عزاء الشهداء
فقه الأحزان
يختلف الأمر عندما يكون المعزَّى بهِ فقيداً عادياً - أي مات بعارضٍ ما -, عما لو كان المعزَّى بهِ شهيداً, وسبب الاختلاف هو ما منحه الشرع من قداسة رفيعةٍ لمعنى الشهادة
عدد الزوار: 326
الأمر الأول:عزاء الشهداء
يختلف الأمر عندما يكون المعزَّى بهِ فقيداً عادياً - أي مات بعارضٍ ما -, عما لو
كان المعزَّى بهِ شهيداً, وسبب الاختلاف هو ما منحه الشرع من قداسة رفيعةٍ لمعنى
الشهادة, وكرامة الشهيد عنده عز وجل، يقول العلامة المفكر الشهيد مرتضى مطهري قدس
سره: ... "الشهيد" كلمةٌ لها في الإطار الإسلامي قداسةٌ خاصةٌ, والإنسان الذي
يعيش المفاهيم الإسلامية, ينظر إلى هذه الكلمة وكأنها مؤطرة بهالة من نور, كلمة "الشهيد"
مقرونة بالقداسة والعظمة في جميع أعراف المجموعات البشرية، مع اختلاف بينهما في
الموازين والمقاييس"1.
وفي هذه المناسبات ينبغي على الإنسان المؤمن، الذي يذهب للعزاء, أن يهنئَ أهل
الشهيدِ لأنَّ الله تعالى اختار ولدهم شهيداً, والشهادة هي كرامةٌ يمن الله تعالى
بها على من يجتبيه من خلقه, وأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد ميَّز الشهيد عن غيره، ممن
فارق الحياة, فلم يضعه في مصافِّ الأموات, بل نهى عن نعتنا إياه بالميت.
يقول عز من قائل : ﴿وَلا
تَقولوا لِمَنْ يقْتَل فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا
تَشْعرون﴾2.
فالشهداء -إذاً- "أحياء" و"عند ربهم يرْزَقون... " وما أعظمها من منزلة, والسنَّة
تكْثِر من تشبيه المكانة السامية التي يمكن أن ينالها إنسان في حياته بمكانة
الشهيد,لأنها ذروة الرقي والتكامل في المسيرة الإنسانية...
ما يقال في عزاء الشهداء
مما ينبغي أن يذكر في مجالس العزاء للشهداء، المنزلة التي وعد الله تعالى بها
الشهداء, واستذكار ما كان من حسن صفاتهم, وحسن بلائهم وتضحياتهم, وكذلك ما روي من
الأحاديث الشريفة التي عددت ما وعدهم الله تعالى به, وفضل المقام الذي وصلوا إليه.
منها ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال:
"فوق كل ذي بِرٍّ بِرٌّ,حتى يقتل في سبيل الله, فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه
بِرٌّ"3.
وفي رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه و آله : "ما من قطرةٍ أحب إلى الله
عزَّ وجلَّ من قطرةِ دمٍ في سبيل الله"4.
وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قيل للنبي صلى الله عليه و آله : "ما
بال الشهيد لا يفْتَن في قبره؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله : كفى بالبارقة فوق
رأسه فتنة"5,أي ببارقة السيوف,أي لمعانها.
ومن كان كذلك مقامه، فحقيقٌ أن لا يبكى عليه لأنه فارق الحياة, بل يبكى على فقد
أمثاله مما بيننا, لأنَّ من يحمل هذه الروحيَّة المتميزة التي تؤهِّله لرضوان الله
وكرامته, ففقده ثلمةٌ في الإسلام ففي الرواية عن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم
عليه السلام قال: "إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد
الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد أعماله فيها، وثلم ثلمة في الإسلام لا
يسدها شيء، لأنَّ المؤمنين حصون الإسلام كحصونِ سورِ المدينةِ لها"6.
ومما يقال أيضاً في عزاء الشهداء, أن يذكر أهل العزاء بما خص الله تعالى به الشهيد
من الشفاعة في أهله وأحبائه, فقد ورد في الأثر أنَّ الله يقبل الشفاعة يوم القيامة
من ثلاث طبقات: طبقة الأنبياء, وطبقة العلماء, ثم الشهداء, فعن الرسول الأكرم صلى
الله عليه و آله : "ثلاثة يشفعون إلى الله عزَّ وجلَّ فيشفعهم: الأنبياء، ثم
العلماء، ثم الشهداء"7.
وهنا ينبغي أن نوضِّح بأنَّ الشفاعة هذه هي "شفاعة الهداية", إنها تجسيد لما حدث في
الدنيا من حقائق, فعن طريق الأنبياء اهتدى الناس ونجوا من الظلمات, والعلماء - في
هذا الحديث - هم العلماء الربانيون في طليعتهم الأئمة الأطهار عليهم السلام ,
والرهط الصالح من أتباعهم ومن حذا حذوهم، وهؤلاء أيضاً ساروا على طريق الأنبياء
عليهم السلام , وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور, والشهداء ينهضون بنفس الدور،
يضيئون الدرب أمام الناس، فيهتدي من يريد الهداية بهم ، وبذلك يكون الشهداء شفعاء
لمن اهتدى بهم8.
الأمر الثاني: أعراف وأحكام
لدى الناس بعض الأعراف والعادات، فهم يسيرون عليها ولا يقصرون في الالتزام بها
متى فقدوا عزيزاً، كإقامة مأتم الثالث، الأسبوع وذكرى الأربعين، فهل هذه الأمور
مشروعة، وهل وردت بها روايات عن أهل البيت عليهم السلام؟
لا شك في أن ما يجري في هذه المآتم من قراءة القرآن، وإقامة مجالس العزاء الحسينية،
وإهداء ثواب ذلك إلى الميت، هو أمر مستحب ومحبذ، ويكفي فيه ما ورد من الحث في
الروايات على صلة الميت، بل هو من أنواع البر بالميت، فقد ورد عن رسول الله صلى
الله عليه و آله - لما سئل عن بر الوالدين بعد موتهما -: "نعم، الصلاة عليهما،
والإستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما،
وإكرام صديقهما"9.
1ـ مراسم اليوم الثالث
إن من يراجع التاريخ الإسلامي ومصادر التشريع، يلاحظ أنَّ الروايات الشريفة أكَّدت
على أنَّ العزاء هو ثلاثة أيام, ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام : "يصنع
للميت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات"10.
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام : "ليس لأحدٍ أن يحد أكثر من ثلاثة
أيام, إلا المرأة على زوجها حتى تنقضي عدتها"11.
ومن الروايات ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : "ينبغي لصاحب المصيبة أن لا
يلبس الرداء، وأن يكون في قميص حتى يعرف، وينبغي لجيرانه أن يطعموا عنه ثلاثة أيام"12.
ولذا، يذكر العلامة المجلسي صاحب بحار الأنوار: "وأما استحباب بعث الطعام ثلاثة
أيام إلى صاحب المصيبة، فلا خلاف بين الأصحاب في ذلك، وفيه إيماء إلى استحباب اتخاذ
المأتم ثلاثة، بل على استحباب تعاهدهم وتعزيتهم ثلاثة أيضاً، فإن الإطعام عنه يدل
على اجتماع الناس للمصيبة"13.
2ـ مراسم ذكرى الأسبوع
لم نجد في المرويات الواردة عن النبي صلى الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام
، ما يدل على إقامة المتعارف الآن بين الناس من ذكرى الأسبوع، أو ما يدل على
استحباب إقامة الأسابيع للأموات 14.
ولذا، فإنه لا بد من التأكيد على نية أهل العزاء عند إقامة الأسبوع عن المتوفى، بأن
يقصدوا إقامة هذه الأسابيع بقصد تعزيتهم والمواساة لهم، وقراءة القرآن عن روح ميتهم،
وذكر مصاب أهل البيت عليهم السلام وإهداء الثواب في ذلك كله لروح الميت، فإن هذا
أمرٌ مطلوب في نفسه، ولا محذور فيه.
3ـ مراسم ذكرى الأربعين
ورد التعرض لمسألة الأربعين في العديد من الروايات من أبواب متعددة؛ فقد ورد عن
رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: "يا أبا ذر: إن الأرض لتبكي على المؤمن
إذا مات أربعين صباحاً"15.
كما ورد في الروايات عن مقتل الإمام الحسين عليه السلام على لسان الإمام الصادق
عليه السلام أنه قال: "إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، وإن الأرض
بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنَّ
الجبال تقطعت وانتثرت، وإن البحار تفجرت وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين
عليه السلام "16.
وورد في الرواية: "بكى آدم عليه السلام على هابيل أربعين ليلة"17.
تدل هذه الروايات بوضوح على أن للأربعين خصوصية، ولما كان المتعارف في الأربعين
الذي يقام للميت هو الدعاء له بالرحمة والمغفرة، وإهداء ما يتلى من آيات الله، ومن
ذكر مصاب أهل البيت عليهم السلام ، وهي أمورٌ تعود بالنفع على الميت في آخرته وفي
عالم البرزخ، كان عندها إقامة مجلس الأربعين أمراً محبذاً لا ضرر فيه بل فيه، الخير
كله.
4ـ مراسم الذكرى السنوية
ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في الصحيح أنه قال:"قال أبي الإمام
الباقر عليه السلام : يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين
بمِنى أيام مِنى "18.
ويذكر بعض العلماء تعليقاً على هذه الروايةلما نصه: "وقد يستفاد منه استحباب ذلك
إذا كان المندوب ذا صفات تستحق النشر ليقتدى بها "19.
وورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "كانت فاطمة صلوات
الله عليها تزور قبر حمزة وتقوم عليه، وكانت في كل سنة، تأتي قبور الشهداء مع نسوة
معها، فيدعينَ ويَسْتَغْفِرْنَ"20.
*فقه الاحزان , سلسلة الفقه الموضوعي , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- مرتضى مطهري-شهيد
يتحدّث عن الشهيد – ص 16
2- البقرة:154
3- الشيخ الكليني-الكافي- ج 5 ص 53
4- م . ن. ج 5 ص 53
5- م . ن. ج 5 ص 54
6- الحر ّالعامليّ -وسائل الشيعة - ج 3 ص 283
7- المجلسيّ-بحار الأنوار- ج 2 ص 15
8- مرتضى المطهري - شهيد يتحدّث عن الشهيد- ص 49
9- الريشهري - ميزان الحكمة - ج 4 ص 3675
10- الشيخ الصدوق - من لا يحضره الفقيه - ج 1 ص 182
11- م . ن. - ج 1 ص 183
12- العلامة المجلسي - بحار الأنوار - ج 79 ص 71
13- م. ن. ج 79 ص 71
14- جعفر مرتضى- مختصر مفيد- ج 1 ص 226
15- الشيخ الطبرسي -مكارم الأخلاق - ص 466
16- جعفر بن محمّد بن قولويه -كامل الزيارات - ص 167
17- الشيخ الكليني - الكافي - ج 8 ص 114
18- الحرّ العاملي - وسائل الشيعة «آل البيت» - ج 17 ص 125
19- الشيخ الجواهري -جواهر الكلام - ج 4 ص 366
20- القاضي النعمان المغربي -دعائم الإسلام - ج 1 ص 239