خصوصيّة الدُّعاء المأثور
في الدعاء والزيارة
الأَثْرُ في اللغة: "مصدر قولك أَثَرْتُ الحديث آثُرُه إِذا ذكرته عن غيرك. ومنه قيل: حديث مأثور, أي ينقله خلف عن سلف"1. وبالتالي، يكون الدُّعاء المأثور، هو الدُّعاء الذي وصل إلينا من السلف الصَّالح، وهو عبارة عن2:
عدد الزوار: 965
أولاً: ما هو الدُّعاء المأثور؟
الأَثْرُ في اللغة: "مصدر قولك أَثَرْتُ الحديث آثُرُه إِذا ذكرته عن غيرك. ومنه
قيل: حديث مأثور, أي ينقله خلف عن سلف"1. وبالتالي، يكون الدُّعاء المأثور، هو
الدُّعاء الذي وصل إلينا من السلف الصَّالح، وهو عبارة عن2:
1- الدُّعاء المأخوذ من القرآن الكريم: وهي كلّ الأدعية التي ذُكرت في القرآن
الكريم: من قبيل قوله تعالى:
﴿وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾3، وقوله
تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا
وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾4.
2- الدُّعاء المأخوذ من الحديث المنتهي إلى أهل البيت عليهم السلام: وذلك بأن يكون
الدُّعاء من جملة آثارهم عليهم السلام، وهو ما لا حصر له، فلا تُطالع كتاباً حديثياً
أو تفسيرياً إلا وتجد فيه الأدعية حاضرة بقوّة، فضلاً عن المصنفَّات الخاصّة بذلك.
فالدُّعاء المأثورُ إذاً هو كلّ دعاءٍ وصلَ إلينا من الأدعية التي وردت في القرآن
الكريم، وعن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطَّاهرين عليهم
السلام، حصراً.
ثانياً: لماذا التأكيد على الدُّعاء المأثور؟
لقد تقدَّم في الدروس الماضية الحديث عن أهمّية الدُّعاء من خلال القرآن الكريم
والسنَّة الشَّريفة, في علاقة الإنسان بخالقه وفي كافّة مستويات السير والسلوك إلى
الله تعالى. فهل للدُّعاء المأثور خصوصيَّة ما تفرق عن غيره من أصناف الدُّعاء؟
والحقّ، أنّ الدُّعاء المأثور يتمتّع بميّزات فريدة منها، أنَّ الدُّعاء المأثور:
1- مساحة لبيان العقائد: ونعني بذلك، أنّ الدُّعاء يقوم بمهمَّة وصفِ طيفٍ واسعٍ من
المسائل العقائدية وعرضها كالتَّوحيد بأقسامه، وخصائص النبوة، وميّزات الإمامة
والأئمّة عليهم السلام، ويوم القيامة وأحواله، وجملة أخرى من المسائل الهامّة التي
توضح الإطار العقائدي الذي ينبغي أن يمارسه الفرد والأمّة. ودعاء المعصوم هو الأفضل
في ميدانه في وصف تلك المعارف, لأنّ "الوصف فرع المعرفة، ومن الواضح بأنَّ المعصوم
عليه السلام هو الأعظم معرفةً منَّا بالله تعالى"5. والعقائد ينبغي أن تكون
يقينيَّة, لأنَّ الظنَّ في العقائد موجب للهلاك، فإنَّ
﴿الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئًا﴾6، ويقول العلامة الحلي قدس سره في ذلك: "دعاء الإمام مفيدٌ
لليقين، ولا شيء من دعاء غير المعصوم بمفيد لليقين، فلا شيء من الإمام بغير معصوم"7.
2- يوافق الشَّريعة: فالأدعية المأثورة، هي أدعيةٌ خرجت من مكمن الوحي ومعدن
الرّسالة، فلا يمكن أن تحتوي على ما يخالف الشّريعة، أو تحضَّ على أمرٍ يعارض
في روحه جوهرَ الشّريعة، ولا يضمن هذا الأمر، إلا نصٌّ وضعَهُ من له المعرفة
التامّة بأحكام الله ودينه، ولا تجد ذلك إلا في دعاءٍ مأثورٍ من القرآن، وكذلك من
السنَّة الشَّريفة.
3- مهذّب النُّفوس: الدُّعاء المأثور، قيِّمٌ على تهذيب النُّفوس بحسب الموازين
الإلهيّة التي تضمن شفاء كلّ داءٍ معنويّ، وتتميم كلّ نقصٍ روحيّ، وغير خافٍ أنّ
تهذيبَ النُّفوس وإشباعها بالأخلاق الربّانية والمعاني الإلهية - كلّ بحسبه - من
المقاصد الأساسية الشَّريفة للدين الإسلامي. ويُشْعِر بذلك العديد من الآيات
والروايات من قبيل:
﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾8،
إذ قدَّم التَّزكِيَةَ القلبيةَ على الحكمة العقليّة لعظيم خطر القلب. ولا نجد بعد
القرآن الكريم ونصوص أهل البيت عليهم السلام -ومنها الدُّعاء المأثور- ما يضمن
تحقيق هذا الهدف العظيم.
4- قدرته على تحقيق الأهداف: إنَّ الغاية من الدُّعاء هي: "تحقيقُ أهدافه بأقصر
الطرق، وذلك من خلال الألفاظ المؤثِّرة المشحونة بالتواضع والعاطفة، التي تُثير
شفقة ورحمة الباري سبحانه، ولتحقيق هذا الهدف لابدَّ من الأخذ بأدعية المعصوم عليه
السلام، فهي الأوفر حظّاً فيما ذكرنا"9.
ثالثاً: قواعد أساسيّة في الدُّعاء المأثور
هناك علاماتٌ أساسيّةٌ تحيطُ بمفهوم الدُّعاء المأثور، وهي تخفي في داخلها طابعاً
إشكالياً, ولذلك لا بدّ من عرضها لما فيها من فائدةٍ ودرءٍ للشبهات:
1- الأصل هو الدُّعاء بكلّ لسان: المراد من ذلك أنَّه لا دليل على وجوب كون
الدُّعاء مقتصراً على الأدعية المأثورة، إذ يصحّ أن يكون الدُّعاء من تأليف
الدَّاعي. والدليل على ذلك ما روي عن إسماعيل بن الفضل، قال: "سألت أبا عبد
الله عليه السلام عن القنوت، وما يقال فيه قال: "ما قضى الله على لسانك، ولا أعلم
فيه شيئاً موقّتاً"9، والمروي عن زرارة، قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
علّمني دعاء، فقال: إنَّ أفضلَ الدُّعاء ما جرى على لسانك"10. فإذا جاء التَّرخيص في
قنوت الصَّلاة، فهو في غيره أصرح. وبالتالي، يمكن أن يدعو الدَّاعي بأيّ كلام يخرج
على لسانه, لأنّ المطلوب هو دفع المكلفين إلى إبداء الذلّة والمسكنة إلى الله تعالى،
وقد يكون في تقييد الدُّعاء بالقيود - مثل لغة خاصّة أو نصّ معين - الكثير حرمان
للكثير من الناس من فوائده.
2- أصالة تقديم الدُّعاء المأثور: تقدَّم قبل قليلٍ جوازُ الدُّعاء بكلِّ لسانٍ
وأنَّه يمكن الدعاء بما يجري على اللسان، لكن ذلك لا يمنعُ من وجودِ أصلٍ للدعاء
ينبغي مراعاته، وهو ينصُّ على الاستحباب المؤكّد للالتزام بالدُّعاء المأثور. روي
عن عبد الرحيم القصير، قال: "دخلت، على أبي عبد الله عليه السلام، فقلت: جعلت فداك،
إنّي اخترعت دعاء، قال عليه السلام: دعني من اختراعك، إذا نزل بك أمر فافزع إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: كيف أصنع؟ قال: تغتسل وتصلّي ركعتين
تستفتح بهما افتتاح الفريضة، وتشهد تشهّد الفريضة، فإذا فرغت من التشهّد وسلّمت،
قلت: اللهمّ أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام..."11. فقد أمر الصادق عليه
السلام بترك الدُّعاء المخترع، وعلّم صاحبَه دعاءً بعينه. وقد تكرَّر هذا الأمر في
عددٍ آخر من المواقف يظهر فيها تشديدُ أهل البيت عليهم السلام على ضرورة الالتزام
بالدعاء المأثور، كما في هذه الرواية: عن عبد الله بن سنان، قال: "قال أبو عبد الله
عليه السلام: "ستصيبكم شبهةٌ فتبقون بلا علمٍ يُرى ولا إمام هدى، ولا
ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: يقول: يا الله يا
رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلت: "يا الله يا رحمن يا رحيم
يا مقلّب القلوب والأبصار ثبِّت قلبي على دينك"، قال: "إنّ الله عز وجل مقلّب
القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول لك، يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك"12. وبالتَّالي، فإنَّه لا بدَّ للدَّاعي - إذا أراد أن يقرأ الدُّعاء المأثور- بأن
يدعو به كما جاء لفوائد مرَّت قبل قليل.
3- الدُّعاء بالمأثور سيِّد الأدعية: لقد ورد في الآيات الكريمة والروايات
الشَّريفة الأمر باتّباع أهل الذّكر عليهم السلام كما في قوله تعالى:
﴿قُلْ إِن
كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾13، وقوله تعالى:
﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ
الذِّكْرِ﴾14
والذّكر هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى:
﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ
مُبَيِّنَاتٍ﴾15. وقد ورد في الروايات الأمر بقراءة الأدعية المروية عنهم، وذكرت
المثوبات الموعودة المترتّبة عليها المضبوطة في كتب الدعوات، مضافاً إلى ذكرهم
ونقلهم الأدعية الواردة عن كلّ واحد، "ليقطع بأفضلية الدّعوات المأثورة عنهم على
غيرها، مضافاً إلى أنّ شرف الكلام بقدر شرف المتكلّم, ولهذا قيل: إنَّ كلام الملوك
ملوك الكلام. والحاصل أنَّ تقدُّمَ اختيار ما ورد عنهم من الأدعية على الدُّعاء
الذي يؤلِّفه الشَّخص بسليقته ولسانه ممَّا لا ريب فيه ولا شبهةَ تعتريه"16.
4- حكم الزيادة في الدُّعاء المأثور: عرفنا أنَّ الأدعية المأثورة هي نصوصٌ مرويةٌ
عن أهل البيت عليهم السلام والقرآن الكريم، وبالتالي فالزيادة فيها كما قد يفعل بعض
الناس فيها وجهان:
الأول: إذا كانت الزّيادة بمعنى الورود والإضافة على نصّ المعصوم، فإنَّها ممّا لا
يجوز.
الثَّاني: أن تكون الزيادة بمعنى كونها ذِكراً، فإنه لا حرمة فيه, لأنَّ "ذكر الله
حسنٌ على كلّ حال"17، غاية الأمر أنَّه منهي عنه نهياً إرشادياً كما تقدَّم في رواية
عبد الله بن سنان. فالأولى أن يتمسَّك الدَّاعي بالنَّص المأثور من دون الزّيادة
عليه, لأنّه قد يُدخل في الدُّعاء ما لا داعي منه، أو ما قد يُفسده.
5- المحافظة على الترتيب في الأدعية المأثورة: الظَّاهر أنَّ الوجه في النَّهي -
بمعنى الكراهة - عن الإخلال بتركيب الأدعية، ما قد يُقالُ بأنَّ لكلِّ دعاءٍ وذكرٍ
أثراً خاصّاً: "كالأدوية والعقاقير، لكن لا يحصل الأثرُ المقصودُ منها إلا
بالتَّرتيب والتَّركيب المأخوذ عن الطبيب الحاذق، وإن كان لها أثر أيضاً بغير ذلك
الترتيب، فكذلك الدعوات والأذكار لا يحصل الأثر الخاصّ منها إلا بمراعاة الكيفية
الخاصَّة المأثورة عن الأئمّة الطاهرين الذين هم أطبّاء النّفوس, ولذلك قال عليه
السلام: "ولكن قل كما أقول لك"18 وعلى هذا يكون الأمر إرشادياً فلا ينافي أدّلة
الجواز، أو يحمل على الأفضل.
6- عدم اللحن في قراءة الدُّعاء المأثور: الأساس في الدُّعاء هو أن يخرج من قلبٍ
محترقٍ معترفٍ بالحاجة والاستكانة لله تعالى، وأما سلامة ألفاظ الدُّعاء وخلوّها من
الخلل في النّحو والتركيبات، فهو يأتي في المقام الثاني بعد نورانيَّة القلب،
إذ قد ينشغل الدَّاعي بالاهتمام بالألفاظ ولا يلتفت إلى المعاني فلا يحصل من
الإجابة على شيء. وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "تجد الرَّجل لا يخطئ
بلام ولا واو، خطيباً مِصْقَعاً19، ولقلبه أشدّ ظلمةً من الليل المظلم"20. نعم، إنَّ
إغفال جانب اللفظ وحسن التعبير في الدُّعاء يحطّه عن مرتبة الكمال اللازم في كلّ
جوانب الدُّعاء من لفظه ومعناه، ولابدّ للدّاعي العارف المتمكِّن من ذلك، أن يتَّصف
به، فيكون دعاؤه بمستوى ما يطلب من المقام الرَّفيع المنشود، فالاهتمام باللفظ
السّليم والصَّحيح، دليلٌ على اهتمام الدَّاعي بآداب الدُّعاء، وقد روي عن الإمام
الجواد عليه السلام قوله: "ما استوى رجلان في حسبٍ ودينٍ قطّ إلا كان أفضلهما عند
الله آدَبَهُمَا"21.
رابعاً: شموليّة الدُّعاء المأثور
قد يطرأ على بال المرء أنّ الأبواب التي لم يرد فيها الدُّعاء المأثور كثيرة،
وبالتالي يمكن له أن يلجأ إلى اختراع أدعية فيها. والصَّحيح، أنّ الاطلّاع الوافي
على الأبواب التي جاء فيها الدُّعاء المأثور، يوقفنا على حقيقة أنَّ الشَّريعة جعلت
لكلِّ بابٍ من أبواب الحوائج دعاءً خاصاً، فيكاد المرء لا يخطو خطوةً أو يقوم ويقعد
أو يكون في حلّ أو ترحال، أو غير ذلك من أحوال، فرداً كان أم جماعة، إلا وهنالك
أدعيةٌ مأثورةٌ. وعلى سبيل المثال نذكر النَّماذج الآتية من كتاب وسائل الشّيعة:
من الدُّعاء المأثور الدُّعاء: "عند النظر إلى الماء، وعند الاستنجاء والمضمضة
والاستنشاق، وغسل الأعضاء، وفي الحمام، والاطلاء بالنّورة والغسل، وعند رؤية
الجنازة وحملها، وعند زيارة القبور، وعند القيام إلى الصَّلاة، وعند القيام من
النّوم، وعند سماع صوت الدّيك، وعند النّظر إلى السّماء، وعند الوضوء، وعند
القيام إلى صلاة الليل، وفي السّجود وبين السّجدتين، وعند النّوم، وإذا انقلب على
جنبه، وفي المسير، ولمن سافر وحده، أو بات وحده، وعند الإشراف على المنزل، وعند
النّزول، ولمن ركب البحر، وعند الحجر الأسود، وبعد ركعتي الطّواف، وقبل القتال22،
وعند دخول السّوق، وقبل الأكل وبعده..."23.
ويكفيك أن تراجع بعض كتب الدّعوات كمفاتيح الجنان، وغيره، لكي تجد طيفاً واسعاً من
الدعوات لكلّ حالات الإنسان وأوضاعه الماديّة والمعنويّة المختلفة.
وفضلاً عن ذلك، قام أهل البيت عليهم السلام بوضع عددٍ كبيرٍ من الأدعية التي تشكّل
بنفسها مدخلاً هاماً لطلب الحوائج من الله مهما كانت هذه الحوائج، كدعاء السّمات
والمشلول وغيرهما على سبيل المثال.
وبالتالي، إذا أراد الإنسان، أنْ يدعوَ الله سبحانه وتعالى في أيّة حالة من حالاته
التي ورد فيها دعاءٌ مأثورٌ، فإنَّ له في الأدعية المأثورة ما يغنيه. وإنْ أراد أنْ
يطلب حاجةً بعينها، ولم يكن وردَ فيها دعاءٌ مأثور، فإنَّه سيجدُ عدداً وافياً من
الأدعية المأثورة التي قيلت في سياق طلب الحوائج من الله سبحانه وتعالى، فعلى أيّ
الأحوال يستطيع الإنسان أن يتّكل في دعائه على المأثور من الأدعية، طالما أنَّها
مظنَّة الفلاح.
خامساً: الذنب والتوبة في الدُّعاء المأثور
قد يتساءلُ الإنسانُ عن سرِّ وجود ذلك الكمِّ الكبير من الأدعية التي لا تخلو من
اعترافٍ بالذَّنب، والنَّدم على المعاصي، وارتكاب للسيئات، وغير ذلك من الأفعال
والمفردات المستلزمة لتوهّم الخدش في عصمة المعصوم الذي أُثرت عنه تلك الأدعية. فهل
ذنوب الإمام كذنوبنا، فيها المخالفة لأوامر الله سبحانه، وفيها المعصية ومخالفة
الشريعة؟! إنّ هذه الذّنوب هي أمور أخرى، وبلحاظٍ آخر يختلف عن ذنوب العوام؟!
من المسلّم به أنّ المعصوم حين يتوجّه بالدعاء ويدعو، يكون الدُّعاء منه حقيقياً
وواقعياً, لأنّه لا مجاز في الدُّعاء، فكلّ ما يدعو به يكون على نحو الحقيقة
والطَّلب الحقيقي، ولو كان الدُّعاء الصادر منهم فيه جنبةٌ تعليميَّة وتربويّة على
طريقة "إياكِ أعني واسمعي يا جارة". فكيف نجيب عن ذلك؟
إنّ اعتقادنا الراسخ بوجوب العصمة في الأئمّة والأنبياء عليهم السلام وضرورتها لهم,
لأنّهم يتحدّثون إلى الخلق عن الله سبحانه وتعالى، يدفعنا إلى القول بأنّ الأدعية
التي وردت عن المعصوم عليه السلام والتي تضمنّت الاعتراف بالذنوب والخطايا، وتضمنّت
الاستغفار وطلب التوبة والاستقالة منها، لا شكّ ولا ريب أنّها تعني معنىً غير الذي
نفهمه ونعرفه من أنفسنا حين نغرق في الذّنوب والخطايا، وحين نطلب العفو والاستقالة
منها. فالمعصوم عليه السلام ولشدّة كماله وانقطاعه إلى الله يرى أنَّه يجب أن تكون
أوقاته مستغرقة ومتمحّضة دائماً وأبداً في خدمة الله وطاعة الله، ففي أيّة لحظة من
لحظات وجوده وحياته، كان أيُّ انشغالٍ منهم - في مأكل أو مشرب أو أيّ عمل غير
العبادة من الأمور المباحة والضرورية الحياتيّة - يعتبره ذنباً ويعدّه انشغالاً عن
عبادة الله المحضة، وإنْ كانت الانشغالاتُ المتعلِّقةُ بأمور المعاش ومصاحبة العباد
عبادةً وطاعةً من جهة أخرى كما لا يخفى. يقول الإمام زين العابدين عليه السلام:
"اللَّهُمَّ إِنْ يَكُنِ النَّدَمُ تَوْبَةً إِلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ
النَّادِمِينَ، وإِنْ يَكُنِ التَّرْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إِنَابَةً فَأَنَا أَوَّلُ
الْمُنِيبِينَ، وإِنْ يَكُنِ الِاسْتِغْفَارُ حِطَّةً لِلذُّنُوبِ فَإِنِّي لَكَ
مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ. اللَّهُمَّ، فَكَمَا أَمَرْتَ بِالتَّوْبَةِ، وضَمِنْتَ
الْقَبُولَ،
وحَثَثْتَ عَلَى الدُّعَاءِ، ووَعَدْتَ الإِجَابَةَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ
وآلِه، واقْبَلْ تَوْبَتِي، ولَا تَرْجِعْنِي مَرْجِعَ الْخَيْبَةِ مِنْ
رَحْمَتِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ عَلَى الْمُذْنِبِينَ، والرَّحِيمُ
لِلْخَاطِئِينَ الْمُنِيبِينَ"24.
فالذَّنب في فلسفة الكمال الإلهي يعني ترك الارتقاء في السلّم الكمالي والانحدار
بلا توقُّف، وبذلك يكون تارك المندوب وفاعل المكروه مُنحدراً بلا توقُّف، وهذا
الانحدار حاصل حتماً، سواء أكان الُمذنب متعمّداً أم مجبراً، فالمريض إذا ترك
الدواء عمداً، أو سهواً كما لو انشغل عنه بانشغالات ما، أو اضطراراً فالنتيجة
واحدة، وهي عدم التماثل للشفاء. و "إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ نظرة العبد للطاعة
والمعصية سوف تختلف تماماً، بل سوف يحصل انقلاب في حركته التَّكامليّة، وعندئذٍ سوف
نفهم بعمقٍ معنى ندم الإنسان في الدَّار الآخرة على كلّ نَفَسٍ تنفَّسَه بغير ذكرِ
الله تعالى"25.
ومن هنا كان الدّعاء كمالاً للداعي المعصوم، وزيادة في تعلّقه بالله تعالى،
وتثبيتاً لنيّة التقرّب إلى الله تعالى في كلِّ انشغالٍ وعملٍ يقوم به. على ما في
هذه الأدعية من فائدة جلى في تربية النَّاس على ضرورة العودة والأوبة إلى الله
تعالى كلّما غرقوا في ذنبٍ ووقعوا في معصيةٍ، وفي كلِّ تراجعٍ لهم عن نيلِ كمالٍ أو
زيادةٍ في اكتمال.
وهذا الجواب، هو من أهمّ الأجوبة التي أخذ بها علماؤنا وتلقّوها بالقبول والرضا،
وهو من إفاضات العلامة الأربلي26.
1- الجوهري، إسماعيل بن حماد: الصحاح
(تاج اللغة وصحاح العربية)، ج2، ص574، أحمد عبد الغفور العطار(تحقيق)، بيروت، دار
العلم للملايين، 1987م، ط4.
2-الحيدري، السيد كمال، الدُّعاء إشراقاته ومعطياته، ص169. (بتصرف)
3-سورة البقرة، الآية 201.
4-سورة الفرقان، الآية 74.
5-الحيدري، الدُّعاء إشراقاته ومعطياته، ص169.
6-سورة يونس، الآية 36.
7-العلامة الحلي، جمال الدين الحسن بن يوسف: الألفين، ص295، الكويت، مكتبة الألفين،
1985م، ط1.
8-سورة الجمعة، الآية 2.
9-الإحسائي، ابن أبي جمهور: عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج2، ص45،
السيد شهاب الدين النجفي المرعشي (تقديم)، الحاج آقا مجتبى العراقي(تحقيق)، قم،
مطبعة سيد الشهداء، 1983م، ط1.
10-العاملي، الشيخ الحرّ: هداية الأمّة إلى أحكام الأئمة عليهم السلام، ج3، ص126،
قسم الحديث في مجمع البحوث الإسلامية (تحقيق)، مشهد، مجمع البحوث الإسلامية،
1412هـ، ط1.
11- الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص476.
12-الشيخ الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي الحسين بن بابويه القمي: كمال الدين وتمام
النعمة، ص352، علي أكبر الغفاري (تحقيق)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة
المدرسين بقم المقدسة، 1405م، ط1.
13-سورة آل عمران، الآية 31.
14-سورة الأنبياء، الآية 7.
15-سورة الطلاق، الآيتان 10-11.
16الأصفهاني، ميرزا محمد تقي، مكيال المكارم: ج2، ص54، السيد علي عاشور(تحقيق)،
بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1421هـ، ط1.
17-الصدوق، محمد بن علي بن حسين بن بابويه: الهداية، ص78، مؤسسة الإمام المهدي عجل
اللع تعالى فرجه الشريف (تحقيق)، قم، اعتماد، 1418 هـ، ط1.
18-الأصفهاني، مكيال المكارم، ج2، ص57.
19-خطيباً بليغاً، ذا فصاحة وبيان.
20-الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص422.
21-الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص221.
22-ومنه ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في دعاء الأمير عليه السلام:"لمّا
توافق الناس يوم الجمل، خرج عليّ صلوات الله عليه حتى وقف بين الصفّين، ثمّ رفع يده
نحو السماء، ثمّ قال: يا خير من أفضت إليه القلوب، ودُعي بالألسن، يا حسن البلايا،
يا جزيل العطاء، احكم بيننا وبين قومنا بالحقّ، وأنت خير الحاكمين". الميرزا النوري،
ميرزا حسين: مستدرك الوسائل، ج11، ص108، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
(تحقيق)، بيروت، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1987م، ط1.
23-الحر العاملي، وسائل الشيعة، من أبواب متفرّقة عديدة.
24-الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية، ص146.
25-الحيدري، السيد كمال، الدُّعاء إشراقاته ومعطياته، ص140.
26-الأربلي، علي بن أبي الفتح: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، ج3، ص46، بيروت، دار
الأضواء، 1985م، ط2.