الإيمان بالله تعالى
بحوث ومعتقدات
عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: "أوّل الدين معرفته (الله) وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له"
عدد الزوار: 355
عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: "أوّل الدين معرفته (الله) وكمال
معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له"1.
إنّ الطرق إلى معرفة الله تعالى كثيرة، كما قيل إنّ السبل إلى الله بعدد الخلائق بل
إنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق حيث يقول الشاعر:
وفي كلّ شيء له آية **تدلّ على أنّه واحد
ونحن هنا نذكر بعض الأدلّة القرآنية لأصول العقائد الإسلامية ونضيء على بعض الأدلّة
الّتي لها ارتباط بالآيات القرآنية.
الإيمان بوجود الله تعالى بديهيّ لا يحتاج إلى دليل
قبل أن نبدأ بالحديث عن بعض الأدلّة على وجود الله تعالى من خلال القرآن الكريم،
نُلفت إلى أنّ القرآن الكريم يؤكّد حقيقة أنّ وجود الله أمر بديهيّ لا شكّ فيه، ومن
ذلك قوله تعالى:
﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾2.
إلا أنه رغم وضوح وجود الله وبداهته قد وضع القرآن الكريم أمام من يريد معرفة الله
عن طريق التفكّر والتعقّل أدلّة وبراهين لإزالة جميع الشكوك والاحتمالات من الذهن
والنفس. من أهم هذه الأدلة الفطرة.
الفطرة دليل على وجود الله تعالى
يذهب أكثر المفسرين إلى أنّ فطرية الإيمان بالله تعالى أمر يمكن استفادته من الآيات
القرآنية، أي أنّها تصرِّح أنّ الاعتقاد بوجود الله تعالى فطريّ لدى الإنسان أي أنّ
الإيمان به سبحانه وتعالى عند الإنسان كسائر الغرائز المتأصلّة في النفس. فكما يحبّ
الإنسان
الخير فطرياً أو يكره الشرّ كذلك، يحبّ أن يبحث عن الله ويؤمن به فطرياً.
يقول تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾3.
ففي هذه الآية لم يجعل مسألة معرفة الله والإيمان به فقط أمراً فطرياً بل وصف الدين
بكونه فطرياً.
نعم ليس معنى فطرية الإيمان بالله تعالى أن يكون الإنسان بالضرورة متوجّهاً إلى
الله دائماً ملتفتاً إليه في جميع حالاته، إذ ربّ عوامل تتسبّب في إخفاء هذا
الإحساس في خبايا النفس، وتمنع وتحجب الفطرة عن اكتشاف وجود الخالق تعالى، وعندما
يرتفع ذلك
الحجاب، فإذا به يسمع نداء الفطرة.
فعندما تقع للإنسان حوادث خطيرة كهجوم الأمواج العاتية على سفينة يركبها في عرض
البحر أو حصول عطل فنيّ في الطائرة يهدِّدها بالسقوط أو ما إلى ذلك، نراه يتوجّه من
فوره وبصورة تلقائية فطرية إلى الله تعالى، بلا حاجة إلى إعطائه دروساً استدلالية
على وجود الله تعالى. يقول تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ
طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن
كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ
مِنَ الشَّاكِرِينَ * َلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾4.
ويقول تعالى:
﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾5.
وكذلك يقول تعالى:
﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ
قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ
يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ﴾6، إلى غير ذلك من الآيات الّتي تتحدَّث عن هذا المعنى.
أدلّة وجود الله تعالى
1- برهان الفقر:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾7.
لا ريب أنّ فقر الشيء دليل قاطع على احتياجه إلى "غنيّ قويّ" يزيل حاجته، من هنا لا
بدّ أن يكون لهذا الكون بأسره غنيّ أفاض عليه الوجود.
إنّ الظواهر الكونية من الذرّة إلى المجرّة أي السماوات والأرض وما فيهما هي جمادات
فقيرة في ذاتها، لم تكن ثمّ وُجدت فهي مسبوقة بالعدم، فلكي توجد لا بدّ من موجد لها
لأنّها لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها. وهذا الموجد لها لا بدّ وأن يكون غنياً عنده
القدرة على إيجادها ويخرجها من العدم إلى الوجود. وكذلك الإنسان يدخل ضمن هذه
القاعدة، فإنّه في ذاته فقير ليس غنياً أي لا يقدر أن يوجد نفسه بنفسه بل يحتاج إلى
قوة أكبر منه توجده، لذلك يقول تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء
إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾8. وقد ركَّز القرآن الكريم في مواضع متعدّدة على صفة
"الغنيّ" في الذات الإلهية المقدسة بحيث يمكن اعتبار ذلك إشارة ضمنية أو صريحة إلى
هذا البرهان، أي برهان الفقر، ومن هذه الآيات:
﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ
الْفُقَرَاء﴾9 إلى غير ذلك من الآيات
الكثيرة.
2- استحالة وجود المعلول بلا علّة:
يقول تعالى:
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ
خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾10،
﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾11. هذه الآيات وما بعدها
تطرح تساؤلات واحتمالات حول مبدأ الإنسان وعلّة وجود العالم:
أ- أن تكون الكائنات البشرية قد وجدت بلا علّة وسبب بمعنى أن تكون قد وجدت صدفة،
ومن تلقاء نفسها. وقد طرح هذا السؤال في قوله تعالى:
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ
شَيْءٍ﴾.
ب- أن تكون هي الخالقة لنفسها وهي الصانعة لذاتها أي أوجدت نفسها بنفسها وإلى هذا
الاحتمال أشارت جملة
﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾.
هذه هي الاحتمالات وهي واضحة البطلان:
أمّا بطلان الاحتمال الأول: لبداهة أنّ لكلّ ظاهرة وحادث ومعلول؛ موجِداً ومحدِثاً
وعِلّة، هذا ما يحكم به العقل السليم، ولو ادّعى أحد وقوع معلول بلا علّة لسخر منه
العقلاء.
أما بطلان الاحتمال الثاني: فهو كذلك بديهيّ البطلان. لأنّ معنى قولك (خلق الشيء
نفسه) هو أن يكون الشيء موجوداً قبل ذلك ليتسنّى له خلق نفسه. ومعنى هذا: توقّف
الشيء وتقدّمه على نفسه، أي أن يكون موجوداً قبل أن يوجد وهو أمر مستحيل
أيضاً وفاقد الشيء لا يعطيه، وقد فرض فاقداً للوجود فكيف يهبه؟
الكون آية تدلّ على الخالق
يقول الله تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ
النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ
لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾12. في هذه الآية الكريمة وفي غيرها الكثير من
الآيات، يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى ظاهرة الحياة وعشرات (بل مئات وآلاف) العوامل
الخفية والبارزة الّتي ساعدت على وجود ظاهرة الحياة على هذا الكوكب، وكأنّها تقول:
هل يمكن
اجتماع كلّ هذه العوامل والشرائط بمحض المصادفة، ودون وجود خالق هو الّذي أوجدها
ورتّبها ونظّمها؟
لقد خُلقت الأرض بجاذبيّة خاصّة وعلى قطر خاصّ بحيث تجذب بها المياه والهواء نحو
مركزها وتحافظ عليها.
فلو أنّ قطر الأرض كان ربع قطرها الفعليّ لعجزت جاذبيتها عن الاحتفاظ بالماء
والهواء على سطحها ولارتفعت درجة الحرارة إلى حدِّ الموت.
ولو أنّ الأرض بعدت عن الشمس بمقدار ضعف ما هي عليه الآن لانخفضت درجة حرارتها
(الأرض) إلى ربع حرارتها الحالية، ولتضاعف طول مدّة الشتاء فيها، ولتجمّدت كلّ
الأحياء فيها.
ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن لبلغت الحرارة الّتي
تتلقّاها الأرض أربعة أمثال، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحاليّ ولصارت الحياة على
سطح الأرض غير ممكنة.
مثلاً: تدور الأرض حول نفسها في كلّ 24 ساعة دورة واحدة، وهي في دورتها هذه تسير
بسرعة ألف ميل في الساعة. فلو تناقص ذلك (أي بلغ مقدار سرعتها مائة ميل في الساعة
مثلاً) لتضاعف طول الليالي والأيام إلى عشرة أضعاف ما هي عليه الآن،
ولأحرقت شمس الصيف بحرارتها الملتهبة كلّ النباتات في الأيام الطويلة، ولجمّدت
برودة الليالي الطويلة من جانب آخر كلّ البراعم والنباتات الصغيرة. ولو أنّ شعاع
الشمس الواصل إلى الأرض تناقص إلى درجة النصف ممّا هو عليه الآن لهلكت جميع أحياء
الأرض من فرط البرد. ولو تضاعف هذا المقدار لمات كلّ نبت بل لماتت نطفة الحياة وهي
في بطن الأرض، من شدّة الحرارة.
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة جدّاً، الّتي تدلّ على ضرورة وجود الإله العليم
الحكيم المدبِّر المنظّم، وتنفي وجود الكون مصادفة13.
* كتاب في رحاب العقيدة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- نهج البلاغة، السيّد الرضي، الخطبة:1.
2- سورة إبراهيم، الآية: 10.
3- سورة الروم، الآية: 30.
4- سورة يونس، الآيتان:22 و 23.
5- سورة العنكبوت، الآية: 65.
6- سورة يونس، الآية: 12.
7- سورة فاطر، الآيات: 15 ـ 17.
8- سورة فاطر، الآية: 15.
9- سورة محمد، الآية: 38.
10- سورة الطور، الآيتان: 35 ـ 36.
11- سورة الطور، الآية: 43.
12- سورة البقرة، الآية: 164.
13- انظر: نفحات القرآن، ناصر مكارم الشيرازي، ج2، ص184 وما بعدها.