يتم التحميل...

البعد الاجتماعي للإسلام

المجتمع الإسلامي

صفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الإسلام في جميع ما يمكن أن يؤدي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والأحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع، وبحسب ما يمكن فيه من الأمر والحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معاً في بحثه...

عدد الزوار: 24

صفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الإسلام في جميع ما يمكن أن يؤدي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والأحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع، وبحسب ما يمكن فيه من الأمر والحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معاً في بحثه.

فالجهة الأولى: من الاختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيماً في الجهاد إلى حد يكفي لنجاح الدفاع وهذا نوع، وشرع وجوب الصوم والحج مثلاً للمستطيع غير المعذور ولازمه إجتماع الناس للصيام والحج وتمم ذلك بالعيدين: الفطر والأضحى، والصلاة المشروعة فيهما، وشرع وجوب الصلوات اليومية عينياً لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ، وهذا نوع آخر.

والجهة الثانية: ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة وألزم على الاجتماع في أمور أخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيماً كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة، غير أن السنة جرت على أدائها جماعة، وعلى الناس أن يقيموا السنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة: ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم. وهذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم وبأي قيمة حصلت.

وهذه أمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهي من الكتاب والسنة والمتصدي لبيانها الفقه الإسلامي.

وأهم ما يجب هاهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة أخرى، وهي اجتماعية الإسلام في معارفه الأساسية بعد الوقوف على أنه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الإعمال (العبادية والمعاملية والسياسية) ومن الأخلاق الكريمة ومن المعارف الأصلية.

نرى الإسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذي لا مرية فيه والآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الإيراد، وهذا أول التآلف والتآنس مع مختلف الأفهام فإن الأفهام على اختلافها وتعلقها بقيود الأخلاق والغرائز لا تختلف في أن "الحق يجب إتباعه".

ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة ولم تتضح له المحجة وإن قرعت سمعه الحجة قال تعالى: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ1.

وقال تعالى: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *  فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾2. أنظر إلى إطلاق الآية ومكان قوله: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، وهذا يعطي الحرية التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث والتنقير أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين ويتعمق في تفهمها والنظر فيها. على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث والترغيب في التفكر والتعقل والتذكر.


ومن المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثرة في اختلاف الأفهام من حيث تصورها وتصديقها ونيلها وقضائها، وهذا يؤدي إلى الاختلاف في الأصول التي بني على أساسها المجتمع الإسلامي.

إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضي به فن معرفة النفس وفن الأخلاق وفن الاجتماع يرجع إلى أحد أمور:

إما إلى اختلاف الأخلاق النفسانية والصفات الباطنة من الملكات الفاضلة والردية فإن لها تأثيراً وافراً في العلوم والمعارف الإنسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في الذهن فما إدراك الإنسان المنصف وقضاؤه الذهني كادراك الشموس المتعسف، ولا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول والمتعصب وصاحب الهوى والهمجي الذي يتبع كل ناعق والغوي الذي لا يدري أين يريد؟ ولا أنى يراد به، والتربية الدينية تكفي مؤونة هذا الاختلاف فإنها موضوعة على نحو يلائم الأصول الدينية في المعارف والعلوم، وتستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الأصول، وهي مكارم الأخلاق.

قال تعالى: ﴿... كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ3.

وقال تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ4.

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ5.

وانطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر.

وإما أن يرجع إلى اختلاف الأفعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي وأقسام التهوسات الانسانية ومن هذا القبيل أقسام الاغواء والوساوس يلقن الإنسان وخاصة العامي الساذج الأفكار الفاسدة ويعد ذهنه لدبيب الشبهات وتسرب الآراء الباطلة فيه وتختلف إذ ذاك الأفهام وتتخلف عن اتباع الحق ! وقد كفى مؤونة هذا أيضاً الإسلام حيث أمر المجتمع باقامة الدعوة الدينية دائماً أولاً، وكلف المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانياً، وأمر بهجرة أرباب الزيغ والشبهات ثالثاً: قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾6.

فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق وتقرها في القلوب بالتلقين والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ7.

ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذي فيه خوض في شيء من المعارف الإلهية والحقائق الدينية بشبهة أو أعتراض أو استهزاء ولو بنحو الاستلزام أو التلويح، ويذكر أن ذلك من فقدان الإنسان أمر الجد في معارفه، وأخذه بالهزل واللعب واللهو، وأن منشأه الاغترار بالحياة الدينا، وأن علاجه التربية الصالحة والتذكير بمقامه تعالى.

وإما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار وعدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الإنسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلاً صحيحاً كالجربزة والبلادة المستندتين إلى خصوصية المزاج وعلاجه تعميم التبليغ والإرفاق في الدعوة والتربية وهذان من خصائص السلوك التبليغي في الاسلام، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي8.
ومن المعلوم أن البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب وأنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين والمستمعين فلا يبذل أحداً إلا مقدار ما يعيه منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما رواه الفريقان: إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم، وقال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ9.

فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع وقد قرر الإسلام لمجتمعه دستوراً اجتماعياً فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدي إلى الفساد والانحلال فقد قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ10.

فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم ويحذرهم عن اتباع سائر السبل ليحفظهم عن التفرق ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق، ثم قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ11.

تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين ويرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلم فيستريحوا في كل حادث فكري أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم والتدبر فيها لحسم مادة الاختلاف، وقد قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا12.

وقال أيضاً: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾13. وقال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ14 فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاختلاف من البين.

وتدل على: أن الإرجاع إلى الرسول وهو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف ويبين لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ15.

وقريب منه قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾16.

وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً17.

فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الإسلام.

ومنه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الإلهية كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر، ويرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين ويجتهدوا في معارفه تفكراً واجتهاداً بالاجتماع والمرابطة، وإن حصلت لهم شبهة في شيء من حقائقه ومعارفه أو لاح لهم ما يخالفها فلا بأس به وإنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر في بحث اجتماعي، فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته، أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلاً، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ18.

...هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية، وأما تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الإنسان عنوة وقهراً والتوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتفكير والهجرة وترك المخالفة فحاشا ساحة الحق والدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده، وإنما هو خصيصة نصرانية، وقد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكماتها في هذا الباب ـ وخاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين ـ بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه. ولكن من الأسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها (الاجتماع الفكري وحرية العقيدة) كما سلبنا كثيراً من النعم العظام التي كان الله سبحانه أنعم علينا بها كما فرطنا في جنب الله ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ فحكمت فينا سيرة الكنيسة واستتبع ذلك أن تفرقت القلوب وظهر الفتور وتشتّت المذاهب والمسالك يغفر الله لنا ويوفقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم.

*قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم، العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي، دار الصفوة، ص56-63.


1- الأنفال:42.
2- النساء:98 ـ 99.
3- الأحقاف:30.
4- المائدة:16.
5- العنكبوت:69.
6- آل عمران:104.
7- الأنعام: 68 ـ 70.
8- يوسف: 108.
9- التوبة:122.
10- الانعام:153.
11- آل عمران:102 ـ 103.
12- النساء:82.
13- العنكبوت:43.
14- النحل:43.
15- النحل:44.
16- النساء:83.
17- النساء:59.
18- الزمر: 18.

2012-08-29