الامام عليه السلام ووقعة الطف
الحياة السياسية
لقد عاصر الإمام زين العابدين عليه السلام أحداثاً كبيرة وجليلة، فقد أدرك سنتين من إمامة جدّه أمير المؤمنين عليه السلام، وإذا كان الإمام يوم مصرع جدِّه عليه السلام - شهيداً بسيف الغدر في محراب صلاته في مسجد الكوفة- صغيراً لم يتجاوز الثالثة من عمره،
عدد الزوار: 233
لقد عاصر الإمام زين
العابدين عليه السلام
أحداثاً كبيرة وجليلة، فقد أدرك سنتين من إمامة
جدّه أمير المؤمنين عليه
السلام، وإذا كان الإمام
يوم مصرع جدِّه عليه
السلام - شهيداً بسيف
الغدر في محراب صلاته في
مسجد الكوفة- صغيراً لم
يتجاوز الثالثة من عمره، فقد أدرك في عمرٍ آخر،
وبعد سنين، جميع ما وقع
على عمّه الحسن عليه
السلام، من ابتلاءات
ومحن ومصائبٍ، وما رآه من
تخاذل أصحابه وتشتّت
أمورهم، حتّى آل الأمر
إلى الصلح الذي نقضه
معاوية، وكان ختام أمر
عمّه عليه السلام أن قضى
شهيداً مسموماً، بوحي من
معاوية، على يد زوجته
جعدة بنت الأشعث، سنة 50
للهجرة.
وقد شاهد عليه السلام
ابتلاء الأمّة براعٍ مثل
يزيد، عندما نصبه معاوية
وليّاً للعهد من بعده، وما رافق ذلك من ظلم
وإرهاب، وقتل وتشريد،
وسجن وتبعيد، نال الصفوة
الطاهرة من أصحاب جدّه
وعمّه وأبيه.
إلى أن هلك معاوية سنة 60
للهجرة، وآل الأمر إلى
يزيد الخمور والقردة، وكانت مأساة كربلاء التي
كانت أعظم المآسي على قلب
الإمام، والتي تركت
آثارها على بقيّة عمره
الشريف- كما سنرى بعد
ذلك- حيث قضى بقيّة حياته
حزيناً باكياً كلّما ذكر
فجائعها ومصائبها.
وقد شاءت الحكمة الإلهيّة
أن يكون الإمام في كربلاء
مريضاً عليل، حيث كان مبطوناً يشتكي
بطنه
1، به ذَرَب
2(أي إسهال)، لا يقوى
على النهوض، تمرّضه
العقيلة زينب
3عليها السلا، ممّا
منعه عن القتال، وكان ذلك
سبباً في نجاته من أيدي
القوم، إذ كانوا يرون
أنّه لا يبقى
بعده...وشاهد الإمام بأمّ
عينه كلّ ما جرى على أبيه
وأخوته وأهل بيته وأصحاب
أبيه جميع،
منها ما حدَّث به عليه
السلام قائلاً: "لمّا
أصابنا بالطفّ ما أصابنا،
وقتل أبي عليه السلام، وقتل من كان معه من ولده
وأخوته وسائر أهله، وحملت
حرمه ونساؤه على الأقتاب
يراد بنا الكوفة، فجعلت
أنظر إليهم صرعى ولم
يواروا، فعظم ذلك في
صدري، واشتدّ لما أرى
منهم قلقي، فكادت نفسي
تخرج، وتبيَّنت ذلك منّي
عمّتي زينب الكبرى بنت
عليّ عليه السلام، فقالت: ما لي أراك تجود
بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي
وأخوتي، فقلت: وكيف لا
أجزع وأهلع، وقد أرى
سيّدي وأخوتي وعمومتي
وولد عمّي وأهلي مضرّجين
بدمائهم، مرمّلين
بالعَرا، مسلّبين، لا
يكفّنون ولا يوارون، ولا
يعرج عليهم أحد، ولا
يقربهم بشر، كأنّهم أهل
بيت من الديلم والخزر.."4.
وأُخذ الإمام إلى الكوفة،
وقد أنهتكه العلّة
والأسقام، وقد وضعت
الجامعة في عنقه، ويداه
مغلولتان إليها
5، وهناك أراد ابن
زياد قتله، ولمّا أمر
بضرب عنقه، تعلّقت به
عمّته زينب بنت عليّ،
وقالت له: يا بن زياد!
إنّك لم تبق منّا أحداً،
فإن كنت عزمت على قتله
فاقتلني معه، فقال عليّ
بن الحسين لعمّته: "اسكتي
حتّى أكلّمه!" ثمّ أقبل
عليّ عليه السلام على ابن
زياد، فقال: "أبالقتل
تهدّدني؟ أما علمت أنّ
القتل لنا عادة، وكرامتنا
الشهادة!" قال: فسكت ابن
زياد، ثمّ قال: أخرجوهم
عنّي! ثمّ أمر بعليّ بن
الحسين وأهل بيته، فحملوا
إلى بيت في جنب المسجد
الأعظم
6.
وبقي موكب السبايا
أيّاماً في الكوفة، مكّن
الله تعالى خلالها الإمام
زين العابدين أن يذهب إلى
كربلاء، ليواري جسد أبيه
الإمام الحسين عليه
السلام، ويقوم بدفنه
7.
ثمّ أمر بهم عبيد الله بن
زياد، فأرسلهم إلى الشام،
ولدى وصولهم إلى الشام،
جاء شيخ ودنا من نساء
الحسين عليه السلام
وعياله، وهم في ذلك
الموضع، فقال: الحمد لله
الذي قتلكم وأهلككم،
وأراح البلاد من رجالكم،
وأمكن أمير المؤمنين
منكم، فقال له عليّ بن
الحسين عليه السلام : "يا
شيخ، هل قرأت القرآن؟"
قال: نعم، قال: "فهل عرفت
هذه الآية":
﴿قُل
لَّا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى﴾8،
قال الشيخ: قد قرأت ذلك.
فقال له عليّ عليه السلام
: "نحن القربى،
يا شيخ. فهل قرأت في بني
إسرائيل":
﴿وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾9
فقال الشيخ: قد قرأت ذلك،
فقال عليّ بن الحسين:
"فنحن القربى، يا شيخ.
فهل قرأت هذه الآية":
﴿وَاعْلَمُواْ
أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى﴾10،
قال: نعم، فقال عليه
السلام : "فنحن القربى،
يا شيخ. وهل قرأت هذه
الآية":
﴿إِنَّمَا
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا﴾11؟ قال الشيخ: قد
قرأت ذلك، فقال عليه
السلام : "نحن أهل البيت
الذين خصّنا الله بآية
الطهارة، يا شيخ".
قال الراوي: بقي الشيخ
ساكتاً نادماً على ما
تكلّم به، وقال: تالله
إنّكم هم؟! فقال عليّ بن
الحسين: "تالله إنّا لنحن
هم من غير شكٍّ، وحقّ
جدّنا رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم إنّا لنحن
هم". قال: فبكى الشيخ
ورمى عمامته، ثمّ رفع
رأسه إلى السماء وقال:
أللَّهم إنّا نبرأ إليك
من عدوّ آل محمّد صلى
الله عليه واله وسلم من
الجنّ والإنس، ثمّ قال:
هل لي من توبة؟ فقال له:
"نعم إن تبت تاب الله
عليك، وأنت معنا". فقال:
أنا تائب. فبلغ يزيد بن
معاوية حديث الشيخ، فأمر
به فقتل.
ثمّ أدخل ثقل الحسين عليه
السلام ونساؤه ومن تخلّف
من أهله على يزيد، وهم
مقرّنون في الحبال، فلمّا
وقفوا بين يديه، وهم على
تلك الحال قال له عليّ بن
الحسين: "أنشدك الله يا
يزيد، ما ظنّك برسول الله
صلى الله عليه واله وسلم
لو رآنا على هذه الصفة"؟!
فأمر يزيد بالحبال فقطعت
12...
وضمن تلك الأحداث
المفجعة، وفي ذلك الموقف
الرهيب، دعا يزيد
بالخاطب، وأمره أن يصعد
المنبر فيذمّ الحسين
وأباه، فصعد وبالغ في ذمّ
أمير المؤمنين عليّ بن
أبي طالب والحسين الشهيد،
والمدح لمعاوية ويزيد،
فصاح به عليّ بن الحسين
عليه السلام :
"ويلك
أيّها الخاطب، اشتريت
مرضاة المخلوق بسخط
الخالق، فتبوّأ مقعدك من
النّار"13...
ثمّ قال عليّ بن الحسين:
"يا يزيد، ائذن لي حتّى
أصعد هذه الأعواد،
فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ
رضا، ولهؤلاء الجلساء
فيهنّ أجر وثواب"، فأبى
يزيد عليه ذلك، فقال
الناس: يا أمير المؤمنين،
وما قدر ما يحسن هذا!
فقال: إنّه من أهل بيت قد
زقّوا العلم زقّ، فلم
يزالوا به حتّى أذن له،
فصعد المنبر فحمد الله
وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبة
أبكى منها العيون، وأوجل
منها القلوب، فقال:"أيّها
الناس أُعطينا ستّاً
وفُضّلنا بسبع، أعطينا
العلم والحِلم والسماحة
والفصاحة والشجاعة
والمحبّة في قلوب
المؤمنين، وفُضّلنا بأنّ
منّا النبيّ المختار
محمّد، ومنّا الصدّيق
ومنّا الطيّار، ومنّا أسد
الله وأسد رسوله، ومنّا
سبطا هذه الأمّة، من
عرفني فقد عرفني، ومن لم
يعرفني أنبأته بحسبي
ونسبي. أيّها الناس أنا ابن
مكّة ومنى، أنا ابن زمزم
والصف، أنا ابن من حمل
الركن بأطراف الرد، أنا
ابن خير من اتّزر وارتدى،
أنا ابن خير من انتعل
واحتفى، أنا ابن خير من
طاف وسعى، أنا ابن خير من
حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل
على البراق في الهواء،
أنا ابن من أُسري به من
المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى، أنا ابن من بلغ
به جبرئيل سدرة المنتهى،
أنا ابن من دنا فتدلّى،
فكان قاب قوسين أو أدنى،
أنا ابن من صلّى بملائكة
السماء، أنا ابن من أوحى
إليه الجليل ما أوحى، أنا
ابن محمّد المصطفى، أنا
ابن عليّ المرتضى، أنا
ابن من ضرب خراطيم الخلق
حتّى قالوا لا إله إلّا
الله، أنا ابن من ضرب بين
يدي رسول الله بسيفين،
وطعن برمحين، وهاجر
الهجرتين، وبايع
البيعتين، وقاتل ببدرٍ
وحنين، ولم يكفر بالله
طرفة عين، أنا ابن صالح
المؤمنين، ووارث
النبيّين، وقامع
الملحدين، ويعسوب
المسلمين، ونور
المجاهدين، وزين
العابدين، وتاج
البكّائين، وأصبر
الصابرين، وأفضل القائمين
من آل ياسين رسول ربّ
العالمين، أنا ابن
المؤيّد بجبرئيل، المنصور
بميكائيل، أنا ابن
المحامي عن حرم المسلمين،
وقاتل المارقين والناكثين
والقاسطين، والمجاهد
أعداءه الناصبين، وأفخر
من مشى من قريش أجمعين،
وأوّل من أجاب واستجاب
لله ولرسوله من المؤمنين،
وأوّل السابقين، وقاصم
المعتدين، ومبيد
المشركين، وسهم من مرامي
الله على المنافقين،
ولسان حكمة العابدين،
وناصر دين الله، وولي أمر
الله، وبستان حكمة الله،
وعيبة علمه، سمح سخيّ
بهيّ، بهلول زكيّ، أبطحيّ
رضيّ، مقدام همّام، صابر
صوّام، مهذّب قوّام، قاطع
الأصلاب، ومفرّق الأحزاب،
أربطهم عنان، وأثبتهم
جنان، وأمضاهم عزيمة،
وأشدّهم شكيمة، أسدٌ
باسل، يطحنهم في الحروب،
إذا ازدلفت الأسنّة،
وقربت الأعنّة، طحن
الرحى، ويذروهم فيها ذرو
الريح الهشيم، ليث الحجاز
وكبش العراق، مكّيٌّ
مدنيّ، خيفيٌّ عقبيّ،
بدريٌّ أُحديّ، شجريٌّ
مهاجريّ، من العرب
سيّده، ومن الوغى ليثه،
وارث المشعَرين، وأبو
السبطين: الحسن والحسين،
ذاك جدّي عليّ بن أبي
طالب".
ثمّ قال: "أنا ابن فاطمة
الزهراء، أنا ابن سيّدة
النساء، أنا ابن خديجة
الكبرى، أنا ابن المقتول
ظلم، أنا ابن المحزوز
الرأس من القف، أنا ابن
العطشان حتّى قضى، أنا
ابن طريح كربل، أنا ابن
مسلوب العمامة والرد،
أنا ابن من بكت عليه
ملائكة السم، أنا ابن من
ناحت عليه الجنّ في
الأرض، والطير في الهواء،
أنا ابن من رأسه على
السنان يُهدى، أنا ابن من
حرمه من العراق إلى الشام
تُسبى. أيّها الناس، إنّ الله
تعالى وله الحمد، ابتلانا
أهل البيت ببلاء حسن، حيث
جعل راية الهدى والعدل
والتقى فين، وجعل راية
الضلالة والردى في
غيرنا".
فلم يزل يقول: أنا..
أنا.. حتّى ضجّ الناس
بالبكاء والنحيب، وخشي
يزيد- لعنه الله- أن يكون
فتنة، فأمر المؤذّن، فقطع
عليه الكلام.
فلمّا قال المؤذّن: الله
أكبر الله أكبر، قال عليّ
عليه السلام : "لا شيء
أكبر من الله"، فلمّا
قال: أشهد أن لا إله إلّا
الله، قال عليّ بن
الحسين: "شهد بها شعري
وبشري ولحمي ودمي"، فلمّا
قال المؤذّن: أشهد أنّ
محمّداً رسول الله، التفت
من فوق المنبر إلى يزيد،
فقال: "محمّد هذا جدّي أم جدّك
يا يزيد؟ فإن زعمت أنّه
جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن
زعمت أنّه جدّي فلمَ قتلت
عترته"؟
فلم يجبه يزيد.14..
ولبث الإمام وحرمه
أيّاماً في الشام، إلى أن
عادوا إلى مدينة جدّهم،
بعد مرورهم على كربلاء..
وعن أبي عبد الله عليه
السلام، قال: لمّا قدم
عليّ بن الحسين، وقد قتل
الحسين بن عليّ صلوات
الله عليهما، استقبله
إبراهيم بن طلحة بن عبيد
الله، وقال: يا عليّ بن
الحسين، من غلب؟ وهو
مغطّى رأسه، وهو في
المحمل. قال: فقال له
عليّ بن الحسين:
"إذا
أردت أن تعلم من غلب،
ودخل وقت الصلاة، فأذّن
ثمّ أقم"15.
* سيد البكائين، سلسلة مجالس العترة، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الكلينيّ: الكافي ج
1 ص 303.
2- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 114.
3-الطبريّ: تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 316.
4-هامش كامل الزيارات لابن قولويه القمّي ص 445.
5-الطوسيّ: الأماليّ ص 91.
6-الكوفيّ ابن أعثمّ: الفتوح ج 5 ص 123، ابن طاووس: الملهوف على قتلى الطفوف ص 202.
7- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال للكشّي ج 2 ص 764.
8- الشورى: 23.
9-الاسراء:26
10- الأنفال: 41.
11- الأحزاب: 33.
12- ابن طاووس: الملهوف على قتلى الطفوف ص 213.
13- المصدر السابق ص 219.
14-سبهر محمّد تقيّ: ناسخ التواريخ، ترجمة وتحقيق سيّد عليّ جمال أشرف ج 3 ص 100،
عن المجلسيّ في بحار الأنوار ج 45 ص 137.
15- الطوسيّ: الأماليّ ص 677.