يتم التحميل...

لماذا يعيش المُعرض عن ذكر الله معيشة ضنكاً؟

هكذا تكون سعيداً

من الواضح أن المُعرض عن ذكر الله تعالى ستقتصر نظرته وحركته ومسيرته وعيشه على الدنيا فقط، إذ السعي لأجل الآخرة مرتبط بالإيمان بالله تعالى وذكره.

عدد الزوار: 314

من الواضح أن المُعرض عن ذكر الله تعالى ستقتصر نظرته وحركته ومسيرته وعيشه على الدنيا فقط، إذ السعي لأجل الآخرة مرتبط بالإيمان بالله تعالى وذكره.

وعليه فإنّ هذا المُعرض سيكون في معرض حالات نفسية تابعة لطبيعة المعيشة المقتصرة على الدنيا وهذه الحالات هي:

1- التعب
الدنيا جلُّها تعب، والمراد من ذلك أن اللذة التي يحصل عليها الإنسان هي قليلة وقصيرة جداً بالنسبة إلى مقدّماتها الطويلة والمضنية التي يقتضيها الوصول إليه، ونضرب لذلك أمثلة:

من أراد أن يسير في تخصّص علمي ليؤمِّن له حياة يرجو أن تكون سعيدة، فما هي المراحل التي يقطعه، وكيف يقطعها؟ فمثلاً إذا أراد الإنسان أن يصبح طبيب، فهو يحتاج إلى حوالي 12 سنة من الدراسة المتعبة ليصل إلى الجامعة، وحينما يصل إليها في سنِّ تقارب الـ 18 سنة يحتاج إلى حوالي 7سنوات لدراسة الطب العام، وبما أنّ الطب العام قد لا يؤمِّن له ما يطمح إليه، فإنّه يحتاج إلى دراسة اختصاص طبي في مدّة تقارب الـست سنوات.

وعليه يكون قد درس دراسة متعبة ربع قرن من الزمن، وبعدُ يكون طبيباً مختصّاً.

وبعد أن يجد وظيفة في المستشفى أو عيادة خاصة فَلْنتأمَّل في حياته لا سيّما مدّة الراحة وحجمها أمام مدّة التعب وحجمه !!!

إذا أرادت الزوجة الأم أن تسعد هي وتسعد زوجها وأبناءها في طعام طيّب، فتابع الجهد الذي تبذله حينما تذهب إلى السوق لتؤمِّن الخضروات واللحم والخبز وسائر المواد، ثمّ الجهد الذي تبذله في غسل الخضروات وتقطيعها وتهيئة المواد الأخرى ووضعها على النار وانتظاره، ثم بعد ذلك وضعها على المائدة، لتجتمع العائلة بعد ساعات من عمل هذه المسكينة وتعبها ليأكلوا حوالي ربع ساعة، ويشبعون، وإذا أسرفوا في الأكل قد يوجب لهم ذلك وجعاً في البطن وما شاكل. هذا مع غضِّ النظر عن تعب الآخرين في ما حصل.

فلو تأملنا في الشيء الأسهل على هذه المائدة وهي ربطة الخبز حيث تُشترى جاهزة كم استهلكت من تعب بشري حتى وصلت إلى مائدة هذه العائلة من حين قام الفلاّح بفلح الأرض والعرق يتصبب منه إلى حين حصاد القمح الذي يضني حاصديه، إلى حين دراسته، إلى حين طحنه، إلى حين عجنه، إلى حين خبزه، إلى حين جمعه وتوضيبه، إلى حين توزيعه لقد مرّت ربطة الخبز هذه بمشوار متعب في معيشة البشرية. وهذه هي حال الكثير من الأشياء التي نشعر بمتعة اللحظة فيها وهي تكلِّف مساراً مضنياً للإنسان، فمثلاً لو تأملنا في مسيرة لوح الشوكولا الذي قد نأكله نجد أنه يستلزم رحلة شاقة حتى يصل إلين، فإن ثمرة الكاكاو تُقطف من أدغال أفريقيا في حرٍّ شديد ورطوبة عاليه، ثم تُفتح أكياس الكاكاو الطبيعية، وتُخرج البذور، بعد ذلك تخزَّن معزولة لفترة، ثم تُزال البذور التالفة، ثمّ تحمَّص في اسطوانات كبيرة، ثمّ تُطحن البذور، ثم تستخلص زبدة الكاكاو عبر ضخّ مشروب الكاكاو في أنابيب ضخمة، وبعدها يُفصل السائل الدهني في أوعية معدنية، ثم يُضاف إليه السكر والفانيلا ويصب في قوالب مختلفة ثم توزّع لتؤكل في لحظات متعة قصيرة تتلاشى معها تلك الرحلة المضنية.

أدريت معنى قول الشاعر "تعب كلّها الحياة"؟

إن تعب الإنسان الطويل أمام لذّته القصيرة، سيشعره بالضيق والشدّة.

2- النّهم

إنّ من يقصر نظرته ومسلكه على هذه الدنيا فقط، يشعر في كثير من الأحيان بعدم الشبع ممّا يحصل منها، فلو حصل على مالٍ وفير تراه يسعى نحو الحصول على الأكثر، ولو حصل على حُكم واسع، تراه يسعى نحو حكم أوسع، ولو حصل على شهرة عريضة، تراه يسعى نحو شهرة أعرض، ولو حصل على علم غزير، تراه يسعى نحو علم أغزر، وهكذا في سائر الأمور.

وقد ذكر الإمام موسى الكاظم عليه السلام هذه الحقيقة في تمثيله للدني، فقال – فيما ورد عنه-: "مَثَلُ الدنيا مَثَلُ ماء البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله ً"1.

ولعلّ من أروع توصيف لحال الحريص على الدنيا النَّهم عليها هو ما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلّما ازدادت على نفسها لفَّاً كان أبعد بها من الخروج حتّى تموت غمّاً"2

3- القلق

الحالة النفسية الثانية التابعة لطبيعة المعيشة المقتصرة على الدنيا هي القلق، وهو الحالة التي يشكو منها الكثير من الناس في هذا العصر.

يمكن ردّ أسباب القلق التي يعاني منه هؤلاء وغيرهم إلى العناوين التالية:

أ- القلق من تحقيق نتيجة
كثير من الناس يقلقون من تحقيق النتيجة التي يسعون إليها فتقلقهم التساؤلات التالية:
- هل أنجح في الإمتحان؟
- هل أجد وظيفة مناسبة؟
- هل تصل البضاعة من الصين في الوقت المناسب، وأبيعها بالسعر المناسب؟
- هل سيتقدّم إلىَّ عريس مناسب؟

ب- القلق من عدم المحافظة على المكتسبات

ويجد الإنسان وظيفة، ويربح في تجارته، وتتزوَّج الفتاة، ولكن القلق قد يبقى: هل أبقى في الوظيفة؟ هل أخسر مالي؟ هل يبقى زوجي لي وحدي؟
وما ذكرناه من الإحصاءات السابقة قد يتداخل مع هذا النوع من القلق في جملة من عناوينه.
ج- القلق من الطوارئ السلبية
قد ينعم الموظّف بأمن وظيفي.
والتاجر بعدم خسارته تجارياً.
والزوجة بدوام العلاقة الزوجية.

د- القلق من الماضي

إن كثيراً من الناس يعيشون القلق نتيجة حادثة أو عمل اقترفوه في زمن مضى، فأضحوا يعيشون حياتهم كأسرى لهذا الماضي المُقلق.

هـ- القلق من الموت وما بعده

رغم أن حديثنا عن المُعرض عن الله تعالى إلا أنّ إعراضه لن يجعله مستقراً وساكناً على مستقبله ما بعد الموت، لأن احتمال وجود عالم آخر فيه نعيم وعذاب كافٍ ليقلق الإنسان غير المراعي له حتى لو لم يحصل له يقين بذلك العالم، وذلك لأن الذي يدفع الإنسان ويحرِّكه هو قوَّة المحتمل وليس قوة الاحتمال.

ولتوضيح هذا المطلب أُعطي مثالاً: لو كان الإنسان في جيبه قطعة مالية حقيرة، واحتمل بنسبة 70% أنّها وقعت من جيبه فقد لا يكترث هذا الإنسان بالأمر ولا يحاول التأكّد من المسألة، لكن لو كان في جيب نفس الشخص "شيكٌ" بمبلغ كبير من المال واحتمل بنسبة 5% أنّه وقع لانتفض مباشرة وتأكّد من الأمر.

ففي الصورة الأولى كان الإحتمال 70% لكنّه لم يُحرِّك الإنسان، لأنّ المحتمل ضعيف( قطعة مالية قليلة). وفي الصورة الثانية كان الإحتمال 5% لكنّه حرَّك الإنسان، لأنّ المحتمل قويّ (شيك بمبلغ كبير).

إذاً المحرّك للإنسان هو قوّة المحتمل لا قوّة الإحتمال، فكيف إذا كان المحتمل هو جهنّم التي ورد أنّ نار الدنيا هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم أطفئت بالماء سبعين مرّة، وإلاَّ لما أطاقها الناس3.

إنّ احتمال وجود العذاب للعاصي بعد موته سيصيب هذا المُعرض عن ذلك بالقلق والهمّ.


الخلاصة

إنّ من يقتصر حياته على الدنيا ويُعرض عن ذكر الله فإن معيشته ستكون ضيقة شديدة مليئة بالتعب والقلق، وهذا ما سيجعل قلبه كثير التقلّب في قفص ضيِّق، يشعر بضيقه كأنه يصَّعَّد في السماء. بسبب منغِّصات سبعة هي:
1- التعب
2- النهم
3- القلق من تحقيق النتيجة
4- القلق من المحافظة على المكتسبات
5- القلق من الطوارئ السلبية
6- القلق من الماضي
7- القلق من الموت وما بعده

* كتاب هكذا تكون سعيداً، سماحة الشيخ أكرم بركات


1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج3، ص 332.
2- الكليني، محمد بن يعقوب، ج2، ص 134.
3- انظر: شُبَّر، تسلية الفؤاد، ص‏240 - 241.

2014-09-01