عصمة الأنبياء(ع) وتأويل ما يوهم خلاف ذلك
مقدمات عامة
قال الصدوق قدس الله ضريحه: اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة صلى الله عليه وآله وسلم أنهم معصومون مطهرون من كل دنس وأنهم لا يذنبون ذنبا صغير ولا كبير ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم...
عدد الزوار: 205
قال الصدوق قدس الله ضريحه: اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة صلى الله عليه وآله وسلم أنهم معصومون مطهرون من كل دنس وأنهم لا يذنبون ذنبا صغير ولا كبير ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم واعتقادنا فيهم أنهم موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم إلى أواخرها لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا جهل.
روى قدس الله رمسه في كتاب الأمالي بإسناده إلى أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات واليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد إل وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن الجهم فقال يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء قال بلى قال فما تعمل في قول الله عز وجل ﴿وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى وقوله عز وجل وذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وقوله في يوسف ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَم﴾َّ بِه وقوله في داود ﴿وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وقوله في نبيه محمد وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاه﴾ُ فقال مولانا الرضا عليه السلام ويحك يا علي اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تأول كتاب الله برأيك فإن الله عز وجل يقول وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ وأما قوله عز وجل وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده ولم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل فلما أهبط إلى الأرض جعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ وأما قوله عز وجل وذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ إنما ظن أن الله عز وجل لا يضيق عليه أ لا تسمع قول الله عز وجل ﴿وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ أي ضيق عليه ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر أما قوله عز وجل في يوسف ﴿وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَم﴾: بِها فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله فصرف الله عنه قتله والفاحشة وهو قوله ﴿كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشاء﴾َ يعني الزنى وأما داود فما يقولون من قبلكم فيه فقال علي بن الجهم يقولون إن داود كان في محرابه يصلي إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور فقطع صلاته وقام ليأخذ الطير فخرج الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان فاطلع داود في أثر الطير فإذا امرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواه وكان أوريا قد أخرجه في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام الحرب فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب الثانية أن قدمه أمام التابوت فقتل أوريا رحمه الله وتزوج داود بامرأته قال فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته وقال إنا لله وإنا إليه راجعون ولقد نسبتم نبيا من الأنبياء إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل.
فقال يا ابن رسول الله فما كانت خطيئته فقال ويحك إن داود إنما ظن أن الله لم يخلق خلقا هو أعلم منه فبعث الله إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا ﴿خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ ولا تُشْطِطْ واهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيه وعَزَّنِي فِي الْخِطابِ فعجل داود على المدعى عليه فقال لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِه﴾ِ ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول ما يقول فقال هذه خطيئة حكمه لا ما ذهبتم إليه أ لا تسمع قول الله عز وجل ﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ..﴾.الآية فقلت يا ابن رسول الله فما قصته مع أوريا فقال الرضا عليه السلام إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعله وقتل لا تتزوج بعده أبد وأول من أباح الله عز وجل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود فذلك الذي على أوري وأما محمد وقول الله عز وجل ﴿وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ﴾ فإن الله عز وجل عرف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أزواجه في دار الدني وأسماء أزواجه في الآخرة وإنهن أمهات المؤمنين وأحد من سمى له زينب بنت جحش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى صلى الله عليه وآله وسلم اسمها في نفسه ولم يبد له لكيلا يقول أحد من المنافقين إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين وخشي قول المنافقين قال الله عز وجل ﴿وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاه﴾ُ في نفسك وإن الله عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم عليه السلام وزينب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة من علي عليه السلام قال فبكى علي بن الجهم وقال يا ابن رسول الله أنا تائب إلى الله عز وجل ولن أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا إلا بما ذكرته.
أقول: قوله عليه السلام وكانت المعصية من آدم في الجنة ظاهره تجويز الخطيئة على آدم عليه السلام على بعض الجهات إما لأن المعصية منه كانت في الجنة والعصمة تكون في الدني ولأنها كانت قبل البعثة وإنما تجب عصمتهم بعد النبوة وكلاهما خلاف ما أجمع عليه علماؤن ودلت عليه أخبارنا.
و من ثم قال شيخنا المحدث أبقاه الله تعالى يمكن أن يحمل كلامه عليه السلام على أن المراد من المعصية ارتكاب المكروه ويكونون بعد البعثة معصومين عن مثلها أيض ويكون ذكر الجنة لبيان كون النهي للتنزيه والإرشاد لأن الجنة لم تكن دار تكليف حتى يقع فيها النهي التحريمي ويحتمل أن يكون المراد الكلام على هذا النحو لنوع من التقية مماشاة مع العامة لموافقة بعض أقوالهم وعلى سبيل التنزل والاستظهار ردا على من جوز الذنب على الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وأما ظن داود عليه السلام فيحتمل أن يكون ظن أنه أعلم أهل زمانه وهذ وإن كان صادقا إلا أنه لما كان مصادفا لنوع من العجب نبه الله تعالى بإرسال الملكين وأما تعجيله عليه السلام في حال المرافعة فليس المراد أنه حكم بظلم المدعى عليه قبل البينة إذ المراد بقوله لَقَدْ ظَلَمَكَ أنه لو كان كما تقول فقد ظلمك وكان الأولى أن لا يقول ذلك أيضا إلا بعد وضوح الحكم.
معاني الأخبار مسندا إلى رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل في قصة إبراهيم ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ قال ما فعله كبيرهم ولا كذب إبراهيم عليه السلام لأنه قال ﴿فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ﴾ إن نطقوا فكبيرهم فعل وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم فما نطقو وما كذب إبراهيم فقلت قوله عز وجل في يوسف ﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ﴾ قال إنهم سرقوا يوسف من أبيه أ لا ترى أنه قال لهم حين قال ما ذا ﴿تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ﴾ ولم يقل سرقتم صواع الملك إنما عنى سرقتم يوسف من أبيه فقلت قوله ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ قال ما كان إبراهيم سقيم وما كذب إنما كان سقيما في دينه مرتادا.
و قد روي أنه عنى بقوله ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ أي: سأسقم وكل ميت سقيم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ﴾ أي ستموت.
و قد روي: أنه عنى ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ بما يفعل بالحسين بن علي عليه السلام.
و في تفسير علي بن إبراهيم سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قول إبراهيم هذا رَبِّي لغير الله هل أشرك في قوله هذا رَبِّي قال: من قال هذا اليوم فهو مشرك ولم يكن من إبراهيم شرك وإنما كان في طلب ربه وفي قوله ﴿ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ﴾ قال إبراهيم لأبيه إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك فلما لم يدع الأصنام تبرأ منه.
عيون الأخبار مسندا إلى علي بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى عليه السلام فقال له المأمون يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون قال بلى قال فما معنى قول الله عز وجل ﴿وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ فقال عليه السلام إن الله تبارك وتعالى قال لآدم عليه السلام ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُم ولا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وأشار لهما إلى شجرة الحنطة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ولم يقل لهما كلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا من تلك الشجرة وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهم وأقسم لهما إني لكما من الناصحين ولم يكن آدم وحواء قد شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا ﴿فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ﴾ فأكلا منها ثقة بيمينه بالله وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به النار وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلما اجتباه الله عز وجل وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة قال الله عز وجل ﴿وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى وقال تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ﴾.
فقال له المأمون فما معنى قول الله عز وجل ﴿فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما﴾ فقال الرضا عليه السلام إن حواء ولدت لآدم خمسمائة بطن في كل بطن ذكر وأنثى وإن آدم وحواء عاهدا الله عز وجل ودعواه وقالا ﴿لَئِنْ آتَيْتَنا﴾ صالِحاً من النسل خلفا سويا بريئا من الزمانة والعاهة كان ما آتاهما صنفين صنفا ذكران وصنفا إناثا فجعل الصنفان لله تعالى شركاء فيما آتاهم ولم يشكراه كشكر أبويهما له عز وجل فتعالى الله عما يشركون.
فقال المأمون أشهد أنك ابن رسول الله حقا فأخبرني عن قول الله عز وجل في إبراهيم ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي﴾.
فقال الرضا إن إبراهيم وقع على ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ رَأى الزهرة فقال هذا ربي على الإنكار والاستخبار فلما أفل الكوكب قالَ ﴿لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ لأن الأفول من صفات الحدث لا من صفات القديم فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي على الإنكار والاستخبار ﴿فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ فلما أصبح ورأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر من الزهرة والقمر على الاستخبار لا على الإخبار والإقرار فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً مسلم وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وإنما أراد إبراهيم عليه السلام بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنما تحق العبادة لخالقه وخالق السماوات والأرض وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله عز وجل وآتاه ﴿وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ﴾.
فقال المأمون لله درك يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول إبراهيم ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ ولَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾.
قال الرضا عليه السلام إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام أني متخذ من عبادي خليلا إن سألني بإحياء الموتى أجبته فوقع في نفس إبراهيم عليه السلام أنه ذلك الخليل فقال ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ ولَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي على الخلة قال فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً واعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فأخذ إبراهيم نسر وبط وطاوس وديكا فقطعهن وخلطهن ثم جعل على كل جبل من الجبال التي حوله وكانت عشرة منهن جزء وجعل مناقيرهن بين أصابعه ثم دعاهن بأسمائهن ووضع عنده حب وماء فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه فخلى إبراهيم عليه السلام عن مناقيرهن فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب وقلن يا نبي الله أحييتنا أحياك الله فقال إبراهيم عليه السلام بل الله يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
قال المأمون بارك الله فيك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله عز وجل ﴿فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ﴾.
قال الرضا عليه السلام إن موسى عليه السلام دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهله وذلك بين المغرب والعشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فقضى موسى عليه السلام على العدو بحكم الله تعالى ذكره فمات فقال هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى عليه السلام من قتله ﴿ إِنَّهُ يعني الشيطان عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾.
قال المأمون فما معنى قول موسى ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾ قال يقول إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة فَاغْفِرْ لِي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي ﴿فيقتلوني فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ قالَ موسى ﴿رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ﴾ بل أجاهد في سبيلك بهذه القوة حتى ترضى فَأَصْبَحَ عليه السلام فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ على آخر قالَ لَهُ مُوسى ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ قاتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأودينك وأراد أن يبطش به ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُم وهو من شيعته قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ﴾.
قال المأمون جزاك الله خيرا يا أبا الحسن فما معنى قول موسى لفرعون ﴿فَعَلْتُها إِذاً وأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾.
قال الرضا عليه السلام إن فرعون قال لموسى لما أتاه ﴿وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بي﴾ قالَ موسى فَعَلْتُها إِذاً وأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد ﴿أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً﴾ فَآوى يقول أ لم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس ﴿وَ وَجَدَكَ ضَالًّا﴾ يعني عند قومك فَهَدى أي هداهم إلى معرفتك ﴿وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى﴾ يقول أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا.
قال المأمون بارك الله فيك يا ابن رسول الله فما معنى قول الله عز وجل ﴿وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِن وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي...﴾ الآية كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال.
فقال الرضا عليه السلام إن كليم الله موسى بن عمران علم أن الله تعالى عز أن يرى بالأبصار ولكنه لما كلمه الله تعالى وقربه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه فقالوا لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت وكان القوم سبعمائة ألف رجل اختار منهم سبعمائة ثم اختار من السبعمائة سبعين رجلا لميقات ربه فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى عليه السلام إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه فكلمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة وجعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ بأن الذي سمعناه كلام الله حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبرو وعتوا بعث الله صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا فقال موسى يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله إياك فأحياهم الله وبعثهم معه فقالوا إنك لو سألت الله أن يراك تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته فقال موسى يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه فقالوا لن نؤمن لك حتى تسأله فقال موسى عليه السلام يا رب إنك قد علمت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم فأوحى الله إليه يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى عليه السلام ﴿يا رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ولكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ وهو يهوي فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ بآية من آياته جَعَلَهُ دَكًّ وخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ يقول رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ﴿وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ منهم بأنك لا ترى.
فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله ﴿وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾.
فقال الرضا: لقد همت به ولو لا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت به لكنه كان معصوم والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه وقد حدثني أبي عن أبيه عن الصادق عليه السلام قال همت به بأن تفعل وهم بأن لا يفعل.
فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن.
فأخبرني عن قول الله عز وجل ﴿وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾.
قال الرضا عليه السلام ذاك يونس بن متى ذهب مغاضبا لقومه فظن بمعنى استيقن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه رزقه ومنه قوله تعالى ﴿وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ أي ضيق وقتر فَنادى فِي الظُّلُماتِ ظلمة الليل وظلمة البحر وبطن الحوت ﴿أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين﴾َ بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت فاستجاب الله له وقال عز وجل ﴿فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا﴾.
قال الرضا عليه السلام يقول الله حتى إذا استيئس الرسل من قومهم إن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن.
فأخبرني عن قول الله عز وجل ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ﴾.
قال الرضا عليه السلام لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما فلما جاءهم صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا ﴿أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُو واصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾.
فلما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال له يا محمد ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ﴾ عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عله إذا دعي الناس إليه فصار ذنبه في ذلك عندهم مغفورا بظهوره عليهم.
فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن ; فأخبرني عن قول الله عز وجل ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾.
قال الرضا عليه السلام هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة خاطب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأراد به أمته وكذلك قول الله عز وجل ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وقوله عز وجل ولَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا﴾.
قال صدقت يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول الله ﴿وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ﴾.
قال الرضا عليه السلام إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها سبحان الذي خلقك وإنما أراد بذلك تنزيه الله تعالى عن قول من زعم أن الملائكة بنات الله فقال الله عز وجل ﴿أ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيما﴾ً فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآها تغتسل سبحان الذي خلقك أن يتخذ ولدا يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته بمجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله لها سبحان الذي خلقك فلم يعلم زيد ما أراد بذلك وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله امرأتي في خلقها سوء وإني أريد طلاقها فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمسك عليك زوجك واتق الله وقد كان الله عز وجل عرفه عدد أزواجه وإنما تلك المرأة منهن فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد وخشي الناس أن يقولوا إن محمدا يقول لمولاه إن امرأتك ستكون لي زوجة فيعيبونه بذلك فأنزل الله عز وجل ﴿وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ﴾ ثم إن زيدا طلقه واعتدت منه فزوجها الله من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل بذلك قرآنا ﴿فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾.
ثم علم عز وجل أن المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل ﴿ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾.
فقال المأمون لقد شفيت صدري يا ابن رسول الله وأوضحت لي ما كان ملتبسا علي فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيرا.
قال علي بن محمد بن الجهم فقام المأمون إلى الصلاة وأخذ بيد محمد بن جعفر بن محمد وكان حاضر المجلس فتبعتهما فقال له المأمون كيف رأيت ابن أخيك فقال عالم ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم فقال المأمون إن ابن أخيك من أهل بيت النبي الذين قال فيهم إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغار وأعلم الناس كبارا لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلال وانصرف الرضا عليه السلام إلى منزله فلما كان من الغد غدوت إليه وأعلمته ما كان من قول المأمون وجواب عمه محمد بن جعفر له فضحك عليه السلام ثم قال يا علي بن الجهم لا يغرنك ما سمعته منه فإنه سيغتالني والله ينتقم لي منه.
قال الصدوق: هذا الحديث عجيب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم السلام.
أقول: هذا ليس بعجيب لأن الله سبحانه يجري الحق لأوليائه على ألسنة أعدائه في كثير من الأحوال وفي أغلب الأزمان.
و في كتاب الخصال مسندا إلى الأشعري رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: ثلاث لم يعر منها نبي فمن دونه الطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق.
قال الصدوق:و معنى الطيرة في هذا الموضع هو أن يتطير منهم قومهم فأما هم عليه السلام فلا يتطيرون وذلك كما قال الله عز وجل في قوم صالح قالُوا ﴿اطَّيَّرْنا بِكَ وبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وكما قال آخرون لأنبيائهم إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ...﴾ الآية.
و أما الحسد في هذا الموضع هو أن يحسدوا لا أنهم يحسدون غيرهم وذلك كما قال الله عز وجل ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ والْحِكْمَةَ وآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾.
و أما التفكر في الخلق فهو بلواهم عليهم السلام بأهل الوسوسة لا غير ذلك كما حكى الله عنهم من الوليد بن المغيرة المخزومي ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ يعني قال للقرآن إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾.
أقول: ما ذكره من التأويل حسن إلا أن في الكافي وغيره تتمة للحديث لا يحتمله وهي لكن المؤمن لا يظهر الحسد ومن ثم حمل جماعة من أهل الحديث على ما هو أعم من الغبطة وأن القليل منه إذا لم يظهر ليس بذنب والطيرة هي التشاؤم بالشيء وانفعال النفس بما يراه ويسمعه مما يتشاءم به ولا دليل على أنه لا يجوز ذلك على الأنبياء إذ ورد أنهم يتفاءلون بالشيء الحسن والمراد بالتفكر في الوسوسة في الخلق التفكر فيما يحصل في نفس الإنسان من الوساوس في خالق الأشياء وكيفية خلقه وخلق أعمال العباد والتفكر في الحكمة في خلق بعض الشرور في العالم من غير استقرار في النفس وحصول شك بسببه ويحتمل أن يكون المراد بالخلق المخلوقات وبالتفكر في الوساوس التفكر وحديث النفس بعيوبهم وتفتيش أحوالهم وفي الأخبار ما يؤيد الوجهين كما سيأتي وبعض أفراد هذا الأخير على الوجهين لا يستبعد عروضها لهم عليهم السلام هذا.
و اعلم أن الخلاف بين علماء الإسلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام يرجع إلى أربعة أقسام ما يقع في باب العقائد وما يقع في التبليغ وما يقع في الأحكام والفتي وما يقع في أفعالهم وسيرهم عليهم السلام.
أما الاعتقادات فهم منزهون عن الكفر والضلال فيما قبل النبوة وبعدها باتفاق الأمة غير أن الأزارقة من الخوارج جوزوا عليهم الذنب وعندهم كل ذنب كفر فيلزمهم تجويز الكفر عليهم بل يحكى عنهم أنهم قالوا يجوز أن يبعث الله نبي ويعلم أنه يكفر بعد نبوته.
و أما النوع الثاني وهو ما يتعلق بالتبليغ فقد اتفقت الأمة وأرباب الملل والشرائع على وجوب عصمتهم عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ عمد وسهوا إلا القاضي أبو بكر فإنه جوز ما كان من ذلك على سبيل النسيان وفلتات اللسان.
و أما النوع الثالث وهو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطأهم فيه عمد وسهوا إلا شرذمة قليلة من العامة.
و أما النوع الرابع وهو الذي يتعلق بأفعالهم فقد اختلفوا فيه على خمسة أقوال أولها قول أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم وهو نفي الذنب عنهم مطلقا الصغار والكبار والعمد والنسيان والسهو والإسهاء ولم يخالف فيه إلا الصدوق وشيخه محمد بن الحسن بن الوليد فإنهما جوزا عليهم الإسهاء من الله لا السهو من الشيطان وكذا القول في الأئمة الطاهرين عليهم السلام.
الثاني مذهب أكثر المعتزلة وهو أنه لا يجوز عليهم الكبائر ويجوز عليهم الصغائر إلا الصغائر الخسيسة المنفردة كسرقة حبة ولقمة وكل ما ينسب فاعله إلى الدناءة والضعة.
الثالث وهو مذهب أبي علي الجبائي أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة على جهة العمد لكن يجوز على جهة التأويل والسهو كما تقدم في حكاية آدم عليه السلام من أنه كان.
منه غلطا في التأويل لأنه ظن أنه نهي عن شخص الشجرة لا عن نوعها فتناول من غير التي نهي عن شخصها.
الرابع أنه لا يقع منهم الذنب إلا على طريق السهو والخطأ لكنهم مؤاخذون به وإن رفع حكمه عن الأمة لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم وقدرتهم على التحفظ وهو قول النظام ومن تبعه.
الخامس أنه يجوز عليهم الصغائر والكبائر عمد وسهو وخط وهو قول الحشوية وكثير من أصحاب الحديث من العامة ثم إنهم اختلفوا في وقت العصمة على ثلاثة أقوال الأول أنه من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله وهو مذهب الإمامية رضوان الله عليهم.
الثاني أنه من حين بلوغهم ولا يجوز عليهم الكفر والكبيرة قبل النبوة وهو مذهب كثير من المعتزلة.
الثالث أنه وقت النبوة وما قبله فيجوز صدور المعصية عنهم وهو قول أكثر الأشاعرة ومنهم الفخر الرازي وأما دلائلنا على ما صرنا إليه فهي وإن كانت متكثرة إلا أن العمدة فيها أخبارنا المتواترة وإجماعنا المقطوع به حتى إنه صار من ضروريات ديننا.
و قد ذكر سيدنا الأجل علم الهدى في الشافي وكتاب تنزيه الأنبياء عليهم السلام جملة من الدلائل والبراهين القاطعة من أراد الاطلاع عليها فليطلها من هناك1.
1 _النور المبين /المحدّث العلامة نعمة الله الجزائري.
2012-11-29