ما هو علم الأصول؟
علم الأصول
قبل ذكر التعريف نطرح بعض الأسئلة، لنرى كيف يقوم الفقيه بالإجابة عليها، وكيف يمارس عملية استخراج الحكم الشرعيّ، ويحدّد الموقف العمليّ للمكلّف. فعلى سبيل المثال، لو سألنا الفقيه:
عدد الزوار: 336
تعريف علم الأصول1
قبل ذكر التعريف نطرح بعض الأسئلة، لنرى كيف يقوم الفقيه بالإجابة عليها، وكيف
يمارس عملية استخراج الحكم الشرعيّ، ويحدّد الموقف العمليّ للمكلّف. فعلى سبيل
المثال، لو سألنا الفقيه:
1- هل يحرم على الصائم أن يرتمس في الماء؟
2- إذا ورث شخصٌ مالاً من أبيه، فهل يجب عليه أن يؤدّي خمسه؟
3- هل القهقهة في أثناء الصلاة مبطلةٌ لها؟
والفقيه في مقام الإجابة على هذه الأسئلة يقول:
أمّا السؤال الأول: نعم يحرم الإرتماس على الصائم، والدليل على ذلك هو رواية
يعقوب بن شعيب عن الإمام الصادق عليه السلام حيث ورد فيها أنّه قال: "لا يرتمس
المحرم في الماء ولا الصائم"2. والجملة بهذا التركيب تدلّ- بحسب
الفهم العرفيّ العام- على الحرمة. وراوي النصّ هو يعقوب بن شعيب وهو ثقةٌ. والثقة
وإن كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً، ولكنّ الشارع أمرنا بالاعتماد على كلامه وعدم
اتهامه بالخطأ أو الكذب. وهذا يعني أنّ الشارع قد اعتبر كلام الثقة حجّة. والنتيجة
التي وصل إليها الفقيه هي أنّ الإرتماس حرامٌ على الصائم.
وأمّا السؤال الثاني: فلا يجب أن يؤدي خمس المال الموروث، وذلك لأنّ مكاتبة
عليّ بن مهزيار جاءت في مقام تحديد الأموال التي يجب فيها الخمس، وقد ورد فيها أنّ
الخمس ثابتٌ "في الميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن"3.
ويفهم العرف العام من هذه الجملة، أنّ الشارع لم يجعل خمساً على الميراث الذي ينتقل
من الأب إلى ابنه. والراوي ثقةٌ. وخبر الثقة حجّةٌ كما تقدّم. والنتيجة هي أنّ
الخمس في إرث الأب غير واجبٍ.
وأمّا السؤال الثالث: نعم القهقهة مبطلةٌ للصلاة، بدليل رواية زرارة عن أبي
عبد الله عليه السلام حيث قال: "القهقهة لا تنقض الوضوء وتنقض الصلاة"4.
وما يفهمه العرف العام من عبارة النقض هو أنّ الصلاة تبطل بها. وزرارة ثقةٌ. وخبر
الثقة حجّة كما تقدّم. فالصلاة مع القهقهة باطلةٌ إذن.
وبملاحظة هذه المواقف الفقهيّة الثلاثة نجد أنّ الأحكام التي استنبطها الفقيه كانت
من أبوابٍ فقهيّةٍ مختلفةٍ، من الصوم والإرث والصلاة. كما أنّ الأدلة التي استند
إليها مختلفةٌ أيضاً، فبالنسبة إلى الحكم الأول استند إلى رواية يعقوب بن شعيب،
وبالنسبة إلى الحكم الثاني استند إلى رواية عليّ بن مهزيار، وبالنسبة إلى الحكم
الثالث استند إلى رواية زرارة.
العناصر الخاصّة والمشتركة:
ولكلٍّ من الروايات الثلاث متنها وتركيبها اللفظيّ الخاصّ، الذي ينبغي أن يدرس
بدقّة ويحدد معناه كذلك، ولكن مع ذلك التنوّع والاختلافات في المواقف يوجد عناصر
خاصّةٌ وعناصر مشتركةٌ أدخلها الفقيه واستفاد منها في عمليّة الاستنباط لتحديد
الحكم في المواقف الثلاثة جميعاً:
فالعناصر الخاصّة: هي تلك العناصر الخاصّة التي تتغيّر من مسألةٍ إلى أخرى، فرواية
يعقوب بن شعيب عنصرٌ خاصٌّ في عمليّة استنباط حرمة الإرتماس، لأنّها لم تدخل إلا في
حكم حرمة الإرتماس، دون أيٍّ من عمليّات الاستنباط الأخرى، بل دخلت بدلاً عنها
عناصرُ خاصّةٌ أخرى كرواية عليّ بن مهزيار أو ورواية زرارة، فالعناصر الخاصّة هي
تلك القواعد التي تدخل في عمليّة استنباط مسألةٍ فقهيّةٍ خاصّةٍ.
ولكن يوجد إلى جنب هذه العناصر الخاصّة بكلّ مسألةٍ عناصر مشتركةٌ وردت في كلّ
هذه الأبواب الفقهيّة، ويستعملها الفقيه أيضاً في كثيرٍ من الأبواب، نذكر منها:
1- حجيّة الظهور: وهي تعني الرجوع إلى الفهم العرفيّ العامّ لفهم الكلام
الصادر عن المعصوم، بمعنى أنّ ما يفهمه العرف العامّ من الكلام هو الحجّة وهو الذي
يعتمد ويبنى عليه، فحجيّة الظهور إذن عنصرٌ مشتركٌ في عمليّات الاستنباط الثلاث.
2- حجيّة خبر الثقة: وهي تعني أنّ الثقة، وإن كان قد يخطئ أو يشذّ أحياناً،
ولكنّ الشارع أمرنا بالاعتماد على كلامه وعدم اتهامه بالخطأ أو الكذب. وهذا يعني
أنّ الشارع قد اعتبر كلام الثقة حجّة. وهكذا نستنتج أنّ عمليّات الاستنباط كما
تشتمل على عناصر خاصّةٍ، كذلك تشتمل على عناصر مشتركةٍ. وعليه يمكن تعريف العناصر
المشتركة بأنّها القواعد العامّة أو العناصر التي تدخل في عمليّة استنباط أحكامٍ
شرعيّةٍ عديدةٍ ولا تختصّ ببابٍ فقهيٍّ دون باب.
وفي علم الأصول تدرس العناصر المشتركة، بينما في علم الفقه تدرس العناصر الخاصّة في
كلّ مسألةٍ. وهكذا يترك للفقيه في كلّ مسألة أن يفحص بدقّةٍ الرواياتِ والمداركَ
الخاصّة التي ترتبط بتلك المسألة، ويدرس قيمة تلك الروايات، ويحاول فهم ألفاظها
وظهورها العرفي، وأسانيدها. بينما يتناول الأصوليّ البحث عن حجيّة الظهور، وحجية
الخبر وهكذا.
وهكذا نخلص إلى تعريف علم الأصول بأنّه "العلم بالعناصر المشتركة (أو القواعد
العامّة) في عمليّة استنباط الحكم الشرعيّ، أو تحديد الموقف العمليّ"5.
وكما أنّ العناصر المشتركة ضروريّةٌ لعمليّة الاستنباط، كذلك العناصر الخاصّة التي
تختلف من مسألةٍ لأخرى، كمفردات الآيات والروايات المتناثرة، فإنّها الجزء الضروريّ
الآخر في هذه العمليّة. فلا يكفي مجرّد الاطلاع على العناصر المشتركة التي يمثلّها
علم الأصول. فإنّ من يحاول الاستنباط على أساس الاطلاع الأصوليّ فحسب، يكون كمن
يملك معلوماتٍ نظريّةً عامّةً عن عمليّة النجارة، ولا يوجد لديه فأسٌ ولا منشارٌ
وما إليهما من أدوات النجارة. فكما يعجز هذا عن صنع سريرٍ خشبيٍّ مثلاً، كذلك يعجز
الأصوليّ عن الاستنباط إذا لم يفحص بدقّةٍ العناصرَ الخاصّة المتغيّرة من مسألةٍ
إلى أخرى. فالعناصر المشتركة والعناصر الخاصة قطبان مندمجان في عمليّة الاستنباط
ولا غنى لها عنهما معاً.
* علم الاصول، سلسلة مداخل العلوم ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- اعتمدنا في (تعريف
علم الأصول، وموضوعه وغايته) على كتاب الحلقة الأولى للشهيد السيّد محمد باقر الصدر
رضوان الله عليه ، مع ملاحظة بعض التصرّفات والتعديلات.
2- الكليني: (ت: 329 هـ): الكافي/ تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب
الإسلاميّة، طهران ـ إيران، ط. الثالثة 1363 هـ ش. باب: إنّ المحرم لا يرتمس في
الماء، الحديث 2، ج 4 ص 353.
3- الحرّ العامليّ (ت: 1104 هـ): وسائل الشيعة/ مؤسسة آل البيتRلإحياء التراث، قم ـ
إيران، ط. الثانية 1414 هـ/ باب: السابع من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5، ج 9
ص 501.
4- الكليني: (ت: 329 هـ): الكافي/ تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب
الإسلاميّة، طهران ـ إيران، ط. الثالثة 1363 هـ ش. باب: ما يقطع الصلاة، الحديث 6،
ج 3 ص 365.
5- وهناك عدّة تعاريف لعلم الأصول نذكر منها التعريف المشهور بأنّه: " العلم
بالقواعد الممهِّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة" قوانين الأصول: الميرزا القمي ( ت:
1231 هـ)، ط. حجرية قديمة، ص 5.