يتم التحميل...

كلمة سماحة السيد حسن نصر الله في الليلة التاسعة من محرم 1437هـ

2015

اليوم، سأحاول اختصار الموضوع ما أمكن، فالوقت لن يتسع لكل شيء . لذلك بعض العناوين نفصلها وبعض العناوين نجملها وسنعتمد بشكل أساسي على الآيات القرآنية الكريمة والشريفة لأن القرآن الكريم هو أوثق مصدر يمكن أن يحدّثنا عن ذلك اليوم لأن هذا من أنباء الغيب.

عدد الزوار: 172

كلمة سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) في الليلة التاسعة من محرم 22/10/2015

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

السلام عليك يا سيدي ومولاي، يا أبا عبد الله الحسين، يا بن رسول الله، وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليكم مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم.

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.


السادة العلماء، الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته. وعظّم الله أجوركم.

الليلة نكمل بقية الحديث عن الحياة بعد الموت، ويوم القيامة، وأحداث يوم القيامة.

اليوم، سأحاول اختصار الموضوع ما أمكن، فالوقت لن يتسع لكل شيء . لذلك بعض العناوين نفصلها وبعض العناوين نجملها وسنعتمد بشكل أساسي على الآيات القرآنية الكريمة والشريفة لأن القرآن الكريم هو أوثق مصدر يمكن أن يحدّثنا عن ذلك اليوم لأن هذا من أنباء الغيب.

هناك مقدمة وجيزة مختصرة، وهي تنفع على كل حال سواء لحديث الليلة أو لفهم القرآن بشكل عام في أي موضوع من الموضوعات.

نحن نعلم بأن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن بلغة العرب، وبالتالي من يريد أن يفهم القرآن ومعاني الآيات الشريفة يجب أن يكون عارفاً باللغة العربية ليفهم معنى هذه الكلمة وتلك الكلمة وهذه الجملة وهذا التركيب لهذه الكلمات على ماذا يدلّ.

في أساس اللغة – سأحاول تبسيطها قدر المستطاع ــ نحن الناس عندما نستخدمها، يوجد كلمة نستخدمها لمعنى ؛ مثلاً، نقول : جبل لنصف الجبل الذي هو صخر ومرتفع، هذا جبل. هذا القمر؛ في الليل نقول هذا قمر. البحر، بحر الماء؛ نقول هذا بحر. إذا كان هنالك أسد في الغابة أو في الصحراء نقول : هذا أسد. وأيضاً الطاووس في الحديقة ؛ نقول أن هذا طاووس . فكلمة جبل وقمر وبحر وأسد وطاووس هنا تستخدم في المعاني الحقيقية أن هذا معناها.

أحياناً يوجود بين معنى معيّن وهذا المعنى الحقيقي؛ يوجد تشابه ما في نقطة اتصال ما، في مناسبة ما . نتيجة ذلك نستخدم نفس الكلمة لمعنى آخر غير المعنى الحقيقي. وهذا يسمّى استعمال مجازي. مثلاً: إذا رأينا شخص قوي، ثابت، قوي العزم ماذا نقول عنه، نقول : هذا جبل ؛ ليس بقصد الصخر والتراب والرمل والحيطان وعلو بل أنه صلب كالجبال ثابت وراسخ. أو شخص جميل جداً نقول هذا فلان قمر ليس بمعنى أنه في السماء ودائري بل هنا جهة الاشتراك أو التشابه هي الجمال. أو شخص ما متكبّر نقول عنه : فلان طاووس، فهل هو طاووس .أي انه يزهو بريشه مثل الطاووس ؟ هذه نسميها استعمالات مجازية . أو مثلاً، فلان جريء، شجاع مقدام في الحرب، نقول : العباس أسد، هل هو أسد والعياذ بالله أي حيوان مفترس، بل أسد بمعنى شجاع، مقدام جريء لا يخاف. هذه نسميها استعمالات مجازية .وهي موجودة عند جميع الناس؛ فهذا لا علاقة له بالعلم والعلماء فقط . جميع الناس يستخدمونها ونحن في حياتنا الطبيعية نستخدم هذه الأمثلة .

عادةً، عندما يتكلم أحد ما، علينا أن نحمل كلماته على أنه يقصد المعاني الحقيقية وإذا كان يقصد المعاني الأخرى والتي نسميها المعاني المجازي فعليه أن يقدم قرينة أو إشارة أو دليل ليبيّن قصده.

هذه المقدمة تنفع بكل قراءتنا للقرآن، لأن القرآن عندما نزل بلغة العرب فهو قمّة البلاغةز فيه " حقيقة " وفيه " مجاز "، وليس جميع الكلمات المستخدمة في القرآن يُقصد منها المعنى الحقيقي. سنأخذ مثل سريع، يقول تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى - أي من كان في الدنيا فاقد النظر، فاقد البصر نقول عنه في الدنيا أعمى – ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلً : إذا كان شخص ما، أعمى، فاقد البصر في الدنيا يُحشر في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً أيضاً ويذهب إلى جهنم فقط لأن الله خلقه أعمى أو أنه تعرض لحادث وفقد بصره؟ كلا، هنا المقصود بالأعمى ليس فاقد البصر وإنما المقصود هو أعمى القلب ــ المعنى المجازي ــ يعني الضالّ والمنحرف. أو أن بعض الآيات التي تتحدث عن أن يد الله فوق أيديهم. الله ليس بجسم، والله ليس كمثله شيء. اليد في اللغة العربية كما أنها تُستخدم في هذه اليد تُستخدم أيضاً بمعنى القدرة؛ تُستخدم أيضاً بمعنى العلاقة . مثلاً، أنا ليس لي يد في هذه القصة أي ليس لي علاقة، أو فلان له يد علينا بمعنى أنه متفضّل علينا .

فإذاً ، اللغة العربية، لغة بليغة ومفتوحة على استعمالات مختلفة. القرآن جاء بهذه اللغة. ولذلك بعض الآيات تُحمل فيها الكلمات على المعاني الحقيقية وبعض الآيات تُحمل فيها على المعاني المجازية ؛ طبعاً بوجود دليل أو قرينة أو إشارة أو علامة تدل على ذلك.

نعود لبحثنا؛ قيام الساعة. سبق وتحدثنا عن عالم البرزخ، الآن نتحدث عن قيام الساعة، المرحلة الأخيرة والكبرى.

زمان قيام الساعة، ومتى تقوم الساعة لا أحد يعلم إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا من الغيب الذي اختصّ الله به نفسه. هناك غيب، مستقبل، أخبر الله به أو عنه أنبيائه (عليهم السلام) والأنبياء أخبروا الناس، وهناك غيبٌ اختصّ الله به نفسه، ولم يطلع عليه أحداً من أنبيائه أو أوليائه أو ملائكته. من جملة هذا الغيب الخاص زمان قيام الساعة. ولذلك نحن لا نعرف متى يأتي زمان الساعة : بعد سنة، مئة سنة، ألف سنة، عشرة آلاف سنة، مئة ألف سنة، مليار سنة، لا نعلم عنها شيئاً . وتأتي بغتة. من علاماتها ومن مواصفاتها أنها تأتي بغتة . حتى إن بعض الروايات تقول أن الناس يكونون يعيشون حياتهم بشكل طبيعي: الذي يعمل في الأرض ، والذي يتحضّر للخروج، والذي يأكل ويشرب... تأتي بغتة، ولا نعرف زمانها على الإطلاق . ولا نعرف الفاصل الزماني بيننا وبينها.

ما هي الأحداث التي تحصل عندما يأذن الله سبحانه وتعالى أو يشاء أن تقوم الساعة. يوجد عدّة أنواع من الأحداث. نوع من الأحداث له علاقة بالمخلوقات، بالأحياء على اختلافهم ومنهم البشر. ونوع من الأحداث له علاقة بالموجودات، بالكون، بالطبيعة : الشمس، القمر، الجبال، البحار إلى آخره . إذاً ، يوجد هذان النوعان من الأحداث. نبدأ بالنوع الأول لنصل إلى أحداث يوم القيامة.

الطابع العام في البداية لهذه الأحداث من أولها إلى آخرها، الطابع العام هو الفزع والخوف؛ الذهول، الرعب والهلع، القلق على المصير. عموماً هذا يرافق الإنسان منذ بدء الأحداث إلى أن يُحسم الموقف ويُدخَل أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.

يقول الله تعالى في أول سورة الحج: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.

نأتي للنوع الأول من الأحداث الذي له علاقة بالمخلوقات وبالناس. القرآن الكريم يحدّثنا بأن الله سبحانه وتعالى يأمر ــ عندما يريد أن يقيم الساعة ، أو بدايات يوم القيامة – يأمر بإماتة كلّ حيّ : بشر، جن، ملائكة، حيوانات . كل شيء حيّ في الوجود، يأمر الله سبحانه وتعالى بإماتة كلّ حيّ، ولا يبقى في الوجود حيٌّ إلا الله سبحانه وتعالى، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.

إذاً، كيف يميت هؤلاء الأحياء؟ هنا لا نتحدّث فقط عن الموجودين في الأرض . بمعنى أن الموجودين على قيد الحياة في الأرض. الملائكة في الأرض وفي السماء وفي كل الوجود والجن حيث هم، الحيوانات . حيث يوجد حيّ في دار الدنيا بالإضافة إلى من هو حيّ في عالم البرزخ، الله يأمر بإماتة كلّ حيّ سواء موجود في دار الدنيا أو في عالم البرزخ ويبقى هو الحيّ.

كيف يميتهم؟ في الآيات القرآنية حديث عن أمرين أو شكلين: حديث عن الصيحة؛ صيحة قوية، هائلة، عظيمة في لحظة واحدة تصل إلى كل حيّ في هذا الوجود، فتميته. وحديث بتعبير آخر، عن النفخ في الصور – أنه يُنفخ في الصور.
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ.

ما هو الصور؟ هو البوق. في اللغة العربية هو البوق. وسُئل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصور فقال هو البوق الذي يُنفخ فيه. إذاً، هذا البوق الذي يُنفخ فيه . عند الناس، عادةً، إلى ما قبل عشرات السنين قبل اختراع مكبّرات الصوت، عندما يريد أحد ما استنفار عسكره ــ موزعين، مشتتين ــ فينفخ بالبوق . والمعنى أن البوق يكبّر الصوت، ليسمع كل من في العسكر ويقومون من فراشهم، يلبسون ثيابهم ويسارعون إلى نقطة التجمّع. أو لتجميع أهل البلد لحضور أمير أو قاض أو وفد. فعند النفخ بالبوق كان يجتمع الناس إليهم . البوق، هو إذن الوسيلة المعروفة منذ أن خلق الله آدم إلى ما قبل عشرات السنين وللآن ما زالت بعض الناس تنفخ بالبوق. فإذاً الصور هو البوق.

لكن هل المقصود هنا أن الله سبحانه وتعالى ، كما هو موجود في بعض الروايات والأقوال أيضاً ؛ أن إسرافيل أحد الملائكة العظام والكبار في يده بوق ــ لا نعرف ما هو هذا البوق، حجمه، مواصفاته، ميزاته، قدراته، الفيزيائية مثلاً، لا نعرف شيئاً عن هذا – ينفخ إسرافيل في البوق فيصل الصوت الذي ينطلق من البوق إلى كلّ حيّ ويميته. هذا المعنى قد يكون هو المقصود، وقد يكون النفخ في البوق من قبيل ما ذكرناه في البداية ؛الاستعمال المجازي . لأنه عادة إذا أراد الناس جمع من حولهم ويستدعوهم إلى نقطة تجمع يستخدمون البوق . وإلا المقصود هو الصيحة التي يخلقها الله سبحانه وتعالى بقدرته اللامتناهية العظيمة ؛ يخلق صيحة هدارة عظيمة مهولة تصل إلى كل حيّ وتميته. الآن، العلماء والمفسرون يقولون هذا محتمل وذاك محتمل. المهم بالنسبة إلينا في هذا المشهد هو النتيجة.

النتيجة، أن هناك صوتاً قوياً، مرعباً، مخيفاً سيدخل إلى كل عقل وقلب وذي روح في الدنيا وفي البرزخ، فيُصعق له من في السماوات ومن في الأرض . الصعق يعني الغشية. وهذه الغشية قد تكون مميتة وقد لا تكون مميتة، ولكن هذه الصعقة مميتة لكل هؤلاء ، إلا ما شاء الله . يفسرونها ويقولون أنه يُعفى من هذه الصعقة بعض الأشخاص . مثلاً، البعض يقول جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل هؤلاء الأربع ملائكة. والبعض يقول بل كبار الملائكة الذين يُعفون، وبعض الروايات تقول الشهداء يُعفون. ونجد بعض المفسرين يقول : إلا من شاء ربك ؛ هذا فقط من قبيل الاحتفاظ بالحقّ، والتعبير عن القدرة وإلا يُصعق كل من في السماوات وكل من في الأرض بدون استثناء . نحن بالتأكيد لسنا من جماعة المستثنين حتى الآن. إلا إذا كان الاستثناء يشمل الشهداء ووفقنا لهذا الوسام الإلهي الرفيع وسام الشهادة - في كل الأحوال، هؤلاء يُصعقون، ويموتون ولا يبقى حيّ سوى الله سبحانه وتعالى.

هذا الحدث الأول الذي يرتبط بالمخلوقات وبالأحياء، معهز أي مع هذا الحدث ، أو قبله، ومعه، وبعده. متزامناً، وقبل وبعد ــ حسب طبيعة الأحداث الكونية التي سنتحدث عنها بعد قليل – تحصل أحداث لها صلة بالوجود وبالكون.
بعد قليل سأقرأ عدد من الآيات. وقبلها دعوني ألخص المشهد ونعود لنقرأ الآيات دون حاجة إلى تفسيرها.لأنه من خلال تلخيص المشهد يكون تفسير الآيات واضح بالنسبة لكم .

ما الذي يحدث في المشهد الكوني. الله سبحانه وتعالى – طبعاً لا يحتاج شيئا، كن فيكون. الشمس التي هي مصدر النور والدفء والحياة وو ــ وتعلمون فائدة الشمس في منظومتنا الشمسية وفي هذا الكون وفي هذا الوجود – الشمس تُكوَّر أي تُلف وتطوى وتُحجب ويُطفأ نورها هذا معنى التكوير. وعندما تُطفأ الشمس لا يبقى للقمر نورٌ لأنه يكتسب نوره من الشمس، ويعمّ الظلام والعتمة الأرض وفي الحد الأدنى كل منظومتنا الشمسية أو كل ما يستضيئ بنور هذه الشمس. هذا أولاً.

ثانياً، الكواكب في السماء، النجوم، هذه الكواكب تُطمس وينطفئ نورها وتتبعثر وتتناثر وتتساقط وتتهاوى وتتلاشى؛ تنكدر. هذا معنى قوله أن الكواكب تنكدر. هذا علمياً موجود. وهناك شيء اسمه ــ لو ترون بعض المحطات العلمية ــ موت النجوم، موت الكواكب؛ لها موت .

السماء، هذه السماء المرفوعة فوق رؤوسنا، تُفتَّح، وتنشق وتنفطر. الجبال، تُنسف وتصبح رمالاً؛ كثيباً مهيلاً ، أي مثل كثبان الرمل حتى أنها تطير بفعل الهواء ، وتُدكّ مع الأرض دكّة واحدة، هذه الجبال.

مثلاً، إذا أردنا أن نقرّب المشهد : في حال تمّ تفجير جبل ما، ماذا يحدث في المنطقة من الصوت والهزة والرعب الذي يملأ القلوب، أو بنايتين وليس جبلاً، يزنرونهما وينزلوهما الأرض. تصوروا أنتم مشهد أن كل جبال الأرض في لحظة واحدة تُنسف وتُدكّ مع الأرض دكّة واحدة. أي قلوب وأي عقول تستطيع أن تتحمل هذا الحادث.

الأرض، تُرجّ، وتزلزل، وتُدكّ، وتُخرج ما في بطنها وتُمدّ. فالأرض الجديدة تصبح أرض ممدودة. لا جبال فيها ولا وديان ولا اعوجاج؛ أرض منبسطة، ممدودة تُمهّد لتكون صحراء المحشر الذي يُجمع فيه مليارات البشرية والمخلوقات.

البحار، تُفجّر، وتُسجّر، وتُضرم بالنار – تشتعل مياهه – وتتبخّر. لا يبقى بحار. - لا بحار، لا جبال، لا وديان، لا شجر، لا شيء، ولا حيوانات، ولا حياة. - أرض مدكوكة، ممدودة، لا عوج فيها، صحراء ممتدة . هذه هي الصحراء التي سيحتشد فيها البشر ويُحشروا فيها للوقوف والحساب.

ما الذي نفهمه من هذه المشاهد القرآنية؟ نفهم منها أن الله سبحانه وتعالى لا يُفني الكون وإنما يعيد تكوينه، يعيد ترتيبه، يعيد بنائه من جديد في منظومة جديدة، في نظام جديد؛ أرض جديدة، سماء جديدة. هذه الأرض الجديدة التي سيحشر عليها الناس . من الممكن أن نسأل: أكل شيء سيبقى ظلام وسنتحاسب يوم القيامة في العتمة ؛ لا شمس ولا قمر ولا نجوم ؟ في تلك المنظومة الجديدة الله يخلق النور مباشرة، يخلق الله نوراً يضيء لكل أهل المحشر. ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَ.

إذن، نحن في يوم القيامة، أمام كونٍ جديد، أمام وجود جديد، أمام طبيعة جديدة. ولكن طبيعة فيها تحت وفوق، وفيها نور وإضاءة وبعدها يأتي جنة ونار إلى آخره . هذا الوجود الجديد، وهذا الكون الجديد، له قوانينه المختلفة عن قوانين هذا الكون. قوانين الفيزياء والكيمياء والطبيعيات والطب والهندسة والرياضيات وكل ما له علاقة بالفلك كل هذا لهذه الدنيا . هذا الكون الجديد له أنظمته، له قوانينه، له موازينه، له سننه المختلفة عما كان عليه الكون قبل قيام الساعة ولذلك يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ــ نحن أمام أرض جديدة ــ ﴿وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، أمام أرض جديدة وسماوات جديدة كوّنها الله أو أعاد تكوينها وتنظيمها وترتيبها من هذا الوجود الذي يفجّره أو يدكّه أو يزلزله أو ما شاكل.

سنأخذ شواهد سريعة من الآيات القرآنية وبعض الآيات سأقرئها مباشرة من المصحف. لن أترجم، ولكنني سأتمنى من الإخوة والأخوات أن يتابعونني بقلوبهم وعقولهم إن شاء الله.

في سورة الواقعة ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّ – تصوروا الآن إذا رجت الأرض ماذا يحدث للناس من هلع وخوف. بعض الدول يحدث فيها زلزال لنصف ثانية ترى الناس قد أصبحت في الشوارع وهامت على وجوهها. بنايات تسقط، وأرض تتشقق، فكيف إذا كانت كل الأرض، كيف إذا الكرة الأرضية الله سبحانه وتعالى، رجّها. كيف سيكون المشهد؟

﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا – فُتِّتت - فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّ هذا من سورة الواقعة.

سورة المرسلات: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ.

سورة الحاقّة: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ – هي نفخة واحدة وليس بحاجة للنفخ أكثر من مرة ليميت كل الأحياء - * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً – ليست على مراحل ليست مجموعة زلازل بل دكّتا دكّة واحدة - فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ . لماذا تنشق السماء ولماذا تصبح واهية ولماذا تتحلل، المقصود هذا الغلاف الجوي الذي يحمي الكرة الأرضية من النيازك ومن النجوم والأحجار الساقطة من السماء، هذه السماء كلها تنشق، وتنفرج وتفتح وكل هذا الهول الذي نشاهده في الأفلام الوثائقية الواقعية العلمية سيسقط دفعةً واحدة على الأرض.

سورة المزمل: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلً . أي تصبح كثيبة من كثبان الرمال.

سورة الانشقاق: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ – سبق وذكرنا بأن الأرض تصبح ممدودة - * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ.

سورة الانفطار: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ.

سورة القارعة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْقَارِعَةُ – أي القيامة التي تقرع القلوب والعقول والأرواح - الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ – هنا تكون كالفراشات المنتشرة، الضائعة، التائهة - * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ – هذه الجبال الصلبة تصبح كالصوف المنفوش * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ.

سورة الزلزلة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا – هذا هو الزلزال الحقيقي وكل الزلازل التي نشاهدها ستكون شيء تافه أمام ذاك الزلزال - * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا – مذهولاً - * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ.

سورة التكوير: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ – هذا من أضخم الأحداث التي تحصل يومها انطفاء الشمس واحتجابها - * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ – أي تُضرم بالنار - * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ – مثلاً ممكن أن يكون هذا الغلاف الجوي * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ – هذا تكملة للمشهد تبدأ جهنم بالغليان لأنها تريد استقبال ضيوفها - * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ – انظروا الجحيم سُعّرت، الجنّة تُجهّز وتُهيّأ كما تهيّئ القصر للضيافة لضيوفك الكرام -* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ.

هذه الأحداث الكونية – ممكن بعضها واحتمال أن العرض قد لا يكون شاملاً – ولكن هذا بعض ما سيحصل.

الآن، انتهينا، لا يوجد أحياء، ونحن أمام كون جديد. الله أعلم كم يبقى من الزمن حتى يشاء الله أمرا ًآخر. وهو أمر الإحياء والبعث. بعث المخلوقات والبشرية للحساب. أيضاً لا نعرف شيئاً عن الفواصل الزمانية. بعد أن يُميت الله سبحانه وتعالى الأحياء ويعيد صياغة الوجود والكون بشكل جديد، لا نعلم إلى متى ــ مليون سنة، مليارات السنين، سنوات، أيام، ساعات ــ لا نعلم شيئاً. والقرآن لم يحدّثنا عن هذا الأمر. لكن عموماً لا أحد لديه قطع ويقين في الإجابة على هذه المسألة ... إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يقيم القيامة الكبرى.

هنا نعود للبشر، الله سبحانه وتعالى – أيضاً بنفس الصيغتين اللتان تحدثنا عنهما بالإماتة – يوجد صيغتين: صيغة تتحدث عن الصيحة ؛ قوية، هائلة، هادرة ، تُحيي كل الموتى وتُخرجهم من القبور، من الأجداث. وصيغة ثانية، كالحديث الأول، أن يُنفخ في الصور، النفخ في البوق، النفخة الثانية هي نفخة الإحياء، والإقامة من القبور والأجداث، هي نفخة البعث وإعادة الحياة.

إذن، إمّا صيحة ؛ ويكون لدينا صيحتين ، أو نفخ في البوق ــ في الصورــ الذي هو بوق خاص يتناسب مع هذه المهمة، مع هذا الوجود . وقلنا أن هذا كله محتمل فيتمّ إحياء المخلوقات من جديد.

يقول الله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ. الأجداث تعني القبور. تصوروا أنتم الآن في مشهد الأرض كلها : قبور والناس مدفونون، والذين تمّ دفنهم. ويحتمل أن يكونوا دفنوا بفعل سقوط الكواكب والنجوم والجبال والزلازل؛ كله يصبح في بطن الأرض. وأنني أتصور الآن، مجرد تصوّر؛ أن جسد فوق الأرض قد لا يبقى . كله سينزل تحت الأرض إما عن طريق الدفن أو بسبب الزلازل والأحداث الكونية. بعدها الأرض تخرج أثقالها؛ كل ما في داخلها.

تصوروا أن هؤلاء يعودون إلى الحياة، الأجساد تلتئم من جديد، تُبعث الحياة في الأجساد، تُعاد الأرواح إلى الأجساد، وتُفتح القبور وناس تخرج من القبور. مليارات البشر في لحظة واحدة، في ساعة واحدة، في وقت واحد ؛ يستيقظون ويخرجون مذهولين، مرعوبين.

هذا موجود. في يوم من الأيام السيد المسيح (عليه السلام) مرَّ إلى جانب قبر فسأل الله سبحانه وتعالى عن إمكانية إحيائه لسؤاله عن شيء ما، فيُؤذن له. فناداه وأحياه، فانشق القبر وخرج هذا الميت من القبر. رآه شائب، أبيض شديد البياض، مرعوب، مذهول. سأله عن وقت شيبته، فأجابه أنه قد شابَ في الحال لظنه أنه يوم الخروج. هو ظنّ أنه يوم الخروج. فكيف بيوم الخروج الحقيقي؟

﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ . أي يذهبون إلى ربهم إلى المكان الذي سيُحشرون فيه. ينسلون أي يسرعون في الانفصال عن قبورهم - * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ . إذاً، الموضوع جدي! الأنبياء والرسل قالوا لنا ذلك ولم نصدقهم، كنا مشتبهين وكنا غافلين - * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ هذا من عظمة الله سبحانه وتعالى . نحن إذا أردنا جمع ألف وألفين، عشرة آلاف شخص فكم يحدثون من الإرباك. إذا دولة أرادت تنظيم مسيرة مليونية تعمل كل أجهزة الدولة لتنظيم المسيرة المليونية فلا أحد يدعس على أحد ولا أحد يقتل أحد ؛ الله سبحانه وتعالى بصيحة واحدة يحشر مليارات وأكثر - والله أعلم ما العدد – إلى أرض المحشر.

قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ . كل ذلك على الله يسير، ويخرجون من قبورهم؛ تتشقق الأرض ويخرجون منها مسرعين إلى ذلك المكان.

﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ . ويمشي مليارات الناس من قبورهم إلى المكان المفترض أن يجتمع فيه الناس للسؤال والحساب والوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى. يخرجون من قبورهم بدون أكفان، إلا استثناءات وهي موجودة بالروايات، حفاة، عراة.

الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول: "..أنظر تارة عن يميني وأخرى عن يساري..". فكيف يطلع من قبره؟ لا أحد ينظر إلى الآخر، لا أحد يهمه الآخر، كله مشغول قلبه وعقله، مذهول، قلبه قلق على مصيره، على مستقبله، على السؤال والحساب والوقوف بين يدي الله، ويقفون بين يدي الله سبحانه وتعالى طويلاً.

الآية تقول: ﴿الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ وذلك من شدّة الخوف ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ . في الحرب أقسى تعبير قرآني وعربي بليغ عن الخوف : " وإذا بلغت القلوب الحناجر " . هنا القلوب لدى الحناجر. كاظمين، أي لا يستطيعون الكلام، لا يستطيعون التنفس، إلا بإذن من الله سبحانه تعالى . لا توجد فوضى، لا ضجيج، لا يتحدثون مع بعضهم البعض : سكون، هيبة، هول.

ويقفون طويلاً، طويلاً ــ ونحن لا نعلم كم يطول هذا اليوم . من هذا اليوم وصاعداً عندما نقول يوم لا نقصد به 24 ساعة؛ هذا من أنظمة هذا الكون. ذاك الوجود الجديد أنظمته مختلفة، يومه مختلف وأحقابه وسنواته مختلفة كما ورد في القرآن الكريم،ــ إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى ويأمر بالسؤال والحساب. هنا يأتي السؤال والحساب. متى يبدأ؟ الله أعلم ما هو الفاصل بين أن يُحشد الناس في صحراء المحشر: وقوفاً، عراة، حفاة، يتصبب منهم العرق، يملأهم الرعب، يعانون الجوع والعطش. ولذلك وُصف يوم القيامة بيوم الجوع الأكبر، ويوم العطش الأكبر، يوم الفزع الأكبر.

في خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شهر رمضان، عندما يوصي بإطعام الصائمين وإطعام الفقراء والأيتام يتحدث عن يوم الجوع الأكبر ويوم الفزع الأكبر.

كم يمتد هذا اليوم لا نعلم . في اللحظة التي يشاء الله سبحانه وتعالى؛ تفضلوا إلى الحساب. تفضلوا إلى الحساب، بالتعبيرات القرآنية؛ أنه يتم وضع الموازين. الميزان ــ نعود إلى المقدمة ــ بعض الناس تفسّر الميزان، بأنه الميزان الذي له كفتين والذي لم يعد يُستخدم كثيراً بل أصبح الميزان الإلكتروني بديلاً عنه. فالمقصود ليس الميزان الذي له كفتين بل الميزان ما يُستخدم للتعديل . ولذلك عندما نتحدث عن القوافي بالشعر نتحدث عن الموازين والميزان؛ نتحدث عن البلاغة ؛ ميزان. عندما نتحدث عن العقل : (زنها بعقلك) أي على العقل أن يزنها . لذلك إذا تحدثنا عن الأعمال فالأعمال ليس لها وزن كمّي بهذا المعنى . أي أن نضع هذا بكفة وهذا بكفة لنزن. لذلك يذهب أغلب المفسرين إلى القول أن المقصود هو المعنى المجازي ؛ أن الناس يُسألون عن أعمالهم وتُزان أعمالهم. فمن ثقلت موازينه؛ ومن خفّت موازينه : المقصود هنا ثقل العمل، عظمة العمل، ضخامة العمل، أهمية العمل، الخلوص في العمل، وهذا عمل خفيف وذاك عمل ثقيل مثلاً.

يبدأ السؤال؛ السؤال والحساب. يوجد حساب أفراد ويوجد حساب أمم وجماعات. من يريد الاطلاع على تفاصيل هذا الموضوع يرجع إلى كتاب المدرسة القرآنية للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) . لنبقى مع حساب الأفراد.

في يوم القيامة، لدي حساب أفراد ﴿وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدً. عندما يقولون تقدّم – عادة في الدنيا عندما يطلبون من شخص ما التقدّم فيتمسّك بالذين حوله، أخاه، أباه، رفيقه تقدّموا معي، كل هذا لا يوجد ــ ستكون وحدك وتقف على رؤوس الأشهاد بين يدي الله عزّ وجلّ . أنبياء، ملائكة، البشرية كلها منذ آدم إلى قيام الساعة تحضر حسابك . ولذلك في الكثير من الأدعية نطلب من الله عزّ وجلّ أن يستر علينا يوم القيامة، أن لا يفضحنا يوم القيامة على رؤوس الأشهاد لأننا قمنا بأموراً في الدنيا وخجلنا من الناس ولم نخجل من الله، فخفنا من الفضيحة في الدنيا ولكننا لم نخف من الفضيحة يوم القيامة. في الدنيا من الذي سيعلم: أهل بيتك، جيرانك، منطقتك، جماعتك، حزبك، حركتك، تنظيمك، بلدك. والآن ؛ حتى وسائل الإعلام: كذب وصدق، تفضح شمال ويمين ، لكن يوم القيامة كل البشرية. أنت تُفضح على رؤوس الأشهاد منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة فإذا كان أحدهم حريص على كرامه ــ وهذا غير الجنة والنارــ عليه أن يكون حريصاً على أن لا يرتكب عيباً أو ذنباً يفضحه الله به يوم القيامة.

إذاً، يتقدّم إلى الأمام . تفضل هذا كتابك : فيه كل شيء لا صغيرة يغادرها ولا كبيرة، كل شيء قمت بها موجود في هذا الكتاب. قد يسأل البعض: أن البعض قد عاش مئة سنة أو مئتي سنة ومن أيام زمان عاشوا 900 وألف سنة، فماذا سيكون هو حجم الكتاب ؟ الآن بدأنا نفهم. قبل مئة سنة لم يكن هناك جواب لهذا الموضوع وكانوا يقولون الله أعلم. وما زلنا نقول الله أعلم ، ولكن أصبح بإمكاننا اليوم أن نفهم الموضوع عن طريق كمبيوتر صغير تحمله وتضعه في جيبك فيه عشرات وآلاف الصفحات والمجلدات؛ تضغط الزر ويظهر أمامك . ويحتمل أن يكون هذا الكتاب مصوَّر أيضاً والله أعلم . فمن يقول باحتمال أن يكون كل شيء مكتوب، بل من الممكن أن تكون كل أحداث حياتك مصوَّرة أمامك . ولذلك الإنسان عندما يقرأ كتابه يسقط في يده، فلا مجال للكذب. في الدنيا مثلاً ، في المحكمة عند القاضي تكذب، تزوّر، تحلف اليمين بالكذب، تأتي بشهود زور، تغيّر بالوقائع . لكن في يوم القيامة، كل شيء مسجّل في هذا الكتاب، والأنبياء شهود، والملائكة، شهود، والأرض التي كنت تسير عليها شهود، والجدران والسقف الذي كنت ترتكب عليهم المعاصي شهود، ولسانك يشهد عليك، ويديك ورجليك تشهد عليك، أين ستهرب؟ لا مفر.

في هذا اليوم، من هو القاضي؟ العدل المطلق، لا ظلم اليوم. الله والقرآن يقول: لا ظلم اليوم . بين يدي العدل المطلق ، الذي ليس لديه وساطات، ولا حسابات، ولا يخاف من أحد، ولا يُرشى، لا شيء ؛ عدل مطلق، غني، قادر ولا يخفى عليه شيء، علمه يحيط بكل أحوالك وأوضاعك وهو الذي خلقك. فإلى أين المفر؟

تحاول أن تجد أحد ليدافع عنك . في الدنيا تجد محامٍ ليدافع عنك، في الآخرة لا يوجد محامٍ . الله تعالى يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَ . لا يوجد محامٍ ليدافع عنك؛ يعرف القانون وشاطر. عليك أنت أن تدافع عن نفسك وهذه الوقائع كلها أمامك.

النتيجة، على ضوء الحساب، والكتاب، والسؤال، والإجابات، يُحسم الموقف: فمن ثقلت موازينه ؛ من يكون عمله ثقيلاً، وأمضى حياته في العمل الصالح، أكثرَ من الصالحات، هذا إلى الجنة. ومن كان عمله خفيف، وضعيف، أو لا عمل صالح له أصلاً، فهذا إلى النار . فالمسألة ليست بهذا التعقيد؛ ليست بحاجة إلى كتاب حقوق للعالم الآخر ولا أي شيء .

﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ . أمه بمعنى مأواه - * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ . وتوزّع الشهادات والكتب. بعض الناس يأخذون كتابهم بيمينهم . كل من يأخذ كتابه بيمينه إلى الجنة. وكل من يأخذ كتابه بيساره أو على ظهره فإلى جهنم .

عندما يصدر القرار، أو قبيل صدور القرار – مثل المحاكم في الدنيا - يبدأ الإنسان يفتش عن الحلول والخيارات. ما الذي عليه فعله، وكيف سيتخلص من هذه المصيبة التي وقع بها الآن. هذه المعاني كلها موجودة في القرآن. يأتي ليعتذر، فيقول له الله: لا ينفع. فلا ينفع : لا الندامة، ولا التأسّف. أرجوكم أنا أخطأت، أنا أعتذر، أنا نادم، أنا أموت من الحسرة، فيقول له الله: فلتمت من الحسرة. في محاكم الدنيا، يقول لك عليك أن تندم وتتوب واكتب كتاب ندامة وتدفع بعض المال ككفالة وينتهى الأمر . هذا يوم القيامة لا ينفع. كفالة مالية لا ينفع. فدية لا ينفع. تقول يا رب لا تدخلني جهنم وآتي لك ملء الأرض ذهباً ؛ لا يقبل معه. أدخل جميع الناس إلى جهنم ولا تدخلني، لا يقبل معه.

﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ . أنا كان سيدي فلان، شيخي فلان، زعيمي فلان، رئيسي فلان.. لا ينفع. ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئً. لا والد ينفع ولده، ولا ولد ينفع ولده . طبعاً ، إلا الاستثناءات . سنتحدث عن الشهداء عند الكلام في موضوع الشفاعة . فدية لا يوجد؛ ألا يساعدني أحد،؟ كلٌ قد هرب من الكل .

يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . طبعاً يفر من أخيه وأمه وأبيه أي أعزّ الناس إليه، وصاحبته أي زوجته، وبنيه. ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ . يا أخي، يا أمي، يا زوجتي، يا أولادي، يا أحفادي، يا أصدقائي، يا أحبائي، فليتكلم أحدكم، فليساندني أحدكم بكلمة، بتوسل.. لا أحد يسأل عن أحد. وبالفدية : ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ . انظروا : في الدنيا أحياناً يكون مستعداً للتضحية مقابل بقاء ولده على قيد الحياة؛ حاضر أن يتبرّع بشيء من جسده يؤدي إلى موته كي تبقى والدته أو والده على قيد الحياة . لكن يوم القيامة لا يوجد من شيء هذا.

يوم القيامة ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ – زوجته - وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ : عشيرته، قبيلته، حزبه، دولته، جيشه، نظامه.. لا أحد يسأل عن الآخر. هو حاضر لتقديمهم كلهم.

﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى. هذه جهنم بانتظارك ولا شيء سينقذك منها.

إذاً ، كل هذا لا ينفع: لا مال، لا بنون، لا فدية، لا قريب ولا حسيب، لا أنساب بينهم... لا شيء ينفع... لا ندامة ولا اعتذار.. لا شيء. أرجعوني إلى الدنيا؛ أين هي الدنيا فقد انتهت. أرض جديدة، سماء جديدة، دنيا كلها جديدة. لا رجعة. ما الحل؟ لا يوجد حل.

ما الذي ينفع؟ الإيمان والعمل الصالح فقط . نقطة على أول السطر.

الضمانة، الإيمان والعمل الصالح. العمل الصالح طبعاً ، معناه واسع. العبادة والجهاد وحسن الخلق، وبالخير والمعروف ؛كل هذا عمل صالح. الصدقة، والقرض، والإغاثة والمساعدة والدفاع عن كرامات الناس وأعراض الناس ؛ كل هذا عمل صالح.

الإيمان والعمل الصالح فقط ولا شيء آخر ينفع يوم القيامة.

ولذلك دائماً الأمير (عليه السلام) يقول: تزوَّدوا يرحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل وخير الزاد التقوى. التقوى هي نتيجة الإيمان والعمل الصالح.

قد يُتدارك – كي لا يقول الآن الأخوان والعلماء والأخوات المتابعين: أن الله رؤوف رحيم فلماذا تقفل علينا الليلة . توجد نافذة ،ولكن هذه النافذة مفتوحة للأمل؛ لا تستطيع أن تعوِّل عليها مئة في المئة، ولا يمكن أن تضمنها مئة في المئة. هذه النافذة هي الشفاعة : شفاعة الأنبياء، شفاعة الأئمة، شفاعة الأولياء، شفاعة الشهداء. كل هذا موجود في الروايات وحتى في الآيات القرآنية . موجود أصل ومبدأ الشفاعة. وقد يحصل أحدنا على شفاعة أب شهيد ابنه يحنّ عليه، زوجة شهيد، ابنة شهيد . الشهداء يُشفّعون، الأنبياء يُشفّعون، الأئمة يُشفّعون، بعض الأولياء الصالحين الكبار يُشفّعون. توجد في الروايات فئات تُشفَّع : تشفع بمكانتها، بدرجتها، بموقعيتها عند الله سبحانه وتعالى. والله، كريم، جواد، لطيف يقبل هذه الشفاعة . طبعاً هم يشفعون ضمن نظام العالم الآخر. توجد ضوابط حتى للأنبياء والشهداء.يشفعون لشرائح معيّنة ؛يعلمون أن الله يرضى بأن يُشفع لهم . وإلا ليس كل الناس تنالهم الشفاعة.

الأنبياء ضمن هذا النظام والشهداء ضمن هذا النظام والهامش المتاح عندهم حق الشفاعة . والله سبحانه وتعالى لكرامتهم عنده ودرجتهم لديه يقبل منهم هذه الشفاعة فيُستنقذ قوم كان من المفترض أن يذهبوا إلى النار فيُستنقذون ويُشفع لهم.

هناك أيضاً نافذة، نافذة رحمة الله سبحانه وتعالى. فالله سبحانه رحيم، عطوف.

يدخل الناس إلى الجنة، نستطيع مطالبته لأنه وعدنا. أدخل ناس إلى جهنم، وإن كان لا يريد أن يبقيهم خالدين في جهنم. هل لأحد علاقة به؟ يريد أن يعفو عنهم.هم عصوه وتكبّرو عليه وأشركو به وأنكرو وجوده . لكن هذا يعود إلى الله عزّ وجلّ ولا يوجد شيء ملموس كي نبني عليه.

ولذلك، فبعض الروايات تقول أن الله سبحانه وتعالى ينشر رحمته يوم القيامة إلى حدّ تمتد إليها عنق إبليس . يعني ، حتى إبليس المفترض أن ليس له مكان ؛ إبليس نفسه تمتد عنقه تطلّعاً إلى رحمة الله سبحانه وتعالى. لأن الله هو الرحمن الرحيم المطلق. وبالتالي هذه نافذة أيضاً مفتوحة.

لكن هل الشفاعة مضمونة؟ لا. هل تشملنا هذه الرحمة أم لا تشملنا؟ هل تأتي أو لا تأتي؟ لا أعلم.

الضمانة الحقيقية، أيها الإخوة والأخوات، هي إيماننا وعملنا الصالح. ما نقدّم من خير نجده هناك. هذا هو ولا شيء آخر. عملنا الصالح الذي يسبقنا إلى هناك، خيرنا الذي نقدّمه في هذه الدنيا يسبقنا إلى هناك. هذا هو ضمانتنا الحقيقية.
سأختصر العناوين. أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. كيف يساق أهل الجنة إلى الجنة ؟ في زفّة عروس . وكيف يساق أهل النار إلى النار؟ يؤخذوا بالنواصي والأقدام . كل هذه التفاصيل موجودة في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة وأتمنى أن تهتموا بها وتطالعوها. وفي سورة الزمر من القرآن، خصوصاً. فأهل الجنة يدخلون إلى الجنة، وأهل النار يدخلون إلى النار. هنا يأتي نقاش له علاقة بالصراط، والعبور على الصراط . ونعود إلى نفس البحث الذي قلته في المقدمة . هل المقصود بالصراط هو جسر مادي يعبر عليه المشاة فوق جهنم ليصلوا إلى الجنة أو أن المقصود بالصراط هو الدين هو الطريق الإلهي، أي الصراط المستقيم الذي إن سلكناه وإن مشيناه وصلنا إلى الجنة ؟ أيضاً العلماء، علماء الكلام والمفسرون: بعضهم رأيهم هكذا ،والبعض الآخر هكذا. المهم هذا الذي أخذ كتابه بيمينه هل سيفكر بعبوره الصراط سيراً أو قفز فهذا يُعتبر التفصيل . ومن المهم أن يناقش فيه الإنسان ويبحث عنه بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي . وإن كان طبعاً ،حديث الصراط له تفاصيله وله أهواله وله حساباته وله انتظارياته.

الناس الذين يدخلون الجنة يخلّدون في الجنة. أما أهل النار فهناك من يُخلّد في النار، وهناك مَنْ لاحقاً ــ إما لأنه يكفي أنه خلط عمل صالحاً وآخر سيئاً أو تشملهم الرحمة الإلهية أو تشملهم شفاعة الشافعين – يصدر بحقهم قرار العفو وينقلون من النار إلى الجنة. من هم هؤلاء؟ هذه تفاصيل من الجيد أن نقرأ عنها ونفتش عنها لأنها تهمنا. طبعاً، هذا أيضاً لا يستطيع أحدنا أن يعوّل عليه : أن يقول الآن أخلط عمل صالح وعمل سيئ فأدخل كم سنة إلى جهنم وكلها كم سنة. أأتستطيع أنت أن تحمل لحظة. زفيرها وشهيقها ونارها تطلع على الأفئدة.

هكذا ينتهي مشهد القيامة.

النتيجة العملية :هذا السرد كله، لأقول لكم بأنه توجد مسؤوليات ملقاة على عاتقنا. يجب أن يضع كل واحد منّا هدفاً لأن هذه وقائع – بعض الناس يؤمنون بهذا لأن هذا كلام الله وهو ما أخبر الله عزَّ وجلَّ به أنبيائه ويأخذونه على محمل الجدّ والحقيقة . وكثيرون قد يسخرون من هذا الكلام بأننا في لبنان جالسون في المجمّع ونتكلم عن الجنة والنار والحساب والكتاب والميزان والصراط والنفخ في الصور والقيامة وأحداث القيامة – لكن في كل الأحوال ، هذه حقائق سوف تأتي. وعندما تأتي لا ينفع الندم ذاك اليوم . من أسماء يوم القيامة يوم الحسرة، يتحسّر من عصى الله على معصيته، وحتى من أطاع يتحسّر لعظيم ما يرى من الفضل. إذا كان يصلي ليلاً أم لا يصلي، يتحسّر على الليالي التي لم يصلِّ فيها. إذا كان يُنفق بعض المال ولا ينفق أكثر يتحسّر أنه لم ينفق أكثر وهكذا .

يجب أن نضع هدفاً نصب أعيننا. يكون الهدف – لا نتكلم الآن كلام أولياء الله العظام ولا العرفاء ولا درجة الأنبياء والأمة، نحن أناس عاديون والله يقبل منّا هذا الهدف ــ هدف عبيد، هدف تجار، الله يقبل. ودائماً أقول لمشايخنا لا تصعّبوا علينا وعلى الناس. أن من عبد الله طمعاً تلك عبادة التجار ومن عبد الله خوفاً فتلك عبادة العبيد . حتى نصل إلى مرحلة أن نعبد الله لأنه أهل للعبادة؛ فهذا يلزمه جهد وإن شاء الله نصل إليه. ولكن الله يقبل منّا طاعة وعبادة التجار والعبيد.

﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ. ضع هدف أمامك : أنني أريد أن أتزحزح عن النار، لا أريد دخول النار، أريد الدخول إلى الجنة. في يوم القيامة، أريد أن أكون آمناً يوم الفزع الأكبر، أريد أن أكون مطمئناً، أريد أن تشملني رحمة الله عزَّ وجلّ، لا أريد أن أُفضح أمام الله وملائكة وأنبيائه وأمام الناس أجمعين، أريد شرفي، وكرامتي، وأمني، أريد نعيمي وسلامتي، أريد عافيتي وأن أنتهي من هذا العذاب الذي لا تطيقه الروح. هذا هدفنا، وعلينا أن نضع أمامه ما طلبه الله منّا ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ. وبعض الناس، منّا، عليهم تحمّل مسؤولية أوسع من إنقاذ أنفسهم وإنقاذ أهليهم إنما هي إنقاذ الناس أيضاً من النار والأخذ بأيديهم إلى الجنة. وهذه كانت مهمة الأنبياء والأئمة، هذه كانت مهمة الإمام الحسين (عليه السلام).

الحسين (عليه السلام) في كربلاء، لم يكن ذاهباً وحده إلى الجنة بل كان أصحابه معه أيضاً. كان يريد أن يبقي باب الجنة مفتوحاً أمام المسلمين إلى قيام الساعة. كان يريد أن يبعدهم عن طريق النار إلى قيام الساعة. هذه المسؤولية.

نضع هذا الهدف نصب أعيننا، وهذا ما الذي يتطلبه؟ في حال وضعنا هذا الهدف، علينا وضع خطة ونضع برنامج نلتزم به. هذا البرنامج : ثلاث أو أربع كلمات:

أولاً، أن نذكر الآخرة. أن لا ننساها. أن لا نغفل عنها. أن لا يكون تذكرنا لآخرتنا، للقبر، والبرزخ وأحداث القيامة ونتائج القيامة والجنة والنار، أن تكون موسمية كبعض الليالي في شهر رمضان، أو إذا مات لنا عزيز. بل يجب أن يكون على مدار الساعة . لأن هذه تأتي بغتة والموت يأتي بغتة ولا علم لنا بالساعة. إذاً، أولاً، الذكر الدائم للموت والآخرة، وهذا الذي يحرّك فينا الحياة يجعلنا نشعر بقيمة اللحظة والدقيقة والساعة واليوم التي يمكن أن تنقضي ولا يفصلنا عن آخرتنا أو عن أجلنا فاصلٌ طويل.

ثانياً، أن نحذر الآخرة. أن نخاف، أن نقلق ليس فقط أن نتذكر. أن نخاف، وأن نحذر، وأن نحطاط للآخرة.

ثالثاً، أن نعمل للآخرة. – كما أنك تضع هدف في الدنيا : الآن الشباب بين 16 والـ17 و18 سنة، يناقشون أهلهم ويتناقشون معهم وأيام زمان نفس الشيء كان الأب والأم يجلسون مع أولادهم ويناقشونهم، أنت سنجعلك طبيباً وأنت مهندساً. – الآن الواحد يجلس ويخطط بأنه يريد الزواج بهذا العمر؛ معناه أنه بحاجة إلى دخل ومهنة، عليه تأمين العمل وهذا العمل بحاجة إلى اختصاص. يريد تأمين البيت والأثاث... إلى آخره. فيحدّد برنامجه ويختار اختصاصه إذا أراد الدراسة، والمهنة إذا أراد العمل . ويعمل على برنامجه، ويسهر عليه ليلاً نهاراً، ويتعب عليه ليلاً ونهاراً . ألا تستحق هذه الآخرة أن يمسك كل واحد منا قلم وورقة ويضع برنامجاً – وبعد هذا الكلام الذي سمعناه – أولاً، أنني أريد استغفار ربي وأتوب من ذنوبي الماضية. ثانياً، عليّ صلاة قضاء وصوم قضاء، وفي أموالي حقّ للسائل وللمحروم وواجب عليّ أن أدفع هذه الحقوق، عليّ الانتباه لنفسي وأن أرى كيف يمكنني الاستفادة من بقية الأمور. حتى نحن الذين تشيبنا نحتاج إلى ذلك. الشباب ما زالوا في بداية العمر، عليهم الاستفادة من حيوية الشباب، من نشاط الشباب، نحن الذين تشيبنا ما زالت أمامنا فرصة وإن كان لا نستطيع عمل ما كنا نعمله في أيام الشباب. لا يجوز أن نضيّع هذه الفرصة. فعلينا أن نذهب ونعمل صالحاً ونستغلّ وجودنا في هذه الدنيا: بقية الصحة أو بقية العافية، بقية المال، أو بقية القدرة، أو بقية الوقت، بقية العمر يجب أن نستفدها إلى آخر حدود الاستنفاد من أجل آخرتنا ، والتي ليست بعمر سنتين أو ثلاث أو عشرة أو خمسين سنة بل ملايين السنين، مليارات السنين، خلود . الله أعلم إلى متى.

ومن أهم جزء في هذا البرنامج هو عدم التعلق في هذه الدنيا. عدم التعلق بالمال، عدم التعلق بالجاه، عدم التعلق بالمنصب، عدم التعلق بشهوات الدنيا. فمن أجل المال يفعلون الحرام والحلال. من أجل المنصب والجاه يرتكبون آلاف المعاصي. من أجل أي هدف دنيوي تافه يحتوي شهوة ومتعة ولذة أو كبرياء ؛ إشباع لرغبات النفس الأمّارة بالسوء يقدمون على المعاصي بلا حساب . وليس معناه أن يقطع الإنسان علاقته بالدنيا ؛ فلديه زوجة وأولاد وبيت وعمله. ولكن هذا التعلق في هذه الدنيا، بمعنى إذا طُلب منك مالك أو طُلب منك ولدك أو طُلب منك أن تحضر أنت في ساحة الجهاد تتخلّف. من لا يتعلق بالدنيا يصبح قلبه متعلق بالآخرة. يستفيد من الدنيا، ويعيش في الدنيا كما يعيشها وعاشها الصالحون.
هذا البرنامج، وهذه قصة كربلاء في كلمتين.

قصة العاشر؛ ما الحكاية : أنهم لم يكونوا يعلمون ما الحق وما الباطل؟ هناك جهل؟ أبداً بل كان لديهم وضوح بين الحق والباطل، ومَنْ الحسين ومن يزيد ،من مسلم بن عقيل ومن عبيد الله بن زياد.

الحسين مكانته في الأمّة، عظمته في الأمّة، مكانته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

الحق واضح، والباطل واضح، والمعركة واضحة، والأهداف واضحة. كل شيء كان واضحاً. القصة وما فيها أن بعض الناس حرصوا على دنياهم وتعلقوا بالدنيا: خافوا على أموالهم وعلى أولادهم، على بيوتهم، وعلى بقية دنيا فانية فخذلوا حفيد رسول الله لا بل قتلوه من أجل هذه الدنيا الفانية. وبعض الناس من أجل منصب في الريّ أو في الكوفة أو في البصرة، خذلوا الحسين وقتلوا الحسين (عليه السلام) . وكل هؤلاء لم يحصلوا على شيء وانتُقم منهم وقُتلوا وخسروا الدنيا وخسروا الآخرة . وبعض الناس - وكانوا قلة – يعرفون الله والوقوف بين يدي الله والسؤال بين يدي الله : من حبيب بن مظاهر الشيخ الكبير في السنّ إلى زهير بن القين ، إلى العباس بن عليّ ، إلى القاسم الفتى ، وما بينهما من أعمار وإلى كل النساء اللاتي كنّا في كربلاء. ما الذي يجول في حسابهم:

غداً عندما نُحشر في صحراء الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى ونُسأل : خرج الحسين ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ابن بنت نبيي ليدافع عن ديني؛ ليأمر بالمعروف ولينهى عن المنكر وكان واجباً عليكم أن تنصروه؛ هل نصرتموه أم لا؟ فيكون جوابهم: بلى يا رب. وقفنا معه وبقينا معه، وثبتنا معه، وعطشنا معه، وقاتلنا معه، وقُتلنا بين يديه، وقُطّعنا بين يديه حتى نُحشر يوم القيامة بيض الوجوه، يوم تبيض الوجوه.

هذه قصة كربلاء، في العمق والحقيقة.

السلام عليك يا سيدي ومولاي، يا أبا عبد الله الحسين، يا ابن رسول الله، وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليكم مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منّا لزيارتكم.

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

2015-10-27