يتم التحميل...

ما هي أدلّة ولاية الفقيه؟ -الأدلّة العقليَّة-

أبحاث في الولاية

تقدّم أنّ ولاية الفقيه لها اصطلاحان: ولاية خاصّة، وهي التي تنحصر في بعض الموارد التي مرّت سابقًا، والولاية العامّة، وهي الولاية على المجتمع بشكل عام. ومقصودنا من ولاية الفقيه هنا هو الولاية العامّة، وهي ما عبّرنا عنه سابقًا بالولاية السياسيّة (القياديّة).

عدد الزوار: 1056

تقدّم أنّ ولاية الفقيه لها اصطلاحان: ولاية خاصّة، وهي التي تنحصر في بعض الموارد التي مرّت سابقًا، والولاية العامّة، وهي الولاية على المجتمع بشكل عام. ومقصودنا من ولاية الفقيه هنا هو الولاية العامّة، وهي ما عبّرنا عنه سابقًا بالولاية السياسيّة (القياديّة)1.

عرض الفقهاء نوعين من الأدلّة على ولاية الفقيه العامّة:
النوع الأوّل: هو الدليل العقليّ.
النوع الثاني: هو الدليل النقليّ.


والمقصود من الدليل العقليّ - هنا- هو ما يقطع به العقل، إمّا مستقلاً عن الدين كحكم العقل القطعي بأن العدل حسنٌ، وأن الظلم قبيح، أو مستندًا إلى الضروريّات الدينيّة2. والدليل على ولاية الفقيه من أمثلة هذا المورد كما سيأتي.

بينما المراد من الدليل النقليّ هو النصوص الدينيّة من آيات قرآنيّة، أو أحاديث شريفة رويت عن النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد المعصومين عليهم السلام من بعده.

مرتبة الدليل العقليّ

من الأمور المسلَّمة في الأصول الشيعيّة أنّه عند قيام الدليل العقليّ القطعيّ، ومجيء نصّ دينيّ يفيد نفس مضمون ذلك الدليل العقليّ، فإنّ هذا النصّ الدينيّ يكون إرشادًا إلى ما توصّل إليه العقل من قطع، لأنّه حينما يصل العقل إلى ذلك القطع بحكمٍ ما، فإنّه لا يجب من الله تعالى أن يُظهر ذلك الحكم، فإذا بيَّنه، فإنَّه يكون مرشدًا إلى ذلك الدليل العقليّ، وبالتالي تكون رتبة الدليل العقليّ متقدِّمة عليه.

الأدلّة العقليّة الثلاثية

بناءً على ما تقدَّم نبدأ بعرض الأدلّة العقليّة قبل استعراض النصوص التي استدلّ بها على ولاية الفقيه.

الدليل الأوّل: أحكام الإسلام

عرض الإمام الخمينيّ قدس سره في كتاب "الحكومة الإسلاميّة" دليلاً عقليًّا مستندًا إلى قطعيّات وضروريّات دينيّة، وهذا الدليل مؤلّف من مقدِّمات هي:

المقدِّمة الأولى: الإسلام دين حكومة.

قال الإمام الخمينيّ قدس سره في توضيح هذه المقدِّمة: "عند إمعان النظر في ماهيّة أحكام الشرع يثبت لدينا أن لا سبيل إلى وضعها موضع التنفيذ إلاّ بواسطة حكومة ذات أجهزة مقتدرة"3.

وقد أعطى الإمام قدس سره أمثلة لما ذكره، هي:

1- الأحكام الماليّة
من الواضح حين ملاحظة العناوين الماليّة الواجبة أنّها تدرّ كميّة كبيرة من الأموال لا تتناسب إلاّ مع حكومة، ومن تلك العناوين: الخمس، الزكاة، ردّ المظالم... إضافة إلى ما يستحبّ من الإنفاق كالصدقات.

وعن الخمس يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الخمس مورد ضخم يدرّ على بيت المال4 أموالاً طائلة تشكّل النصيب الأكبر من بيت المال، ويؤخذ الخمس على مذهبنا من جميع المكاسب والمنافع والأرباح، سواء في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو غيرها،
ويساهم في دفع الخمس بائع الخضروات إذا حصل عنده ما يزيد على مؤونته السنويّة المنسجمة مع تعاليم الشرع في الصرف والإنفاق، كما يساهم في ذلك التاجر والصانع وسائق السيارة وربّان السفينة، وقبطان الطائرة...، على جميع هؤلاء وغيرهم دفع خمس فائض الأرباح إلى الإمام عليه السلام أو نائبه لينضمَّ إلى بيت المال.

وبديهيّ أنّ هذا المورد الضخم إنّما هو من أجل تسيير شؤون المجتمع الإسلاميّ، وسدّ احتياجاته المطلوبة.

وإذا أردنا أن نحسب أخماس أرباح المكاسب في الدولة الإسلاميّة أو العالم كلّه - إذا كان يدين بالإسلام - لتبين لنا أنّ هذه الأموال الطائلة ليست لرفع حاجات سيِّد أو طالب علم، بل لأمر أكبر وأوسع من هذا، إنَّه لسدّ احتياجات أمّة بأكملها، وعندما تتحقّق دولة إسلاميّة، فلا بدّ لها في تسيير شؤونها من الاستعانة بأموال الخمس والزكاة والجزية والخراج.

السادة، متى كانوا بحاجة إلى مثل هذا المال؟ خمس سوق بغداد يكفي لاحتياجات جميع السادة، ولجميع نفقات المجامع العلميّة الدينيّة، ولجميع فقراء المسلمين، فضلاً عن أسواق طهران وإسلامبول والقاهرة وغيرها، فميزانيّةٌ بمثل هذه الضخامة، إنّما تراد لتسيير أمّة كبرى، ولإشباع الحاجات الأساسيّة المهمّة للناس، وللقيام بالخدمات العامّة الصحيّة، والثقافيّة، والتربويّة، والدفاعيّة، والعمرانيّة"5.

2- أحكام الدفاع
إنّ أحكام الجهاد والدفاع عن بلاد المسلمين تدلّ على ضرورة تشكيل الحكومة، فبدونها كيف يتمّ هذا الدفاع؟! وقد "حكم الإسلام بوجوب الإعداد والاستعداد والتأهّب التام حتى في وقت السلم بموجب قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ6"7، فكيف يكون هذا الإعداد من دون تنسيق مركزيّ ينطلق من خلال حكومة.

3- أحكام الحدود والديّات والقصاص
من الواضح أنّه "لا يمكن لهذه الأحكام أن تقام بدون سلطات حكوميّة، فبواسطتها تؤخذ الدية من الجاني، وتدفع إلى أهلها، وبواسطتها تقام الحدود، ويكون القصاص تحت إشراف ونظر الحاكم الشرعيّ"8.

هذه أمثلة ثلاثة توضّح بديهيّة المقدِّمة الأولى من الدليل على ولاية الفقيه وهي:

* خلود أحكام الإسلام
انطلق الإمام الخمينيّ قدس سره من الحديث الوارد: "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة"9، ليؤكّد على بديهيّة دينيّة هي أنّ هذه الأحكام التي وردت بعض أمثلتها الموضّحة لكون الدين دين حكومة هي ليست مختصّة بزمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بزمن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، بل هي خالدة خلود الإسلام، قال : "بديهيّ أنّ ضرورة تنفيذ الأحكام لم تكن خاصّة بعصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل الضرورة مستمرة، لأنّ الإسلام لا يُحدّ بزمان أو مكان، لأنّه خالد، فيلزم تطبيقه وتنفيذه والتقيّد به إلى الأبد. وإذا كان حلال محمّد حلالاً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامًا إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن تعطل حدوده، وتهمل تعاليمه، ويترك القصاص، أو تتوقف جباية الضرائب الماليّة، أو يترك الدفاع عن أمة المسلمين وأراضيهم. واعتقاد أنّ الإسلام قد جاء لفترة محدودة أو لمكان محدود، يخالف ضروريّات العقائد الإسلاميّة، وبما أنّ تنفيذ الأحكام بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى الأبد من ضرورات الحياة، لذا كان ضروريًّا وجود حكومة فيها مزايا السلطة المنفّذة المدبّرة"10.

المقدِّمة الثانية: الحكومة تحتاج إلى حاكم يتميّز بصفات ثلاث، هي:

1- الكفاءة فيما تحتاجه الحكومة من إدارة وما شابه.
2- العلم بالقوانين الإسلاميّة، لأنّه يجب أن يحكم في ضوء الشريعة الإسلاميّة، فلا بدّ أن يكون عالمًا بهذه الشريعة، وهو ما يُطلق عليه بالاصطلاح "مجتهد" و"فقيه".
3- أن يكون مؤتمنًا على تطبيق القوانين، فلا تتدخّل فيه الأهواء الشخصيّة، ويطلق عليه: "عادل".

المقدِّمة الثالثة

إذا حكم هذا الحاكم في ضوء نظره للأدلّة الشرعيّة، وملاحظته لمصلحة المجتمع يجب على المجتمع أن يطيعه، وهذا أمر واضح، وإلاّ لا يكون هناك معنى مقبول للمقدِّمتين الأوليين.

وعليه، فإذا وجبت طاعة الحاكم الفقيه من قبل أفراد المجتمع، فهذا يعني أنّ له ولاية عليهم.

دليل ولاية الفقيه بديهيّ

اللافت في كلام الإمام الخمينيّ قدس سره أنّه اعتبر فكرة ولاية الفقيه بديهيّة، قال في كتاب الحكومة الإسلاميّة: "ولاية الفقيه فكرة علميّة واضحة قد لا تحتاج إلى برهان بمعنى أنّ من عرف الإسلام أحكاماً وعقائد يرى بداهتها...".

وفي في كتاب البيع: "...فولاية الفقيه - بعد تصوّر أطراف القضيّة- ليست أمرًا نظريًّا يحتاج إلى برهان"11.

وليس الإمام الخمينيّ قدس سره وحده الذي اعتبر ولاية الفقيه من القضايا البديهيّة الواضحة التي لا تحتاج إلى استدلال برهاني عليها، بل نجد أنّ بعض الأعلام قد عبَّر بعبارات تقارب عبارتي الإمام المتقدِّمتين، كما سنلاحظ ذلك في المبحث الآتي تحت عنوان: هل القول بولاية الفقيه حديث أو قديم؟

والبديهيّ في الاصطلاح هو مقابل النظريّ، والفرق بينهما أنّ القضيّة البديهيّة هي التي إن لاحظها الإنسان، فإنّه يصدِّق بها، من دون حاجة إلى إقامة دليل عليها، بخلاف القضيّة النظريّة، فمثلاً حينما نقول: "الكون حادث" أي كان عدمًا، ثمّ وُجِد، فإنّ تصوّر
الموضوع "الكون"، والمحمول "الحادث"، ونسبة هذا المحمول للموضوع، لا ينتج تصديقًا مباشرًا، بل لا بدّ من الاستدلال على ذلك بأن نقول: الكون متغيِّر، وكلّ متغيِّر حادث، إذًا الكون حادث.

أمّا القضيّة البديهيّة فلا تحتاج إلى هذا النوع من الاستدلال، بل يحصل التصديق بها بمجرَّد أطرافها.

بناءً على ما تقدَّم، فإنّ المقدِّمات الثلاث للدليل العقليّ السابق كلّها بديهيّة، إلاّ أنّ هذه البديهيّة هي بديهيّة خاصة، لا بديهيّة عامّة. والفرق بينهما هو أنّ البديهيّة العامّة هي التي تكون عند كلّ إنسان عاقل سويّ، كبديهيّة أنّ الفرد هو غير الزوج. أمّا البديهيّة الخاصّة، فهي البديهيّة عند مكوَّن خاص كالمسلمين فعندهم وجوب الصلاة بديهيّ، وكذلك وجوب الصوم وما شاكل، بينما غير المسلم لا تكون عنده هذه الأمثلة من البديهيّات، لذا تعدّ من البديهيّات الخاصّة. وهكذا هي ولاية الفقيه، فهي بديهيّة عند العالم بأحكام الإسلام بأنَّها أحكام حكومة، فإنّ هذا الأمر بديهيّ عنده بالبديهيّة الخاصّة، وبعد تكوّن هذه البديهيّة الخاصّة (الإسلام دين حكومة) يأتي دور المقدِّمتين الأخريين (كون الحاكم فقيهًا...وأنّ المجتمع يجب أن يطيعه في حكمه)، فهما أيضًا بديهيّتان.

وقد أطلقنا على هذا الدليل العقليّ الأوّل: دليل أحكام الإسلام.

الدليل الثاني: حفظ النظام

خلاصة هذا الدليل: إنَّ الله الحكيم أراد من خَلْق الإنسان أن يتكامل، فأرسل لأجله الشريعة (الأحكام)، ليتكامل في ضوء امتثالها، وبما أنّ التكامل له بعدان فرديّ واجتماعيّ، فإنّ البعد الاجتماعيّ في ضوء الأحكام الإسلاميّة الاجتماعيّة تحتاج إلى ناظم لها، يكون حاكمًا ووليًّا، وإلاّ فمن دون هذا الناظم سيحصل اختلال في المجتمع، من هنا كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو ذلك الناظم الحاكم الوليّ.

وقد استدلّ الشيعة على ضرورة الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ تَرْكَ المجتمع من دون تعيين ناظم، له، لتتعرّف عليه الأمّة، سيؤدّي إلى الاختلال في نظام المجتمع، فكان لا بدّ من الله تعالى الحكيم أن يتدخّل بالإرشاد إلى الحاكم بعد الرسول
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا ما حصل بالفعل في تعيين الإمام علي عليه السلام خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعده الإمام الحسن عليه السلام، ثمّ الإمام الحسين عليه السلام، ثمّ الأئمّة المعصومين التسعة عليهم السلام من ولد الإمام الحسين عليه السلام.

والسؤال الذي يرد في غيبة الإمام المهدي، وبالتحديد عام 329هـ، وهو زمن بداية الغيبة الكبرى، هو: هل يمكن لله الحكيم أن يغيِّب الإمام المهديّ |دون أن يرشد إلى الوليّ الناظم في غيبته، ولو من خلال المواصفات بعد غياب الإمام المنصوص عليه بالاسم؟ والكلام هنا هو فقط عن القيادة السياسية كما سيأتي توضيحه وليس عن مقامات الامامة الأخرى.

إذا أردنا أن نحافظ على المنهج والنسق الواحد عند الشيعة لا بدَّ أن يكون الجواب: "نعم، لا بدّ من ذلك"، لنفس السبب السابق الذي عبّر عنه الإمام الخمينيّ قدس سره بقوله: "لولا ذلك لساد الهرج والمرج والفساد الاجتماعيّ، والانحراف العقائديّ والخُلُقيّ، فلا سبيل مع ذلك إلاّ بقيام حكومة عادلة تدير جميع أوجه الحياة"12.

أمّا إذا قلنا: لا يجب الإرشاد إلى الوليّ، فإنّ هذا القائل يكون على المنهج الشيعيّ التام إلى سنة 329 هـ، أمّا بعدها فالسؤال يقع حول مدى مواءمة هذا القول مع المنهجية الشيعية التي لا بد أن تكون واحدة.

ومن الواضح أنّ هذا الدليل يتّصف، كما الدليل العقليّ الأوّل، بالبداهة فيجري عليه ما قلناه هناك حول تفسير البديهة.

الدليل الثالث: الحِسْبَة

استدلّ بعضهم على ولاية الفقيه بما أطلق عليه: "دليل الحسبة". وقد عرَّف الميرزا جواد التبريزيّ الأمور الحسبيّة بأنّها: "الأمور التي لا بدّ من حصولها في الخارج، ولم يعيَّن من يتوجّه إليه التكليف بالخصوص"13. وتوضيح ذلك: إنَّنا نقطع بكون بعض الأمور لا يرضى الشارع بتركها وتعطيلها، فلا بدَّ فيها من التصديّ لها، والتكفُّل بها، وبالتالي فكلّ ما نقطع بعدم رضى الشارع بتركه، فإنه يجب القيام به، وبعبارة أخرى: كلّ ما يُقطَع من مذاق الشارع أنّه تعالى لا يرضى بتركه لحاله، لأهميّته، فيجب القيام بمهامّه احتسابًا لله أي طلبًا للأجر، لذا سمِّي بـ "دليل الحسبة"، لأنّ الحِسبة في اللغة هي الأجر، والاحتساب هو طلب الأجر14.

بناءً على ما تقدَّم رأى ثلّة من الفقهاء أنّ أمور الحكومة والمجتمع هي من الموارد التي يُقطع بأنّ الله تعالى لا يرضى بتركها وتعطيلها، وبالتالي يجب التصدّي لها، وإذا دار الأمر بين المتصدّي الفقيه، والمتصدِّي غير الفقيه، فإنّه يتعيَّن كون المتصدّي فقيهًا، وذلك لأحد بيانين:

البيان الأوّل: إنَّ الأمر يدور بين أن يكون المتصدّي هو خصوص الفقيه دون غيره، أو أنَّ المتصدّي هو أعمّ من الفقيه وغيره، إذ من الواضح أنّه لا خصوصيّة لغير الفقيه، وبالتالي، فإنّ الأمر يدور بين التعيين بالفقيه، والتخيير بين الفقيه وغيره، وبما أنّ الأصل هو أنّه لا ولاية لأحد على أحد، فيكون الفقيه هو القدر المتيقَّن الذي يُشرَّع تصدّيه، وبالتالي يجب طاعته دون غيره.

البيان الثاني: إنّ القطع بعدم رضى الشارع إنّما يحصل للفقيه بسبب معرفته مذاق الشارع وديدنه الذي استنبطه من خطاباته الواردة في تشريع أحكام هذه الأمور15.

السيّد الخوئيّ ودليل الحسبة

اعتمد السيد أبو القاسم الخوئيّ على دليل الحسبة للقول بأنّ الفقيه له ولاية على اليتيم والمجنون اللذين فقدا الأب والوصيّ، باعتبار أنّ هذا الأمر من الموارد التي يقطع فيها بعدم رضا الله عزّ وجل أن تترك وتعطَّل، بل اعتمد على دليل الحِسبة للقول بأنّ للفقيه
ولاية في الجهاد الابتدائيّ الهجوميّ. قال : "لو قلنا بمشروعيّة أصل الجهاد في عصر الغيبة، فهل يعتبر فيها إذن الفقيه الجامع للشرائط أم لا؟

يظهر من صاحب الجواهر اعتباره، بدعوى عموم ولايته بمثل ذلك في زمن الغيبة.

وهذا الكلام غير بعيد بالتقريب الآتي: وهو أنّ على الفقيه أن يشاور في هذا الأمر المهمّ أهل الخبرة والبصيرة من المسلمين، حتى يطمئنّ بأنّ لدى المسلمين من العدّة والعدد ما يكفي للغلبة على الكفّار الحربيين. وبما أنّ عمليّة هذا الأمر المهمّ في الخارج بحاجة
إلى قائد وآمر يرى المسلمون نفوذ أمره عليهم، فلا محالة يتعيّن ذلك في الفقيه الجامع للشرائط، فإنّه يتصدّى لتنفيذ هذا الأمر المهمّ من باب الحِسبة، على أساس أن تصدّي غيره لذلك يوجب الهرج والمرج ويؤدّي إلى عدم تنفيذه بشكل مطلوب وكامل"16. الملاحظ في هذا الكلام أنّه عقّب على قوله: "من باب الحسبة" بما يواءم في صياغته مع دليل النظام المتقدّم، ممّا يدلّ على تقاربهما في المضمون.

بين الولاية على اليتيم والجهاد الابتدائي

رغم ما سبق من كلام للسيّد الخوئيّ : إلاّ أنّ اللافت فيما ينسب إليه هو تحفّظه على ولاية الفقيه في موارد هي أقلّ خطورة من الجهاد الابتدائيّ، كولايته على المجتمع الإسلاميّ القائم، مع أنَّ دليل الحِسبة يجري فيه كما يجري في الجهاد الابتدائيّ، ولعلَّ هذا الأمر يكشف رأيه الحقيقيّ، وقد يكون الأخير، وهو ما تجلّى في ما قام به أثر الانتفاضة الشعبانيّة في العراق عام 1411هـ/ 1991م حيث وجد مجتمعًا يسود فيه هرج ومرج دون وليّ، فإذا به يشكّل لجنة عليا تشرف على إدارة شؤون العراق، وقد أصدر بيانًا
في ذلك جاء فيه: "وبعد، فإنّ البلاد تمرّ في هذه الأيام بمرحلة عصيبة تحتاج فيها إلى حفظ النظام، واستتباب الأمن والاستقرار، والإشراف على الأمور العامّة، والشؤون الدينيّة والاجتماعيّة تحاشيًا من خروج المصالح العامّة عن الإدارة الصحيحة إلى التسيّب والضياع. من أجل ذلك نجد أنّ المصلحة العامّة للمجتمع تقتضي منّا تعيين لجنة عليا تقوم بالإشراف على إدارة شؤونه كلّها بحيث يمثّل رأيها رأينا، وما يصدر عنها يصدر عنّا، وقد اخترنا لذلك نخبة من أصحاب الفضيلة العلماء المذكورة أسماؤهم أدناه ممّن نعتمد على كفاءتهم، وحسن تدبيرهم.

"على أبنائنا المؤمنين اتّباعهم والانصياع إلى أوامرهم وإرشاداتهم، ومساعدتهم في إنجاز هذه المهمّة. أسأل الله عزّ وجلّ أن يوفّقهم لأداء الخدمة التي تُرضيه سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إنّه وليّ التوفيق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"17.

* يسألونك عن الولي، سماحة الشيخ أكرم بركات.


1- سيتضح في طيّات الابحاث القادمة أنّ هناك أكثر من وجهة نظر في دائرة الولاية العامة.
2- وما عرضناه هو تقسيم الاصوليين للدليل العقلي إلى المستقلات العقلية، وغير المستقلات العفلية.
3- الخمينيّ، روح الله، الحكومة الإسلاميّة، ط2، بيروت، مركز الإمام الخميني الثقافي، 1429هـ، ص 31.
4- بيت المال: خزانة الدولة، وهو المكان الذي تجتمع فيه الأموال العامة للدولة.
5- الإمام الخميني، روح الله، الحكومة الإسلاميّة، ص 32-33.
6- سورة الأنفال، الآية 60.
7- الإمام الخميني، روح الله، الحكومة الإسلاميّة، ص 34-35.
8- المصدر السابق، ص 35.
9- الحرّ العامليّ، محمّد حسن، وسائل الشيعة، تحقيق محمد رضا الجلالي، ط2، قم، مؤسسة آل البيت، 1414هـ، ج30، ص 196.
10- الإمام الخمينيّ، روح الله، الحكومة الإسلاميّة، ص 28- 29.
11- الإمام الخمينيّ، روح الله، كتاب البيع، ط4، قم، اسماعيليان، 1410هـ، ص 467.
12- الإمام الخمينيّ، روح الله، الحكومة الإسلاميّة، ص 29.
13- التبريزي، جواد، صراط النجاة، ط1، (لا،م)، دفتر نشر بركزيده، 1416هـ، ج3، ص 358.
14- ابن منظور، محمّد، لسان العرب، (لا، ط)، قم، نشر أدب الحوزة، 1405هـ، ج1، ص 314.
15- المازندراني، علي أكبر، دليل تحرير الوسيلة، ط1، قم، مؤسّسة تنظيم، نشر آثار الإمام الخميني، 1417هـ، ص 70.
16- الخوئي، أبو القاسم، منهاج الصالحين، ط 28، قم، مهر، 1410هـ، ج1، ص 366.
17- أخذت نسخة من هذا النصّ من مكتب سماحته في قمّ المقدّسة (الحيدري، وديع، ولاية الفقيه والحكومة الإسلاميّة في عصر الغيبة، ط4، بيروت، مؤسسة التاريخ العربي، 1433هـ، ص 54.

2013-10-09