة سيئة في ( نفس )
المتفاعل، كما يعبر عنه القرآن الكريم بمرض القلب، إذ هو الذي يدعوه للطمع عند خضوع
النساء بالقول، فيقول تعالى محذراً: "فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه
مرض"..وليعلم أن الأمر كذلك في كل موارد الرذيلة، إذ أن هناك ( استعداداً ) نفسياً
مسبقاً للتفاعل مع السيئة، ومن دون القضاء على مرض القلب، فإن الطمع سينقدح بين
فترة وأخرى، لارتكاب السيئة كالتلذذ المحرم، وإن منع تحققها صاحبها:لخوف من العرف،
أو العقاب، أو الطمع في منـزلة دنيوية، أو أجر أخرويّ.
المـنّة على العباد
تنتاب البعض حالة لا شعورية من ( الـمنّة ) على العباد عند الإحسان إليهم، وهو
شعور لا يليق بالعبد، وخاصة إذا كان العطاء من مال غيره، أو من مال نفسه في حقٍ
واجبٍ:كالخمس والزكاة..فإن على العبد - حتى في الإحسان التبرعي - أن يدرك أن ذلك
كله من ( عطاء ) المولى الذي جعله مُستخلفاً فيه..فالـمنّة للحق على المعطي، وعلى
المعُطَى له أولاً وآخراً، فهو مالكهما ومالك ما وصل من أحدهما إلى صاحبه.
تذكّر الفضل
يذّكر الحق الزوجين المتخاصمين الذّين وصلا إلى مرحلة الطلاق بقوله: "وإن تعفوا
أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم"..ففي ( الخصومة ) يحيد العبد عن جادة الصواب
بما يلائم مزاجه الثائر، ومن هنا كان بحاجة ماسة إلى ما ( يبطل ) مقتضيات ذلك الطبع
المنحرف، وذلك بالالتزام النفسي بالعفو، والتغاضي عن مصلحته وإن كان حقاً له، وقد
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "يأتي على الناس زمان عضوض، يعض
كل إمرءٍ على ما في يديه وينسون الفضل بينهم"البحار-ج74ص413.
الإصرار القبيح
يعيش الإنسان حالة من ( الإصرار ) الداخلي الذي لا مبرر له عند طلبه لبعض حوائج
الدنيا، ومن المعلوم أن هذا الإصرار لا يتناسب مع زيّ العبودية للحق، إذ قد روي عن
الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "ما أقبح بالمؤمن أن تكون لـه رغبة
تذله"البحار-ج73ص170..وقد يخلو العبد من إصرار ( بظاهره ) ولكنه يبقى مصراً بباطنه،
فيعيش حالة من ( الضيق ) الشديد عندما يرى تأخيراً في قضاء حاجته، والحال أنه لو
رجــع إلى رشده، لما رأى شيئاً من موجبات اليقين بصلاح أصل حاجته أو تعجيلها..وعليه
فما الوجه في إصرار العبد الذي ليس له من اليقين ما يوجب له ذلك الإصرار ؟!.
اختلاف الحيثيات
إن محبة العبد وكراهيته إنما يتوجه إلى الفرد بلحاظ الصور الذهنية المنتزَعة من
الخارج، بما يحمله من موجبات الحب والبغض..وعليه فقد يتأذى العبد من حب شخص آخر
لعدوه، أو عداوة آخر لصديقه، فيبذر الشيطان بينهما بذر الشقاق والبغضاء، مستغلا
اختلاف العباد في تقييم الأصدقاء والأعداء..وإن إبطال كيده في حالته تلك، إنما يكون
بالالتفات إلى ما قلناه من أن الحب المنقدح في النفوس ليس بلحاظ ( واقع ) العباد،
وإنما هو بلحاظ الصور ( الذهنية ) التي تطابق الواقع حيناً وتخالفه أحياناً
أخرى..وعليه فإن الالتفات إلى هذه الحقيقة الواضحة يرفع الخلاف بين العباد، وذلك
لاختلاف ( الحيثيات ) الموجبة لتعدد الموضوعات حكماً وإن اتحدت واقعاً..فيتبين من
مجموع ما ذكر: إن محبة عبدٍ لعبدٍ إنما هي لحيثية، تغاير حيثية بغض الآخر للعبد
نفسه، وعليه فلا خلاف بينهما يستحق معه الشقاق والبغضاء.
كفران نعمة الملكات
إن بعض المَلَكات التي تعطى للعبد، إنما هي بمثابة ( الوسيلة ) للتكامل: كرقة
القلب، وقوة الفهم، وسرعة الانتقال، وحسن الاستيعاب، وسرعة البديهة، وحسن
التخلص..هذا كله إضافة إلى ( العلوم ) الحقة المكتسبة من عالم المعرفة الذي يرفده
الوحي والعقل والتجربة..ولكن العبــد - مع ذلك كله - قد يكفر بتلك النعم، فتنقلب
إلى ( حجة ) للرب على العبد، بدلاً من أن تكون وسيلة لقرب العبد من الرب..وقد قال
تعالى عن بلعم: "ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض"..ومنه يعلم سر السقوط
وهو الإخلاد إلى الأرض، معرضاً عن موجبات الرفعة والعلوّ، التي لو شاء الحق المتعال
لرفعه بها، وبذلك يتجلى لنا مدى خسران أصحاب تلك الملكات.
حسرة الفاقدين
إن الحسرة والألم اللّذين يعتصران قلب الفاقد لما يهوى، لمن أجلى ( دلائل )
المحبة والارتباط..وكلما عظمت هذه العلقة كلما عظمت حسرة الفقدان، ولهذا ابيضت عينا
يعقوب من الحزن لفقد من كان يحبه أشد الحبّ..فإذا كانت الحسرة تنتاب الفاقدين لما
هو مصيره إلى الفقد والزوال أولاً وآخراً، فكيف بحسرة من يرى نفسه ( فاقدا ) لمن
يعود إليه كل موجود ومفقود ؟!..ومن هنا كانت حسرة وأنين العارفين بالله تعالى، من
أعظم حالات الحسرة والأنين في حياة البشر، لعظمة من فقدوه ذكرا في النفوس، وتجلياً
في القلوب..وهذه الحسرة تعكسها هذه الفقرة من دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام)
عندما يبدي لواعج صدره بقوله: "ولأبكين عليك بكاء الفاقدين"..والمهم في العبد أن
ينتابه مثل هذا البكاء قبل ( انكشاف ) الغطاء في أهوال القيامة، إذ لا ينفعه شيء من
البكاء يوم القيامة.
التيسير في حياة العبد
إن العبد الذي يوكِل أموره إلى الحق المتعال، يجد بوضوح مدد التيسير والتسديد
من الحق، في كل شأن من شؤون حياته..فاليسير من ( السعي ) قد يستنـزل الواسع من
الرزق، وهو من الرزق الذي يطلب الإنسان ولا يطلبه، وبذلك لا يقع في عناء طلب ما لم
يُـقدّر له فيه رزقاً، وقد ورد فيمن يؤثر هوى الحق على هواه، أن الحق تعالى له من
وراء تجارة كل تاجر..والقليل من ( العلم ) النافع يفتح له الآفاق الواسعة لمعرفة ما
ينبغي عليه فعله في أمر معاشه ومعاده..والقليل من ( الذرية ) يوجب له خلود
الذكر..والقليل من ( العبادة ) يجلب له حالة الأنس والاطمئنان، إذ من أحبه الله
تعالى رضي منه باليسير، وهكذا الأمر في باقي شؤون حياته.
نور القرآن
يطلب العبد من ربه - في دعاء زمان الغيبة - أن يريه الحق نور القرآن سرمداً..إذ
لا شك أن للقرآن نوراً يهدي الله به من يشاء من عباده، وهو نور محجوب عمن لم يرد
الحق أن يهديه، لخلل في العبد نفسه..والدليل على ذلك، هو ( إنفكاك ) هذا النور- في
حالات كثيرة - عمن حفظ القرآن بألفاظه، بل وعى كثيراً من معانيه، بل فسر كثيراً من
لطائفه كتفاسير المنحرفين عن منهج أهل البيت (عليهم السلام)..والشاهد على إنفكاك
ذلك النور عنهم أمران، الأول: وهو ( بقاؤهم ) في الظلمات المستلزم للحَـجْب عن كثير
من المعارف الواضحة، والثاني: وهو ( التعمد ) في المخالفة العملية لصريح القرآن
الكريم، الذي حفظوا رسومه بل فسروا كثيراً من معانيه..ومن خصائص هذا النور إنارة
الطريق بوضوح، مما يهيـئ العبد للسير الحثيث في سبيل طاعة الحق، ومن هنا كلما زادت
تلاوته له، كلما زادته إيماناً راسخاً في القلب، لا علماً مجرداً في الذهن.
خطورة النفور من الداعي
إن من موجبات المحاسبة الشديدة للعبد يوم القيامة - قد يصل إلى حد مقت الحق له
- هو دعوته للعباد إلى الطاعة مع عدم العمل بما يدعو الناس إليه، بل وارتكابه ما
يخالف ذلك..فإن الخلق بطبيعتهم ( الساذجة ) يخلطون بين الدعوة والداعي، وبين المبدأ
وبين من ينتسب إليه، فيـرون شبه ( امتزاج ) فيهما مع وجود المفارقة الشاسعة
بينهما..ويتعاظم الخطب عندما يتحقق ( النفور ) من ذلك الداعي، فيعمد المدعو إلى
مخالفة الداعي ولو كان محقاً في دعوته، لمجرد النفور منه بل لرغبة المدعو في تحدي
الداعي ولو أوجب مخالفة للحق وسخطاً للرب الجليل..وهذا الأصل مما ينبغي مراعاته
بدقة، وخاصة في تعامله مع أهله وعشيرته الأقربين، وذلك لإطلاعهم - بحكم معاشرتهم
اللصيقة - على هفواته، التي قد توجب لهم النفور المانع من قبول الموعظة والنصيحة.
العطش الذي لا رواء له
إن الدنيا كماء البحر الذي كلما شرب منه الإنسان ازداد عطشاً..وهناك صورة أخرى
يذكرها القرآن الكريم، فيها موعظة وتقريع، فيشبّه المقبل على الدنيا ( كبلعم بن
باعورا ) بالكلب الذي يلهث على كل حال، سواء حمل عليه أو ترك بحاله، وهذه هي حالة
الحيوان الذي يعيش العطش الذي لا رواء له..وهكذا فإن أبناء الدنيا يعيشون حالة من
الولع والميل المفرط، الذي لا يشبعه شيء من الدنيا وإن بلغ مداه ما بين المشرق
والمغرب..وعليه فإن العاقل يعلم أن الحل الجامع لذلك كله، هو ( إزالة ) العطش
الكاذب الذي يزهّده في ما يشبه الماء، لا ( البحث ) وراء الماء الكاذب الذي لا يروي
الغليل.
إطفاء النور
ورد في الحديث عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: "وأطفأ نور عبرته
بشهوات نفسه"البحار –ج1ص136.. ففي هذا الخبر إشارة مهمة إلى من راقب نفسه، إذ أن
بعض الذنوب لا تنحصر آثارها في ( العقوبة ) البرزخية أو الأخروية، وإنما تسلب (
النور ) من العبد، ومن المعلوم أن ذهاب النور يلازم حلول الظلمة التي تجعل العبد لا
يهتدي إلى سبيله في الحياة..ومن هنا تأكد الدعاء بطلب ذلك النور الذي يمشي به العبد
في النشأتين، إذ طالما تتعثر مسيرة العبد نتيجة خطئه في تمييز الصالح من الأفعال،
وخاصة في الموضوعات المبهمة التي لم يرد فيها أمر أو نهي بالخصوص، فهو وإن لم يكن
مسؤولاً عن الخطأ - جهلاً - في ( تشخيص ) الموضوع، إلا أن ذلك مستلزم لتفويت منافع
كثيرة كان من الممكن أن يحوز عليها، لو كان ماشياً على بصيرة من ربه.
فتور همة العبد
إن الذكر ( القلبي ) للحق المتعال، وإن كان من أعظم صور الذكر، إلا أنه في
الوقت نفسه ينبغي الالتفات إلى أن ذلك قليل أيضاً فيما لو قيس بعظيم حق المولى على
عبده، لأن هذا الذكر القلبي - على جلالته - لا يستلزم حركة في الخارج بما فيها من (
جهاد ) ومنافرة، فهذا الذكر قد يجتمع حتى مع انشغال العبد الظاهري بلذائذه..وعليه
فإن ترك الذكر القلبي في أدنى مراتبه، لمن الصور القبيحة ( للكسل )، وفتور همة
العبد، الذي يبخل بما لا يستلزم منه جهداً في الخارج..فليشتغل العبد نفسه بما يريد،
مع الاحتفاظ بتلك اليقظة التي تمنعه من التورّط فيما يوجب له غضب المولى الجليل.
عرش الشيطان
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) - في جواب من ادعى أن أبا منصور رُفع إلى
ربه، وتمسّح على رأسه - أنه قال: حدثني أبي عن جدي أن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: {إن إبليس اتخذ عرشاً فيما بين السماء والأرض، واتخذ زبانية بعدد
الملائكة، فإذا دعا رجلا فأجابه، وطئ عقبه وتخطت إليه الأقدام، تراءى له إبليس ورفع
إليه، وإن أبا منصور كان رسول إبليس"البحار -ج25 ص 282..إن هذا الحديث لمن نوادر
الخبر في مجال ( تلبيس ) إبليس، إذ أنه يفسر حالة العروج الكاذب والدعاوى الزائفة
التي تضج بها بعض كتب المنحرفين عن جادة الحق، وذلك في مجال التهذيب والسلوك..إضافةً
إلى دلالته على خطورة ( التصدي ) لبعض المقامات من دون استحقاق علمي وعملي، فرغبة
الشيطان في إمامة هؤلاء للخلق قد أشير إليها بقوله (عليه السلام): "وطئ
عقبه"..وأخيراً ينبغي الالتفات إلى سعة ( كيد ) الشيطان وخفاء مكره، يصل إلى حد
تزييف عناصر عالم الملكوت، والتشبه بالرب عرشاً وملائكةً ووحياً.
تعصّب المحب
إن العبد عندما يستغرق في محبة عبدٍ من العباد - لشهوة أو لحكمة - يجد في نفسه
نفوراً و( استيحاشاً ) ممن لا يشاطره ذلك الحب، فكيف إذا أحس بعداوة أحد تجاه من
يحبّ ؟!..كل ذلك من صور ( التعصب ) الذي يفيده ذلك الحب المستغرق لشغاف
القلب..وقياسا على ذلك نقول: إن محبة الحق تتغلغل في نفس العبد المطيع إلى درجة يصل
إلى المرحلة نفسها، فيجد استيحاشاً بل نفوراً من الغير الذي لا يلتفت إلى الحقيقة
التي استشعرها هو بكل وجوده، وأحبها بمجامع قلبه، ولو كان ذلك الغير من أقرب الخلق
إليه..ولهذا {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوادّون من حاد الله ورسوله،
ولو كان آباءهم أو أبناءهم أو أخوانهم أو عشيرتهم".
الناصح القائد
إن مَثَل الناصح الداخلي ( أي العقل )، والخارجي ( أي الموعظة والوحي )، كمثل
من يقود الدابة التي لا تهتدي إلى سبيلها بنفسها..وعليه فلو لم يكن للسائس سلطة
القيادة، وللدابة قابلية الانقياد، لسقطا في الهاوية، وخاصة لو اقترن ذلك بهياج
الدابة، وسرعة سيرها، ووعورة طريقها، بل وغياب سائسها بعد طول مخالفة..وبناء على
ذلك فليس مجرد وجود السائس البصير من موجبات الاهتداء إلى السبيل، بل إن فعلية
الهداية مترتبة على فعلية القيادة، فالعقل والشرع هاديان لمن اتبعهما، لا لمن
وجدهما في نفسه فحسب، فيكون ممن أضلّـه الله على علم.
تضييع النساء والصبيان
قد يلتفت العبد إلى حقوق العباد خارج دائرة سيطرته..ولكنه يضيّـع حقوق
القريبـين من رعيته، وهم الضعيفان: الأولاد والنساء، وذلك ( لاستسهال ) التعدي
عليهم، وعدم ( إطلاع ) الخلق على ظلامتهم، و( حاجتهم ) الشديدة إليه بما يمنعهم من
الشكوى منه..ومن هنا لزم على العبد الحذر الشديد من غضب الحق فيمن لا ناصر لهم إلا
الله تعالى، وقد ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: "إن الله لا يغضب
بشيء، كغضبه للنساء والصبيان"البحار-ج104ص73.
أثر الاستحواذ
إن الأثر ( المهم ) والرئيسي لاستحواذ الشيطان على العبد هو ( نسيانه ) ذكر ربه،
إذ قال تعالى: "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله"..ومن ذلك يعلم أن مفتاح عمل
الشيطان هو نسيان الحق المتعال، وخاصة في المواطن التي تتطلب منه الذكر: كمواطن
المعصية..ولذلك لا ينحصر همّ الشيطان في نسيان العبد ذكر ربه في كل آناء حياته، بل
يكفي لتحقق ( غرضه )، نسيان العبد لربه حين تعرضه للغواية..وهنا فلنتساءل: أنه ما
هي القيمة الرادعة لذكر الله عز وجل قبل المعصية وبعدها، بعد أن نال الشيطان بغيته
منه في حال المعصية ؟!..وعليه فليس من المهم نفي الغفلة المطبقة لينفعه الذكر
المتخلل، وإنما المهم إثبات الذكر الغالب، لئلا تضره الغفلة المتخللة.
إثارة صاحب المصيبة
إن ما يتميز به صاحب المصيبة العظمى - كالأم الثكلى بولدها - هو أن أدنى تذكير
له بالمصاب الذي نسيه بتقادم الأيام، يهيّـج فيه المشاعر الكامنة، فلا تحتاج بعد
ذلك إثارة تلك الأحاسيس ( الدفينة ) إلى كثير جهدٍ ومعاناة، وخاصة عندما تتعاظم
المصيبة..وعليه فإن المؤمن الذي يعيش حالة التفاعل الشعوري مع عناصر عالم الغيب،
يثيره أدنى مذكر لتلك العناصر التي قد غفل عنها، وذلك كإحساسه بفداحة فقد النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وغيبة الوصي (عليه السلام)، وخلو الزمان من الحجة
الظاهرة..وهذه معانٍ كامنة في وجدانه وإن لم يستحضرها في كل آن..ومن المعلوم أن
الذي لا ( يملك ) هذا المخزون الشعوري في مرحلة سابقة، لا ( يتفاعل ) عادة
بالمثيرات العاطفية حينما يتعرض لهـا، كعدم تفاعل الأجنبية مع مصيبة الوالهة الثكلى.
هبة رأفة الولي
يطلب المؤمن من ربه أن يهبه رأفة ورحمة وليّ الأمر (عليه السلام)..فالرأفة
والرحمة وإن كانت ( منقدحة ) في قلب الولي، إلا أنها ( مستندة ) إلى الله رب
العالمين، يهبه لمن يشاء من عباده..فيُعلم من ذلك أن الطريق إلى رأفة الحجة في كل
عصر، هو التوجه إلى الرب المتعال، وبذلك يتجلى لنا عدم المفارقة بين الالتجاء إلى
الحق وبين الالتجاء إلى أوليائه سواء في: مجال استجابة الدعاء، أو الشفاعة، أو
الأنس بالذكر، كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "شيعتنا الرحماء
بينهم، الذين إذا خلوا ذكروا الله..إنا إذا ذُكرنا ذُكر الله، وإذا ذُكر عدونا ذُكر
الشيطان"البحار-ج74 ص258..فإن من الخطأ بمكان أن نعتقد أن التعامل مع أولياء الحق،
إنما هو في ( عرض ) التعامل مع الحق المتعال لا في طوله، ومع الاعتقاد بهذه (
الطولية ) ترتفع الاشكالات الكثيرة، ويزول الاستغراب من الاعتقادات الناشئة من
توهّم العرضية في التعامل.
الملاك الواحد
إن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ( ليصدّ ) عن سبيل الله
تعالى كما صرح به القرآن الكريم..وعليه فإن كل ما يصد عن سبيل الله تعالى فهو
كالخمر والميسر، وإن لم يتجلّ لنا قبحه كقبحهما، إذ العبرة ( بالغايات ) القبيحة
وإن لم تكن ( المبادئ ) قبيحة في بادئ النظر..ومن هنا عُبر بالمسكر عن أمورٍ أخرٍ
لا يتعارف سكرها، كما روي عن أمير المؤمنين انه قال: "السكر أربعة: سكر الشراب،
وسكر المال، وسكر النوم، وسكر الملك"البحار-ج73ص142..وعليه فإذا رأى العبد المراقب
لنفسه، بعض موجبات الصد عن سبيل الله تعالى، ولو كان مباحاً بعنوانه الأولي -
كالجلوس مع الغافلين أو الإنشغال بما يلهي الفكر والنظر - فإنه يتعامل معه كتعامله
مع الخمر والميسر، لتشابه الملاك فيها جميعاً.
كالسائر في البستان
إن الذين أنسوا ( بروح ) الصلاة، قد لا يُـحوجهم الأمر إلى التماس أحكام (
الشكوك ) في ركعات الصلاة، إذ أن لكل ركعة من الصلاة روحها ورائحتها الخاصة
بها..فهو كمن يسير في بستان لها حقولها المتمايزة، فلا يذهل عن أوله ولا وعن وسطه
ولا عن آخره، بل يعلم في كل خطوة يخطوها موقعه في ذلك البستان بما فيها من صور
الجمال..وعندئذ نقول إن مَثَل المصلي كمَثَل ذلك السائر، فلكل جزء من أجزاء الصلاة
طعمه المتميز، يستذوقه المصلي في وجوده بكل وضوح، فكيف لا يفّرق بين الركعة الأولى
بما فيها من نشاط البدء في مواجهة الحق بعد طول انتظار، وبين الركعة الثانية بما
فيها من قنوت وحديث مسترسل مع الرب المتعال، وبين الركعة الثالثة التي هي بداية
النصف الأخير من التنـزل التدريجي بعد العروج، وما يصاحبها من الاشفاق من قرب
الرحيل، وبين الركعة الرابعة التي يشرف فيها على الخروج من هذا اللقاء المبارك، بما
يصحبه من ألم الوداع والفراق ؟!.
ذكر المعصومين للحجة(عليه السلام)
لقد تناولت النصوص الشريفة الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مسألة
الأمام المنتظر من ( زواياها ) المختلفة: فتارة تتطرق إلى علائم ظهوره، وتارة أخرى
إلى أوصاف أصحابه البررة، وثالثة إلى الأحداث الواقعة بعد ظهوره، ورابعة إلى المحن
التي تنتاب الموالين له في غيبته، بما يدل بمجموعها على أنها فكرة ( محورية ) في
تراث أهل البيت (عليهم السلام)..فهذا الإمام الصادق (عليه السلام)، يصفه الراوي
بأنه كان يبكي بكاء الواله الثكلى، ذات الكبد الحرّى، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع
التغيّـر في عارضيه، وقد زفر زفرة انتفخ منها جوفه، واشتد منها خوفه، وهو يقول: "سيدي!
غيبتك نفت رقادي، وضيقت عليّ مهادي، وأسِرَت مني راحة فؤادي..سيدي! غيبتك أوصلت
مصابي بفجائع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد"البحار-ج51ص219..ولا
عجب في ذلك فإن بدولته الكريمة تحيا آمال الأنبياء والأوصياء، من لدن آدم (عليه
السلام) إلى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ لم تشهد الأرض العدل
المطبق منذ بدء الخليقة إلى زمان ظهوره.
* الشيخ حبيب الكاظمي
2016-01-22