الحياة السياسية والفكرية
الحياة السياسية
في نظرةٍ سريعة إلى عصر الإمام زين العابدين عليه السلام، بدءاً باستلامه لمهام الإمامة بعد استشهاد أبيه عليه السلام في العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة، نلاحظ معاصرته لحكومة يزيد التي انتهت بهلاكه عام 64 هجرية ثم حكومة مروان...
عدد الزوار: 229
الإمام السجاد عليه السلام وانحراف الحكام
في نظرةٍ سريعة إلى عصر الإمام زين العابدين عليه السلام، بدءاً باستلامه لمهام
الإمامة بعد استشهاد أبيه عليه السلام في العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة، نلاحظ
معاصرته لحكومة يزيد التي انتهت بهلاكه عام 64 هجرية ثم حكومة مروان البالغة تسعة
أشهر في الشام وحكومة ابن الزبير في مكة، حيث بويع لعبد الملك بن مروان بعد هلاك
أبيه عام 65 هجرية. وقد استمر التنافس بين ابن الزبير وعبد الملك حتى عام 73 هجرية
حيث قُتل ابن الزبير وخلا كرسي الحكم لعبد الملك حتى سنة 86 هجرية، ثم بويع للوليد
بعد هلاك عبد الملك، واستمر حكمه حتى استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام سنة
94 أو 95 هجرية.
إذاً، فترة حكم عبد الملك هي أطول فترة عاصرها الإمام عليه السلام، حيث تبلغ عقدين
من الزمن تقريباً. وقد اجتمعت في هذا العصر عدة عوامل لانهيار الحزب الأموي الحاكم.
ولكنا نلاحظ استمرار الأمويين في الحكم حتى عام 132 هجرية. فما هي الأسباب التي أدت
إلى دوام هذا الحكم الجاهلي المنحرف بالرغم من توفر عناصر الهدم والانهيار؟
هنا لا بد أن ندرس كلاً من عوامل الانهيار وعوامل الدوام، ثم نقارن بين المجموعتين
لنرى الأسباب الواقعية التي وقفت وراء استمرار الحكم الأموي لمدة تناهز سبعة عقود
بعد ثورة الإمام الحسين عليه السلام. ومن خلالها نقف على طبيعة الظروف الدينية
والثقافية والسياسية والاقتصادية التي اتصف بها عصر الإمام زين العابدين عليه
السلام.
عوامل انهيار الحكم الأموي زمن السجاد عليه السلام
1- ثورة الإمام الحسين عليه السلام
استطاعت الثورة الحسينية كشف زيف الأقنعة الدينية التي كان يتقنع بها الحكم الأموي
الجاهلي. واتضح لكل القطاعات زيف الشعارات الدينية التي يرفعها الحكام. وانكشف
للغافلين أيضاً أن الإمام الحسين عليه السلام لو كان طالب ملك لكان بايع يزيد أولاً
ثم كان لينتهز الفرصة ويستخدم أنواع الأساليب الملتوية للتسلق إلى الحكم ثانياً.
وقد أحيت الملحمة الحسينية في سنة 61هـ روح الإباء والعزة والكرامة لدى المسلمين.
وتجلت هذه الحقيقة في المعارضة الدموية المستمرة التي تمثلت في الثورات المتتالية
حتى إسقاط الحكم الأموي وتصفيته سنة 132هـ.
2-حركة الإمام السجاد عليه السلام وعقائل الرسالة
لقد كانت خُطب الإمام زين العابدين عليه السلام وعمته السيدة زينب عليه السلام في
كربلاء والكوفة والشام والمدينة ـ أهم حواضر العالم الإسلامي ـ تشكل الدور الثاني
والمكمل للثورة الحسينية، لأنه لولا هذه الخطب الفاضحة للحكم الأموي والمفسرة
لأبعاد ومعالم الثورة الحسينية والكاشفة عن حقيقتها لكانت شعارات الأمويين المضللة
قضت على أهداف هذه الثورة العظيمة.
3- انهيار الحكم السفياني وانشقاق البيت الأموي
هلك يزيد سنة 64هـ بعد أن ارتكب الفضائح العظام التي تمثلت أولاً بقتله للإمام
الحسين عليه السلام ثم استباحته لمدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقتل
الصحابة والتابعين فيها سنة 62هـ. ثم هدمه الكعبة واستباحتها سنة 63هـ.
ولم يكن ابنه معاوية على استعداد لأن يتحمل وِزر بني أمية في اغتصاب منصب الخلافة،
فلم يستخلف أحداً، وأدان معاوية الأول وأباه يزيد بن معاوية. وبهذا انهار الحكم
السفياني. وكاد أن يتبعه الأموي لولا تدارك مروان بن الحكم للأمر وتخطيطه لاستلام
الخلافة في هذا الظرف المضطرب بعد موت معاوية بن يزيد حيث بايع لابنه عبد الملك،
وحاول السيطرة على مصر والشام وهكذا أخذ البيت الأموي بالانشقاق والتصدع.
ولعل مسارعة آل مروان إلى الوثوب على الملك بعد آل أبي سفيان كانت تدبيراً هدفه
امتصاص النقمة بعد جريمة الطف لإطالة عمر الدولة الأموية. وقد يجد الباحث في كلمات
المروانيين ما يلمح إلى ذلك إضافة إلى ظروف وفاة معاوية بن يزيد...
عوامل استمرار الحكم الأموي
استفاد الأمويون المروانيون من تجربة يزيد الفاشلة، والتي أبادت حكومته بسبب هتكه
لحرمات الشريعة وتنكيله بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بالإضافة إلى
انكشاف حقيقة الحكم الأموي الجاهلي بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.
ومن هنا كان لا بد للأمويين من المقاومة أمام هذين العنصرين المؤديين إلى الانهيار،
ولذا عملوا نحو تحقيق غطاء شرعي ولو مزيف ليستند إليه الحكم، وكذلك إضعاف عنصر
الحماس والجهاد بين أبناء المجتمع، وإليك صورة موجزة عن كل واحد من هذه الأسباب:
أ- الغطاء الشرعي للحكم المنحرف:
يتمثل الغطاء الشرعي في مفردتين أساسيتين:
1- وعاظ السلاطين: استخدم الحكم الأموي بعض العلماء للتعاون معهم وتوجيه خططه
وسلوكه مثل محمد بن مسلم بن شهاب (الزهري) والشعبي.
وكان لارتباط مثل هؤلاء بالسلطة دور إيجابي في إسباغ الطابع الشرعي على الحكم
القائم.
2- مفاهيم عقائدية ودينية خاطئة: مثل مفاهيم الجبر وحرمة الخروج على الحاكم المسلم
وإسباغ طابع القدسية على الحاكم والسلطان وحرمة ترك الجماعة...
ب- عدم التعرض المباشر والصريح لأهل البيت عليهم السلام
استعمل عبد الملك بن مروان سياسة مرنة تجاه الإمام زين العابدين عليه السلام
والهاشميين من جهة بينما شدد على أتباعهم من جهة أخرى وذلك امتصاصاً للنقمة ضد
حكمه.
وقد أرسل عبد الملك إلى الحَجاج كتاباً جاء فيه: "أما بعد، فانظر دماء بني عبد
المطلب فاحتقنها واجتنبها فإني رأيت آل أبي سفيان لما ولغوا فيها لم يلبثوا إلا
قليلاً"1.
ج- تفتيت جبهة المعارضة
وذلك من خلال عدة وسائل وقنوات منها:
1- الرقابة التامة والضغط الشديد الموجه إلى مراكز التحرك مثل الكوفة والمدينة، وهي
مراكز الولاء لآل البيت عليهم السلام.
2- الضغط الاقتصادي وسياسة التجويع، فقد سلط عبد الملك الحَجاج على شيعة آل البيت
عليهم السلام فقتلهم شر قتلة وأخذهم بكل ظِنة وتهمة حتى أن الرجل كان أحب إليه أن
يقال له زنديق أو كافر من أن يقال له شيعة علي عليه السلام.
وهكذا استطاع الحكام المنحرفون بالرغم من توفر عوامل الانهيار أن يستمروا في الحكم
أكثر من سبعة عقود، حتى تغلبت عناصر الهدم على عناصر البناء واستطاع أئمة أهل البيت
عليهم السلامأن يزيلوا الغطاء الشرعي الذي اصطنعه الظالمون لأنفسهم، من خلال تعرية
الوعاظ أمام الناس والرد على المفاهيم الدينية الخاطئة وتقوية شيعتهم ثقافياً
واجتماعياً واقتصادياً، حتى بلغ الأمر أن يتجه العباسيون لاستلام السلطة تحت شعار
الدفاع عن مظلومية أهل البيت عليهم السلاموكسب رضاهم، وفي هذا دلالة واضحة على عظمة
الدور الذي قام به الأئمة المعصومون عليهم السلام.
معالم التخطيط في سيرة الإمام السجاد عليه السلام
كانت المهام الأساس لأهل بيت الرسالة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي صيانة
الرسالة والأمة والدولة الإسلامية من الضياع. وهذا ما يكشف عظمة الدور الذي قام به
أهل البيت عليهم السلام في الظروف الحرجة. ولولا صبرهم وجهادهم لما اندحر الباطل
القابع تحت ستار الشعارات الإسلامية البراقة. وكذلك لولا الحكمة والتخطيط الدقيق
لما حصلت هذه النتائج الباهرة.
وإذا استطعنا أن نصنف سلوك أهل البيت عليهم السلام لمعالجة الانحراف الذي أصاب
المجتمع والدولة والشريعة، فإننا سوف نلاحظ نوعاً من المرحلية في العلاج المستمر،
إلى جانب نوع من العلاج المشترك الذي التزم به كل الأئمة عليهم السلاموعلى طول الخط
الجهادي الذي قطعوه خلال ثلاثة قرون تقريباً.
وكانت المرحلة الأولى من العلاج، حين كان الانحراف طافياً على السطح، لم يأخذ طريقه
باتجاه الأعماق والجذور. وتتمثل هذه المرحلة في كشف الانحراف وبيان مصاديقه. وكان
يكفي بيان أحقية أهل البيت عليهم السلامبالخلافة وعدم شرعية المتربعين على كرسيها.
وتجسد هذا العلاج في سيرة الأئمة الأربعة، علي بن أبي طالب عليه السلام، والحسن
والحسين عليهما السلام، والمقطع الأول من حياة الإمام زين العابدين عليه السلام.
ولكن بعد تجذر الانحراف واتساع دائرته من خلال استمرارية الحكم المنحرف، وتسلح
الحكام بالغطاء الشرعي المزيف، كان لا بد لأهل البيت عليهم السلاممن تخطيط يتناسب
مع هذه المرحلة. وبداية هذه المرحلة هي العقود الثلاثة الأخيرة من حياة الإمام زين
العابدين عليه السلام، والتي كانت بعد زوال الحكم السفياني وبداية استفحال الحكم
المرواني الذي عمل أيضاً على إيجاد غطاء شرعي يقبع تحته. وقد قام بعض أهل العلم من
رواة وفقهاء العامة ـ وممن عُرفوا فيما بعد بوعاظ السلاطين ـ بدور مهم لإيجاد هذا
الغطاء الشرعي في نظر عامة المسلمين، وحققوا بذلك غرضين كبيرين هما:
الأول: منح الشرعية للحاكمين.
الثاني: محاولة عزل أبناء الأمة الإسلامية عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
متطلبات مرحلة الإمام السجاد عليه السلام
إن المرحلة التي عاشها الإمام علي بن الحسين عليه السلام اقتضت العمل على إحباط
المؤامرة الكبيرة المتمثلة بالغرضين المتقدمين.
ومن هنا نفهم لماذا تركزت جهود الأئمة عليهم السلام بعد استشهاد الإمام الحسين عليه
السلام على بناء جامعة أهل البيت عليهم السلام العلمية وتخريج علماء وفقهاء أتقياء
يكونون أمناء على الشريعة؛ لا يهادنون السلطة ولا يسيرون في ركابها ويشكلون تياراً
علمياً وزخماً ثقافياً ومدرسةً ذات أصول ومناهج ورموز في شتى ميادين المعرفة
الإسلامية. وكانت أولى نتائج هذا الجهد: صيانة الشريعة الإسلامية من أنواع التحريف
الذي بدأ يتسرب إليها.
يقول الشهيد الصدر: "كان لا بد من عمل على الصعيد العلمي يؤكد في المسلمين أصالتهم
الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدة من الكتاب والسنة. وكان لا بد من
حركة فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الإطار... كان لا بد إذن من تأصيل
للشخصية الإسلامية، ومن زرع بذور الاجتهاد.
وهذا ما قام به الإمام علي بن الحسين عليه السلام؛ فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في
مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحدث الناس بصنوف المعرفة الإسلامية، من تفسير
وحديث وفقه، ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين عليه السلام... وقد تخرج من هذه
الحلقة عدد مهم من فقهاء المسلمين. وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأ بعد ذلك من
مدارس الفقه والأساس لحركته الناشطة"2.
الإمام السجاد ومواجهة المسخ الثقافي والأخلاقي
تميز عصر الإمام زين العابدين عليه السلام بالانفتاح على الحضارات الأخرى ودخول
الأفواج الكبيرة في رحاب الدولة الإسلامية المترامية الأطراف والفتوحات ذات الغنائم
والمكاسب المادية الكثيرة المؤدية بسوء استغلالها إلى المسخ الثقافي والأخلاقي
بالتدريج.
فكانت المرحلة تتطلب من الإمام عليه السلام أن يقف أمام هذا المسخ الخطير. وكانت
جهوده العلمية والتربوية هي الحصن المنيع أمام ذلك.
وأما مواجهة المسخ الأخلاقي فكانت تتطلب جُهداً من نوع آخر توجه إليه الإمام عليه
السلام ووجه إليه الأمة بشكلٍ عام، والجماعة الصالحة بشكل خاص. ومن هنا برزت في
مدرسة أهل البيت عليهم السلام ظاهرة الدعاء التي ميزتها عن سائر المدارس الإسلامية.
وقد شعر الإمام علي بن الحسين عليه السلام بالخطر الكبير فبدأ بعلاجه بما أمكنه في
تلك الظروف. واتخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج، فكانت الصحيفة السجادية من نتاج
ذلك. وقد استطاع عليه السلام بما أُوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على أساليب
التعبير العربي وذهنية ربانية تتفتق عن أروع المعاني وأدقها أن يصور صلة الإنسان
بربه وخالقه وتعلقه بمبدئه ومعاده، وتجسيد ما يعبر عن ذلك من قيم خلقية وحقوق
وواجبات. ونشر من خلال الدعاء جواً روحياً في المجتمع الإسلامي ساهم في تثبيت
الإنسان المسلم عندما عصفت به المغريات وشده إلى ربه حينما جرته الأرض إليها.
وقد جاء في سيرته عليه السلام أنه كان يخطب الناس في كل جمعة ويعظهم ويزهدهم في
الدنيا ويرغبهم في أعمال الآخرة.
وهكذا تعرف أن الصحيفة السجادية تعبر عن عمل اجتماعي عظيم، كانت ضرورة المرحلة
تفرضه على الإمام عليه السلام إضافة إلى كونها تراثاً ربانياً فريداً، يظل على مدى
الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب، وتظل الإنسانية بحاجة إلى هذا
التراث المحمدي العلوي، وتزداد الحاجة إليه كلما ازداد الشيطان إغراءً والدنيا
فتنةً.
مدرسة الإمام السجاد عليه السلام
أشرنا إلى أن انفتاح المسلمين في عصر الإمام السجاد عليه السلام على ثقافات متنوعة
وأعراف مختلفة للشعوب التي دخلت في الإسلام أدى إلى خطر التأثر
بهذه الأعراف. كما أن الحكومة الأموية من أجل إحكام سيطرتها على رقاب
المسلمين سارت في خط إماتة الوعي ومحاربة العلم وإنشاء مذاهب أو تيارات عقيدية
تنتهي إلى الجمود الفكري والركود العلمي بالتدريج.
من هنا قام الإمام زين العابدين عليه السلام بتأسيس مدرسة علمية وإيجاد حركة فكرية
اجتهادية تفتح الآفاق الذهنية للمسلمين، وذلك بما بدأه من حلقات البحث والتدريس في
مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبما كان يُثيره في خطبه في صلوات الجُمَع
أسبوعياً.
وقد تخرج من هذه الحلقات عدد كبير من فقهاء المسلمين، يحمل وعي الإمام وروحه وعلمه.
وكانت هذه الحلقات هي المنطلَق لما نشأ بعد ذلك من مدارس فقهية وشخصيات علمية.
والتف حوله عليه السلام القراء والفقهاء والعلماء بنحوٍ لا نجد له نظيراً في غيره
من العصور، حتى قال سعيد بن المسيب: "إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج
علي بن الحسين عليه السلام فخرج وخرجنا معه ألف راكب"3.
وقام الإمام عليه السلام بأداء دور مهم في ميدان الإصلاح الثقافي أيضاً فتصدى لنشر
حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم متحدياً لحظر السلطة، ودعا إلى العمل بالسنة
الشريفة واهتم بتدريس القرآن وتفسيره وحفظه وإكرام حملته، وشيد قواعد التوحيد
الإلهي وأجاب عن الشبهات التي كان يثيرها دعاة الجبر والتجسيم والتشبيه والإرجاء.
ولما كانت غاية الحكام إقصاء أئمة أهل البيت عليهم السلام عن الإمامة والحاكمية
والولاية ونفي إمامتهم الدينية، أعلن الإمام السجاد عليه السلام عن إمامة نفسه بكل
وضوح وصراحة ومن دون أية تقية وخفاء، واهتم بإرشاد الناس إلى هذا المعين الصافي
للشريعة.
قال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي: قال لي علي بن الحسين عليه السلام: "إلى مَن
يذهب الناس"؟ قال: قلت: يذهبون ها هنا وها هنا. قال عليه السلام: "قل لهم: يجيئون
إلي"4.
وقد خرجت مدرسة الإمام السجاد عليه السلام كوكبة من العلماء الكبار، منهم الفقهاء
والمفسرون، يعود الفضل إليهم في دفع عجلة الإحياء العلمي في ذلك العصر الرهيب، وفي
مقدمتهم الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام وأخواه زيد والحسين ابنا علي بن الحسين
عليهما السلام؛ وأبان بن تغلب الذي كان يقول له الإمام الباقر عليه السلام: "اجلس
في مسجد المدينة وافتِ الناس فإني أحب أن يُرى في شيعتي مثلك"5، وثابت
بن أبي صفية (أبو حمزة الثمالي)، وكانت الشيعة ترجع إليه في الكوفة لإحاطته بفقه
أهل البيت عليهم السلام حتى شُبه بسلمان الفارسي، ورشيد
الهجري الذي صلبه الأمويون لعقيدته وولائه، وأبو خالد الكابلي الذي كان باب الإمام
وموضع سره، وغيرهم كثير.
وحقق النشاط العلمي للإمام عليه السلام غاياته المتوخاة، فالمسجد النبوي الشريف
ودار الإمام عليه السلام شهدا طوال خمسة وثلاثين عاماً ـ وهي فترة إمامته ـ نشاطاً
فكرياً من الطراز الأول.
وكان انفراط عقد الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وتَشَتتُ قُواهم من
أعظم ما واجه الإمام السجاد عليه السلام لاستجماع القوى وتوسعة القاعدة الموالية
لأهل البيت عليهم السلام، وهذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي
وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب وبث العزم في النفوس.
وقد تمكن الإمام عليه السلام بحكمته وعمله الهادئ من تحقيق المراد. وكل هذا
يشير إلى تخطيط واضح في سلوك الإمام عليه السلام ولإيجاد حركة ثقافية واسعة
يتسنى لها أن تقف أمام التيارات المنحرفة والمخطط الأموي الذي يريد هدم أركان
الإسلام.
الخلاصة
اتسم عصر الإمام علي بن الحسين عليه السلام ـ والذي أعقب موجة الفتح الأولى ـ
بانفتاح الأمة الإسلامية على سائر الشعوب مما أدى إلى أن تواجه خطرين كبيرين: خطر
المسخ الثقافي وخطر الانهيار الأخلاقي.
كانت نشاطات الإمام عليه السلام متجهة إلى معالجة هذين الخطرين من خلال التأصيل
العلمي والثقافي والتربية الأخلاقية عن طريق ربط الإنسان بربه من خلال الدعاء.
يتلخص نشاط الإمام عليه السلام في كشف الأقنعة المزيفة التي قبع الحاكمون تحتها
مستغلين غطاءً دينياً من فقهاء السلطة ووعاظ السلاطين.
وكان نشاط الإمام عليه السلام التثقيفي والعلمي مدرسة حقيقية حتى أصبحت الأساس
الأول لمدرسة أهل البيت عليهم السلام وجامعتهم العلمية على مدى القرون حتى يومنا
هذا.
يعتبر خريجو مدرسة الإمام عليه السلام وصحابته وخاصته دليلاً آخر على عظمة النشاط
الذي مارسه الإمام عليه السلام إلى جانب الأنشطة العبادية والاجتماعية ذات الآثار
السياسية الحقيقية والأصيلة في المجتمع الإسلامي.
*
بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- بحار الأنوار، م.س: 46/130 - 146.
2- من مقدمة الشهيد الصدر على الصحيفة السجادية.
3- بحار الأنوار، م.س: 46/150.
4- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر: 41/365، تحقيق علي شيري، دار الفكر - بيروت.
5- مستدركات علم رجال الحديث، الشيخ علي النمازي الشاهرودي:1/86، مطبعة شفق -
طهران.