هل يعلم الأئمة عليهم السلام الغيب؟
الإمامة والخلافة
قال ابن منظور: "الغيب: كلّ ما غاب عنك"1، من دون فرق بين كون الغياب ماضيًا، أو في الحال أو في الاستقبال. وفي المعنى اللغويّ نفسه استعمل القرآن الكريم لفظ الغيب،
عدد الزوار: 324
معنى الغيب
قال ابن منظور: "الغيب: كلّ ما غاب عنك"1، من دون فرق بين كون الغياب ماضيًا، أو في
الحال أو في الاستقبال.
وفي المعنى اللغويّ نفسه استعمل القرآن الكريم لفظ الغيب، فعن الغيب في الماضي قال
تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ ﴾
2، وعنه في الحاضر قال
تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾3، وعنه في المستقبل قال تعالى: ﴿لَّوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ﴾4.
ويقابل الغيب الشهادة، التي تعني في اللغة الحضور، قال الراغب: "الشهادة هي
الحضور5، سواء كان بالعين الظاهرة، أو بعين البصيرة. وكما هو حال الغيب، فقد استعمل
القرآن الكريم الشهادة المعنى اللغويّ نفسه، قال تعالى: ﴿عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ﴾"6.
هل علم الغيب منحصر بالله؟
وردت عدّة آيات قرآنيّة تحصر علم الغيب بالله تعالى، من قبيل قوله تعالى:
1-
﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾7.
2- ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ﴾8.
3- ﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا
اللَّهُ﴾9.
لكن في مقابل هذه الآيات وردت آيات أخرى تفيد أنّ بعض عباد الله يطلعهم سبحانه على
الغيب، من هذه الآيات قوله تعالى:
1- ﴿ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ
عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء﴾10.
نقل الواحدي عن السدي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عُرضت عليّ
أمّتي في صورها كما عُرضت على آدم، وأُعلمتُ من يؤمن لي، ومن يكفر. فبلغ ذلك
المنافقين، فاستهزءوا وقالوا: يزعم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنّه يعلم من
يؤمن به،
ومن يكفر، ونحن معه، ولا يعرفنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية"11.
2- ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾12.
الجمع بين الآيات
إذًا، فإنّ الله تعالى يظهر غيبه على من ارتضى من رسول، وبالتالي، فكيف نجمع بين
هذه الآية وما قبلها مع الآيات السابقة التي تحصر علم الغيب بالله تعالى؟
وبعبارة أخرى فيها إضافة: ممّا لا شكّ فيه أنّ النبيّ محمّدًا صلى الله عليه وآله
وسلم هو على رأس من اجتبى واصطفى اللهُ تعالى من رسله، وبالتالي فهو عزّ وجلّ
يطلعه، ويظهر عليه غيبه، فكيف نجمع بين هذه المقولة، والآيات السابقة الحاصرة لعلم
الغيب بالله
تعالى، بل بينها وبين قوله تعالى عن لسان رسوله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾13؟
والجواب: إنّ التأمّل في مجموع الآيات يفيد أمرين:
الأوّل: إنّ علم الغيب محصور بالله تعالى استقلالاً، فلا يمكن لأحد أن يعرفه
مستقلاً عن الله تعالى، وهذا هو تفسير الآيات الثلاث الحاصرة لعلم الغيب بالله عزّ
وجلّ، إلاّ أنّ هذا لا يمنع أن يتفضّل الله تعالى على بعض عباده بإطلاعه على بعضٍ
مِن علم
الغيب، فيكون هذا البعض عالمًا بالغيب بالتبع لا بالاستقلال، ولهذا نظير في القرآن
الكريم، فهو ينسب توفّي الأنفس إلى الله تعالى بقوله: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى
الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَ﴾14، بينما نلاحظ
أنّه عزّ وجلّ ينسب التوفِّي في بعض الآيات
الأخرى إلى غيره، بقوله تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي
وُكِّلَ بِكُمْ ﴾15، ويقول تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ
عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا
وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ﴾16.
والجمع بين هذه الآيات هو أنّ التوفيّ بالاستقلال وبالذات هو لله تعالى، وهذا لا
يتنافى مع كون التوفّي بالعرض وبالتبع هو لغيره من الملائكة.
وكذلك الحال في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾17، وقوله عزّ وجلّ:
﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ
فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ﴾
18، فالخلق الذي يعني التشكيل من مادّة سابقة
هو لله بالذات والاستقلال، كحالة الإبداع والإيجاد من
العدم، وفي الوقت نفسه صحّ نسبة الخلق بالعرض وبالتبع لله إلى النبيّ عيسى عليه
السلام.
وهكذا الحال في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعً﴾19، وقوله عزّ
وجلّ: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾20.
الثاني: إنّ الملاحظ في الآية النافية لعلم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
الغيب أنّ النفي كان في صيغة الإنسان المتكلّم المتناسبة مع استقلاله بالعلم، ففي
الآية: ﴿وَلَوْ كُنتُ﴾21 بتاء ضمير المتكلّم و ﴿ أَعْلَمُ ﴾22بضمير المتكلّم
المستتر،
و
﴿لاَسْتَكْثَرْتُ﴾23بتاء ضمير المتكلّم، فكأنّه يقول: "أنا بنفسي مستقلاً عن الله
لا أعلم الغيب".
أمّا آية إطلاع الله تعالى وإظهاره للغيب فإنَّها أتت بصيغةٍ فاعلها هو الله تعالى،
ففي الآيتين السابقتين ورد: ﴿لِيُطْلِعَكُمْ ﴾24 أي الله، و
﴿يَجْتَبِي﴾25
أي الله،
و
﴿فَلَا يُظْهِرُ﴾26 أي الله و
﴿مَنِ ارْتَضَى﴾27 أي الله.
والخلاصة أنّ هذه الصيغ تفيد الآتي:
أنا الإنسان، ولو كنتُ خاتم الأنبياء، فإنّي لا أعلم من نفسي الغيب، لأنّ الغيب بيد
الله، وبالتالي هو الذي يطلعه ويظهره على من يشاء.
الله يخبر أنبياءه الغيب
بناءً على ما تقدّم نعرض جملة من الآيات التي أظهر الله تعالى الغيب فيها لبعض
أنبيائه وعباده الصالحين، وهي:
1- قوله تعالى: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ 28.
نزلت هذه الآيات في أعقاب الحرب التي دارت بين الروم والفرس، وهما الدولتان اللتان
كانتا تسيطران على العالم القديم، وكانتا تتنازعان على بلاد الشام وغيرها، حيث
أخبرت عن أمر غيبيّ يقع في المستقبل القريب. قال الزحيلي في تفسيره: "وهذا إخبار
بالغيب عن أمر في المستقبل وأيّده الواقع، وقد نزلت الآيات حين غلب "سابور" ملك
الفرس على بلاد الشام، وما والاها من بلاد الجزيرة، وأقاصي بلاد الروم، فاضطرّ
"هرقل" ملك الروم، حتى ألجأه إلى القسطنطينيّة، وحاصره فيها مدّة طويلة، ثمّ عادت
الدولة
لهرقل. فبعد نزول سورة الروم سنة 622م ببضع سنين ( في سنة 627م) أحرز هرقل أوّل نصر
حاسم للروم على الفرس في "نينوى" على نهر دجلة، وانسحب الفرس لذلك من حصارهم
للقسطنطينيّة، ولقي كسرى "ابرويز" مصرعه سنة 628م على يد
ولده"29.
2- قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ
مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾30، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم المسلمين بأنّهم
سوف يفتحون "مكّة" في المستقبل، وقد وقع ذلك فعلاً، ومن الواضح أنّ ذلك إخبار عن
الغيب أطلع الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم عليه من خلال الرؤيا.
3- قوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾31. حيث دلّت على اطّلاع أمّ
موسى عليه السلام على الغيب، مع أنَّها ليست من الأنبياء والأوصياء32.
علم الأئمّة بالغيب
بناءً على ما تقدّم، فإنّ السؤال عن علم الأئمة بالغيب هو سؤال عن أمر ممكن غير
مستحيل، ينحصر بالنصّ الدينيّ من قرآن كريم وأحاديث شريفة، إذ لا يمكن للعقل أن
يثبت وجوده.
وبالفعل ورد في الروايات ما يؤكّد أنّ الله تعالى قد أنعم على الأئمّة عليه السلام
بمنحهم عطيّة علم الغيب بكثيرٍ من الأمور، وهذا ما نعرضه في العناوين الآتية:
* النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعلِّم الغيب أهل بيته عليه السلام
ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من أرض مخصّبة ولا مجدبة، ولا
فئة تضلّ مئة وتهدي مئة إلاّ أنا أعلمها، وقد علَّمتها أهل بيتي"33.
* وراثة علم الغيب من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
تكاثرت الروايات عن وراثة أهل البيت عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، ومن جملة ما ورثوه ما يتعلّق بعلم الغيب، وفي هذا وردت النصوص الآتية:
1- عن الإمام الرضا عليه السلام في جواب عمرو بن هذّاب، حينما نفى عن الأئمّة عليه
السلام علم الغيب متذرّعًا بأنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى، قال عليه السلام:
"أوليس الله يقول: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن
رَّسُولٍ﴾34، فرسول الله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على
ما شاء من غيبه، فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة"35.
2- عن عبد الله بن جندب أنّه كتب إليه أبو الحسن الرضا عليه السلام: "أمّا بعد،
فإنّ محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان أمين الله في خلقه، فلمّا قبض صلى الله
عليه وآله وسلم كنّا أهل البيت ورثته، فنحن أُمناء الله في أرضه، عندنا علم البلايا
والمنايا،
وأنساب العرب، ومولد الإسلام، وإنّا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان، وحقيقة
النفاق، وإنّ شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، أخذ الله علينا وعليهم
الميثاق، يردون موردنا، ويدخلون مدخلنا، ليس على ملّة الإسلام غيرنا وغيرهم. نحن
النجباء
النجاة، ونحن أفراط الأنبياء، ونحن أبناء الأوصياء، ونحن المخصوصون في كتاب الله
عزّ وجلّ، ونحن أولى الناس بكتاب الله، ونحن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم..."36.
3- عن ضريس الكناسي قال: كنت عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام وعنده أبو بصير،
فقال أبو عبد الله عليه السلام: "إنّ داود عليه السلام ورث علم الأنبياء عليه
السلام، وإنّ سليمان عليه السلام ورث داود عليه السلام، وإنّ محمّدًا صلى الله عليه
وآله وسلم ورث سليمان عليه السلام، وإنّا ورثنا محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم،
وإنّ عندنا صحف إبراهيم عليه السلام وألواح موسى عليه السلام..."37.
* الإمام علي عليه السلام يفصح بعلمه الغيب
أعلن الإمام علي عليه السلام عن علمه بالغيب في أكثر من مقام، فعنه عليه السلام:
1- "والله لو شئت أن أخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكن أخاف
أن تكفروا فيّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألا وإنّي مفضيه إلى الخاصّة
ممّن يؤمَن ذلك منه. والذي بعثه بالحقّ، واصطفاه على الخلق، ما أنطق إلاّ صادقًا،
وقد عهد إليّ بذلك كلّه، وبِمهلك من هلك، ومَنجى من ينجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى
صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا يمرّ على رأسي إلاّ أفرغه في أذني، وأفضى به
إليّ"38.
2- "أمّا بعدُ حمدِ الله والثناءِ عليه، أيّها الناس: فأنا فقأت عين الفتنة، ولم
يكن ليجترئ عليها أحدٌ غيري بعد أن ماج غيهبُها، واشتدّ كَلَبُها. فاسألوني قبل أن
تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة
تهدي مئة
وتضلّ مئة، إلاّ أنبأتكم بناعقها، وقائدها، وسائقها، ومُناخ ركابها، ومحطّ رحالها،
ومن يُقتل من أهلها قتلاً، ومن يموت منهم موتًا..."39.
* الأئمّة من ولد أمير المؤمنين عليه السلام يعلنون علمهم بالغيب
1- عن الإمام الصادق عليه السلام: "والله لقد أُعطينا علم الأوّلين والآخرين". فقال
له رجل من أصحابه: جعلت فداك أعندكم علم الغيب؟ فقال له عليه السلام: "ويحك، إنّي
أعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء. ويحكم وسّعوا صدوركم ولتبصر أعينكم،
ولتعِ قلوبكم..."40.
2- عن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "...والذي نفسي بيده إنّي لأعلم
علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وعلم ما كان، وعلم ما هو كائن فيما بيني وبين
قيام الساعة"41.
الأئمّة وعلمهم بآجالهم
سؤال
إذا كان الأئمّة عليه السلام يعلمون الغيب، فهل يعلمون بساعة أجلهم ؟ وإن علموا
بذلك ألا يكون إقدامهم الاختياريّ انتحارًا؟
فالإمام علي عليه السلام إن كان يعلم بضربه بالسيف في الليلة التاسعة من شهر رمضان
في تلك السنة، وأنّ ذلك يحصل في المسجد، وعلى يد شخص محدَّد يعرفه، ورآه قبيل
الصلاة، ألا تعدّ صلاته نوعًا من الإقدام على التهلكة؟
وهكذا الحال بالنسبة للإمام الحسن عليه السلام والسمّ، وسائر الأئمّة عليه السلام
من ولُد الإمام الحسين عليه السلام.
الجواب:
إنّ الأئمّة عليه السلام يعملون بحسب تكاليفهم الإلهيّة، وإن كانوا يعلمون أنّها
ستؤدّي إلى قتلهم، ومن الطبيعيّ أنّ تكليف العالم بالعلم الخاصّ المكشوف له باب
الواقع يختلف عن تكليف غيره، لذا فالإمام علي عليه السلام خرج إلى المسجد امتثالاً
لأمر الله
تعالى، وهذا ما أوضحه الإمام الرضا عليه السلام في جوابه لمن سأله عن سبب خروجه
إليه مع علمه بما يحصل، قال عليه السلام: "ولكنّه خُيِّر في تلك الليلة، لتمضي
مقادير الله عزّ وجلّ"42، وهذا يعني أنّه باختياره ذهب ممتثلاً تكليفه الإلهيّ. وما
يزيد الجواب
وضوحًا ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "يا حمران، إنّ الله تبارك وتعالى قد
كان قدّر ذلك عليهم، وقضاه، وأمضاه، وحتَّمه على سبيل الاختيار، ثمّ أجراه،
فبِتقدُّمِ علمٍ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام عليّ والحسن
والحسين عليه السلام،
وبعلمٍ صمت من صمت منّا"43.
قال العلاّمة المجلسيّ في مقام توضيح الجواب:
"إنّ أحكامهم الشرعيّة منوطة بالعلوم الظاهريّة، لا بالعلوم الإلهاميّة"44. وقال
الشيخ المفيد: "إذا كان لا يمتنع أن يتعبّده الله بالصبر على الشهادة، والاستسلام
للقتل، ليبلغه الله بذلك من علوّ الدرجة ما لا يبلغه إلاّ به...، ويكون في المعلوم
من اللطف بهذا
التكليف لخلقٍ من الناس ما لا يقوم مقامه غيره، فلا يكون بذلك أمير المؤمنين عليه
السلام ملقيًا بيده إلى التهلكة، ولا معينًا على نفسه معونة مستقبحة في العقول"45.
إلفات
لا يخفى أن الاشكال السابق حول علم الأئمة عليه السلام بآجالهم لا يرد على المبنى
القائل: إنّ الإمام متى شاء أن يعلم أعلمه الله تعالى بذلك، والذي أشرنا له سابقاً
في آخر البحث عن كونه علم الإمام لدنيّاً، فإنه على ذلك المبنى يكون قد أقدم على
أجله
دون أن يشاءَ عِلْمَ ذلك.
* يسألونك عن الأئمة، الشيخ أكرم بركات.
1- ابن منظور، محمّد، لسان العرب، (لا،ط)، قم، نشر أدب الحوزة، 1405هـ، ج1، ص 654.
2- سورة آل عمران، الآية 44.
3- سورة البقرة، الآية 3.
4- سورة سبأ، الآية 14.
5- الفيومي، أحمد، المصباح المنير، ص 324.
6- سورة الزمر، الآية 46.
7- سورة الأنعام، الآية 59.
8- سورة يونس، الآية 20.
9- سورة النمل، الآية 65.
10- سورة آل عمران، الآية 179.
11- الواحدي النيسابوريّ، أسباب نزول الآيات، (لا،ط)، القاهرة، مؤسسة الحلبي،
1388هـ، ص88.
12- سورة الجن، الآيتان 26-27.
13- سورة الأعراف، الآية 188.
14- سورة الزمر، الآية 42.
15- سورة السجدة، الآية 11.
16- سورة الأنعام، الآية 61.
17- سورة الزمر، الآية 62.
18- سورة آل عمران، الآية 49.
19- سورة النساء، الآية 139.
20- سورة المنافقون، الآية 8.
21- سورة الأعراف، الآية 188.
22- سورة الأعراف، الآية 188.
23- سورة الأعراف، الآية 188.
24- سورة آل عمران، الآية 179.
25- سورة آل عمران، الآية 179.
26- سورة الجن، الآيتان 26-27.
27- سورة الجن، الآيتان 26-27.
28- سورة الروم، الآيات 2-4.
29- الزحيليّ، وهبة، التفسير المبين في العقيدة والشريعة والمنهج، ط1، بيروت، دار
الفكر، 1411هـ، ج21، ص49.
30- سورة الفتح الآية 27.
31- سورة القصص، الآية 7.
32- الطباطبائي، محمّد حسين، تفسير الميزان، ج16، ص 87.
33- الصفار، محمّد، بصائر الدرجات، ص 317.
34- سورة الجن، الآيتان 26-27.
35- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج49، ص 75.
36- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص223.
37- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص225.
38- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج34، ص217.
39- المصدر السابق، ج41، ص 348.
40- المصدر السابق، ج26، ص 27.
41- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج26، ص 110.
42- المازندراني، محمّد، شرح أصول الكافي، ص 39.
43- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج1، ص 262.
44- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج48، ص236.
45- المفيد، محمّد، المسائل العكبريّة، تحقيق علي أكبر الإلهي الخراساني، ط2،
بيروت، دار المفيد، 1414هـ، ص70.