عالم ما بعد الموت باختصار
يوم القيامة
تَتّفِقُ جميعُ الشَرائعُ السَّماويّة في لزوم الاِيمان بالآخرة ووجوب الاِعتقاد بالقيامة، فقد تحدّث الاَنبياءُ جميعاً إلى جانب التوحيد عن المَعاد، وعالم ما بعد الموت أَيضاً. وجَعَلُوا الاِيمانَ باليوم الآخر في طليعة ما دَعَوا إليه. وعلى هذا الاَساس يكونُ الاِعتقاد بالقيامة من أركانِ الاِيمان في الاِسلام.
عدد الزوار: 381
يوم القيامة
تَتّفِقُ جميعُ الشَرائعُ السَّماويّة في لزوم الاِيمان بالآخرة ووجوب الاِعتقاد بالقيامة، فقد تحدّث الاَنبياءُ جميعاً إلى جانب التوحيد عن المَعاد، وعالم ما بعد الموت أَيضاً. وجَعَلُوا الاِيمانَ باليوم الآخر في طليعة ما دَعَوا إليه.
وعلى هذا الاَساس يكونُ الاِعتقاد بالقيامة من أركانِ الاِيمان في الاِسلام.
إنّ مسألةَ المعاد وإن طُرحَت في كتاب العهدين (التوراة والاِنجيل معاً) إلاّ أنّها طُرحت في العَهد الجديدِ بشكلٍ أوضح، ولكنّ القرآنَ الكريمَ إهتمّ بهذه المسألة أكثر من جميع الكتب السماوية الاَُخرى، حتى أنَّهُ اختص قسمٌ عظيمٌ من الآيات القرآنية بهذا الموضوع.
وقد أُطلق على المعاد في القرآن الكريم أسماءٌ كثيرة مثل: يومِ القيامة، يوم الحِساب، اليوم الآخر، يوم البعث وغير ذلك.
وعلّة كلّ هذا الاِهتمام والعِناية بمسألة القيامة هي أن الاِيمان والتديّن من دون الاِعتقاد بيوم القيامة غير مثمر.
ضرورة المعاد
لقد أقام الحكماء والمتكلّمون المُسلمون أدلّة عديدة ومتنوعة على ضرورة المعاد، وحياة ما بعد الموت، وفي الحقيقة كان القرآن الكريم هو مصدر الاِلْهام في جميع هذه الاَدلَّة.
من هنا فإننا نذكر بعضَ الدلائل القرآنية على هذه المسألة:
أ- إنّ الله تعالى حقٌ مطلقٌ، وفعلُهُ كذلك حقٌ، منزَّهٌ عن أي باطلٍ ولغوٍ. وخَلق الاِنسانِ من دونِ وجودِ حياةٍ خالدةٍ سيكون لغواً وعبثاً كما قال:﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْناكُم عَبَثاً وأنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾(المؤمنون:115).
ب- إنّ العدلَ الاِلَهيَّ يوجبُ أن لا يعامَل المحسنون والمسيئون في مقام الجزاءِ على شكلٍ واحدٍ.
ومن جانِبِ آخر انّه لا يمكن تحقّقُ العدالةِ الكاملةِ بالنسبة إلى الثَّوابِ والعِقاب في الحياة الدنيوية، لاَنّ مصيرَ كلا الفريقين في هذا العالم متداخِلَين وغير قابلَين للتفكِيك والفَصل.
ومن جهة ثالثة فإنّ لِبعض الاَعمال الصالِحة، والطالحة جزاءً لا يسع له نطاقُ هذا العالم.
فَمَثَلاً هناك من ضَحّى بنفِسِه في سَبِيل الحق، وهناك من خضّب الاَرض بدماء المؤمنين.
ولهذا لا بُدَّ مِن وجود عالمٍ آخر يتحقَّق فيه العدلُ الاِلَهيّ الكاملُ في ضوءِ الاِمكانات غير المتناهية. كما قال: ﴿أَم نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الاََرضِ أَم نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾(ص:28).
ويقولُ أيضاً: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾( يونس:4).
ج- إن خلقَ البشَر بَدَأَ في هذا العالمَ من ذَرّةٍ حقيرةٍ ثم ترقّى في مدارج الكمال الجسمي شيئاً فشَيئاً، حتى بَلغَ مرحلةً نُفِخَت فيها الرُّوح في جسمه.
وَقدْ وَصَفَ القرآنُ الكريمُ، خالقَ الكون بكونه "أحسنَ الخالقين" نظراً إلى تكميل خلقِ هذا الموجودِ المتميّز.
ثم إنّه ينتَقل بالمَوْت من مَنْزله الدنيويّ إلى عالمٍ آخر، يُعتَبَر كمالاً للمرحلة المتقدّمة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى إذ قال: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامةِ تُبْعَثُونَ﴾(المؤمنون:14ـ16).
جواب الشبهات المثارة حول المعاد
لقد طَرَحَ مُنكروا القيامة والمعاد في عصر نزول القرآن، شُبُهاتٍ ردّ عليها القرآن، ضمن توضيحه لاَدلّة وجود المعاد.
وفيما يلي بعضُ هذه الموارد
أ- تارةً يؤكّدُ القرآنُ الكريم على قدرة اللهِ المطلقة فيقول:﴿إِلى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾(هود:4).
ب- وتارةً يُذكّر بأنّ الذي يقدرُ على خَلق الاِنسان ابتداءً قادرٌ على إعادته، ولملمة رفاته، وإرجاع الروح إليه ثانية.
فهو مَثَلاً ينتقدُ قولَ المنكرين للمعاد قائلاً: (فَسَيَقولونَ مَن يُعيدُنا)؟
ثم يقول: ﴿قلِ الّذي فَطركم أوَّلَ مَرَّةٍ﴾(الاِسراء:51).
ج- وفي بَعضِ الموارد يُشَبِّهُ إحْياءَ الاِنسان بعدَ مَوْته بإعادةِ الحَياة إلى الاَرض في فَصْل الرَّبيع بعد رقدةٍ شتائيّة من جديدٍ وولوج الحياة في الطبيعة وعلى هذا يقيسُ المعادَ وعودةَ الرُّوح إلى الموتى قال تعالى: ﴿وَتَرى الاَرضَ هامِدَةً فَإذا أنْزَلْنا عَلَيها الماءَ اهتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأنْبَتَتْ من كلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذلِكَ بأنّ اللهَ هُوَ الحقُّ وأنّه يُحيي الموَتى وأنّه على كلّ شَيءٍ قَديرٌ * وأنّ الساعةَ آتِيةٌ لا رَيبَ فِيها وأنّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي القبُوُر﴾(الحج:5ـ7).
د- في الاِجابة على هذه الشُّبهة التي تقول "من يُحيي العِظام" وقد أصبحت رميماً، وَكَيف يَجمعُها وقد ضاعَت في الاَرض ويخلق منها جَسَداً كالجسد الاَول؟ يقولُ سبحانه: ﴿... بَلى وَهُو الخَلاّقُ العَلِيمُ﴾(يس:81).
وفي موضع آخَر يُخبرُ عَن ذلك العلم الواسع قائلاً: ﴿قدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الاََرضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيْظٌ﴾(ق:4).
هـ- ربّما يتصوّر أنّ الاِنسان يتألف من أجزاء جسمانية، وأعضاء مادّية تنحل بموته وتستحيل إلى تراب. فكيف يكون الاِنسان يوم القيامة هو عينه في الحياة الدنيا، وبعبارة أُخرى ما هي الصلة بين البدن الدنيوي والاَُخروي كي يحكم بوحدتهما؟
والقرآن ينقل تلك الشبهة عن لسان الكافرين ويقول: ﴿أَءِذَا ضَلَلنَا في الاََرضِ أَءِنَّا لفي خلقٍ جَديد﴾(السجدة:10).
ثُمّ يعود ويجيب عليها بقوله: ﴿قُلْ يَتَوّفاكُم مّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾(السجدة:11).
ويكمن حاصل الجواب في الوقوف على معنى "التوفّي" المأخوذ في الآية. الذي هو "الاََخذ"، وهو يعرب انّ للاِنسان وراء البدن الذي يبلى حين موته شيئاً آخر يأخذه ملك الموت وهي الروح، فحينها تتضح إجابة القرآن عن الشبهة.
وهي انّ ملاك وحدة البدنين والحكم بأنّ البدن الاَُخروي هو عين البدن الدنيوي مضافاً إلى وحدة الاَجزاء هي الروح المأخوذة من قبل ملك الموت، فإذا ولجت نفس الاَجزاء يكون المعاد عين المبتدأ.
فيستفاد من هذه الآية ونظائرها انّ الاِنسان المحشور يوم البعث هو عينه الموجود في نشأة الدنيا، قال سبحانه: ﴿قُلْ يُحْيِيها الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وُهَو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾(يس:79).
معاد الاِنسان هو جسماني وروحاني
صرّحت الآيات القرآنية والاَحاديث على أنّ معاد الاِنسان: جسماني وروحاني، ويراد من الاَوّل هو حشر الاِنسان ببدنه في النشأة الاَُخرى، وأنّ النفس الاِنسانية تتعلّق بذلك البدن في تلك النشأة فيثاب أو يعاقب بأُمور لا غنى في تحقّقها عن البدن والقوى الحسية.
ويراد من الثاني أنّ للاِنسان وراء الثواب والعقاب الحسيّين لذّات والآم روحيّة ينالها الاِنسان دون حاجة إلى البدن، وقد أُشير إلى هذا النوع من الجزاء في قوله سبحانه: ﴿وَرِضَوانٌ مِنَ اللهِ أَكَبرُ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾(التوبة:72)، وقال سبحانه: ﴿وأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الاَمْرُ وَهُمْ في غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾(مريم:39).
فرضوانه سبحانه من أكبر اللذائذ للصالحين، كما أنّ الحسرة من أكبر الآلام للمجرمين.
البرزخ
ليس الموت نهاية للحياة وانعدامها، بل انتقال من نشأة إلى أُخرى، وفي الحقيقة إلى حياة خالدة نعبّر عنها بالقيامة، بيد أنّ بين النشأتين نشأة ثالثة متوسطة تدعى بالبرزخ، والاِنسان بموته ينتقل إلى تلك النشأة حتى قيام الساعة، إلاّ أنّنا لا نعلم عن حقيقتها شيئاً، سوى ما جاء في القرآن والاَحاديث، ولنذكر طائفة من الآيات القرآنية بغية التعرّف على ملامح تلك النشأة.
أ- انّ المحتضر إذا وقف على سوء مصيره يتمنّى عوده إلى الدنيا ليتدارك ما فات منه، يقول سبحانه: ﴿حَتَّى إِذا جَاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ﴾(المؤمنون:99ـ 100).
ولكن يخيب سعيه، ويُردُّ طلبه، ويقال له: ﴿كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائلُها ومِنْ وَرَائهِم بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾(المؤمنون:100).
والآية تحكي عن وجود حياة برزَخية مخفية للمشركين.
ب- ويصف حياة المجرمين، لاسيما آل فرعون، بقوله: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوَّاً وعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ﴾(غافر:46).
فالآية تحكي عن أنّ آل فرعون يعرضون على النار صباحاً ومساءً، قبل القيامة. وأمّا بعدها فيقحمون في النار.
ج- ويصف سبحانه حياة الشهداء في تلك النشأة، بقوله: ﴿ولا تَقُولُوا لِمنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللهِ أَمْواَتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلِكنْ لا تَشْعُرُونَ﴾( البقرة:154).
ويصف في آية أُخرى حياة الشهداء بقوله: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبشرُونَ بالَّذينَ لَمْ يَلْحَقوا بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ ألاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاهُمْ يَحْزَنُونَ﴾(آل عمران:170).
السؤال في القبر
تبتدأ الحياة البرزَخية بقبض الروح عن البدن، وعندما يودع بدن الاِنسان في القبر، يأتي إليه ملائكة الربّ فيسألونه عن التوحيد والنبوُة وأُمور عقائدية أُخرى، ومن الواضح أنّ إجابة المؤمن ستختلف عن إجابة الكافر وبالتالي يكون عالم البرزخ مظهراً من مظاهر الرحمة للمؤمن، أو مصدراً من مصادر النقمة والعذاب للكافر.
إنّ السؤال في القبر وما يستتبع من الرحمة أو العذاب من الاَُمور المسلّمة عند أئمة أهل البيت، وفي الحقيقة أنّ القبر يُعدّ أُولى المراحل للحياة البرزخية التي تدوم إلى أنْ تقوم الساعة.
ولقد صَرَّحَ علماءُ الاِماميّة في كتُب العقائد التي ألّفُوها بما قُلناه.
فقد قال الشيخُ الصدوق: إعتقادُنا في المساءلةِ في القَبرِ، انَّه حقٌ لابدَّ منها، فمن أجابَ بالصواب فازَ برَوحٍ ورَيحانٍ في قَبرهِ، وبِجَنّةِ النعيمِ في الآخرة، ومَن لم يُجِبْ بِالصَّوابِ فَلهُ نُزُلٌ من حميمٍ في قبره، وتَصْلِيةُ جَحيم في الآخرةِ1.
وقال الشيخُ المفيد في كتابه "تصحيحُ الاِعتقاد": جاءَت الآثارُ الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّ الملائكة تنزل على المقبُورين فتسألُهم عن أدْيانهم، وألفاظُ الاَخبارِ بذلك متقاربة فمِنها أنّ مَلكَينِ لله تعالى يُقالُ لهما ناكر ونكير ينزلان على الميّتِ فَيَسألانِهِ عن رّبِهِ ونبيِّهِ ودينِهِ وإمامِهِ، فإنْ أجابَ بالحق سَلَّموهُ إلى ملائكةِ النَعيم، وإن ارتجَّ عليه سَلَّموهُ إلى ملائكةِ العَذاب2.
وقال المحقّق نصيرُ الدين الطوسي في كتابه: "تجريد الاعتقاد" أيضاً: وعذابُ القبر واقعٌ لاِمكانِهِ، وتواتُرِ السَمعِ بِوقوعِهِ3.
ومن راجَعَ كتب العقائد لدى سائر المذاهب الاِسلامية اتّضح له أنّ هذه العقيدة هي موضع إتفاقٍ بين جميع المسلمين، ولم يُنسَب إنكار عذابِ القبر إلاّ إلى شخص واحِدٍ هو "ضرار بن عمرو"4.
تفسير المعاد بالتناسخ وردّه
لقَد اتّضحَ مّما سبق أَنّ حقيقةَ المَعاد هي أنّ الرُّوح بعد مفارَقَتها للجَسَد تعودُ مرة أُخرى وبإذن الله ومشيئته إلى نفسِ البدنِ الذي عاشت به ليلقى الاِنسانُ جزاءَ ما عَمِلَهُ في الدنيا، في العالم الآخر، إنْ خيراً فخيرٌ، وإنْ شراً فشرّ.
ولكن ثمَّتَ من يُنكر "المعاد" الذي دَعَت الشرائعُ السماويةُ إلى الاِيمان بهِ، وإن أقرّوا بمسألةِ الثوابِ والعقابِ، الذي يلحق أعمال البَشَر، إلاّ أنّهم فسروه عن طريقِ "التناسخ".
إنّهم ادّعَوا أنّ الرُّوح تعودُ مرّةً أُخرى إلى العالم الدنيوي عن طريق تعلّقِها بالجنين، وعبْر طيّ مراحلِ الرُشد والنموّ، ويطوي دورات الطفولة، والشباب، والشيخوخة، غاية ما في الاَمر، يحظى أصحاب الاَعمال الصالحة بحياة لذيذةٍ جميلةٍ، بينما يعاني أصحاب الاَعمال الفاسدة من حياةٍ مُرّةٍ وقاسيةٍ. فهي إذن ولادةٌ جديدةٌ، تتبعُها حياةٌ سعيدةٌ أو تعيسةٌ.
ولقد كانَ لعقيدة التناسخ هذه على طول التاريخ البشريّ أنصار ومؤيّدون، وتُعَدُّ إحدى أُصول الديانة الهندوسية.
ويجب أن نَنتبه إلى هذه النقطة، وهي أنّ النفوسَ والاَرواح البشرية إذا سَلكتْ طريقَ التناسخ بصورة دائميةٍ لم يبق مجالٌ للمعاد والقيامة، والحال أنّ الاعتقاد بالمعاد أمرٌ ضروريٌ وبديهيٌ في ضوءِ أدلّته وبراهينه العقلية والنقلية.
وفي الحقيقة لابدّ أن يُقال: إنّ القائلين بالتناسخ حيث إنّهم لم يتمكّنوا مِن تصوّر "المعاد" بصورته الصحيحة أَحلُّوا "التناسخَ" محلَّه، واعتقدوا به، بَدَلَ الاعتقاد بالمعاد.
إنّ التناسخَ في المنطق الاِسلاميّ يستلزم الكفرَ، ولقد بُحِثَ في كتبنا الاعتقادية وأُثبِتَ بطلانه، وعدم انسجامه مع العقائد الاِسلاميّة بشكلٍ مفصَّلٍ، ونحن نشير هنا إلى ذلك باختصار:
1- إنّ النَفس والرّوحَ البشرية تكون قد بلغت عند الموت مرتبة من الكمال.
وعلى هذا الاَساس فإنّ تعلُّق الروح المجدّد بالجنين بحكمِ لُزُوم التناسقِ والانسجامِ بين "النَفْسِ" و "البَدَن" يستلزمُ تنزُّل النَفْسِ من مرحلة الكمال إلى مرحلة النقص، والفعليَّة إلى القُوّةِ، وهو يتنافى مع السُنّة الحاكمة على عالم الخَلقِ (المتمثّلة في السَير التكامليّ للموجوداتِ من القوّة إلى الفعل).
2- إذا قَبلنا بأن النفس تتعلّق بعد الاِنفصال من البَدَن، ببدنِ حيٍّ آخر، فإنَّ هذا يستلزمُ تعلّق نفسين ببدنٍ واحد، ونتيجته هي الازدواجيّة في الشخصيّة، ومثلُ هذا المطلبِ يتنافى مع الاِدراك الوجداني للاِنسان عن نفسه التي لا تمتلك إلاّ شخصيّةً واحدةً لا شخصيّتين5.
3- الاِعتقاد بالتناسُخ مع أنّه يتنافى مع السُنّة الحاكمة على نظام الخلق يعتبر بنفسه ذريعة للظالمين والنفعيّين الذين يرون أنَّ عزَّتَهم ورفاههم الفِعلِيّين نتيجةٌ لطهارة أعمالهم في حياتهم المتقدمة، ويرونَ أن شقاء الاَشقياء كذلك نتيجةٌ لِسوءِ أعمالهم في المرحلة السابقة، وبهذا يبرِّر هؤلاء الظَلَمة أعمالَهم القبيحة، ووجود الظُلم والجور في المجتمعات التي تخضع لسلطانِهِم.
الفرق بين التناسخ والمسخ
في ختام البحث حول التناسخ من الضروريّ أن نجيبَ على سؤالين
السؤال الاَوّل: لقد صَرَّح القرآنُ الكريم بوقوع حالات من المَسخ في الاَُمم السابقة، حيث تحوّل البعضُ إلى قِردةٍ، والبعض الآخر إلى خنازير كما يقول تعالى:﴿وَجَعَل مِنهُمُ القِرَدَةَ والخنازِير﴾(المائدة:60).
فكيفَ تحقّق المسخُ إذا كان التناسخ باطلاً؟
الجواب: إنّ "المسخ" يختلف عن "التناسخ" الاصطلاحيّ، لاَنّ في التناسخ تتعلَّق الروحُ بعد انفصالها من بَدَنِها بجنينٍ أو ببدن آخر.
ولكن في المسخ لا تنفصلُ الروحُ عن البَدن بل يتغير شكلُ البدَن6 وصورتُه، ليرى العاصي والمجرم نفسَه في صورة القِرد والخنزير، فيتألّم من ذلك.
وبعبارة أُخرى: إنّ نفسَ الاِنسان لا تتنزّل من المقام الاِنساني إلى المقام الحيواني، لاَنّه إذا كان كذلك لما كان أُولئك الذين مُسِخوا من البشر يدُرِكون العذاب، ولما لَمَسوا عقاب عَمَلهم، في حين يعتبر القرآنُ الكريمُ "المسخَ" "نكال" وعقوبة للعصاة ﴿فجَعَلْناها نكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:66).
يقول التفتازاني: إنّ النفوس بعد مفارقتها للاَبدان تتعلّقُ في الدنيا بأبدان أُخرى للتصرّف والاكتساب، لا أن تتبدّل صُوَرُ الاَبدان كما في المسخ7.
ويقول العلامة الطباطبائي: الممسوخ من الاِنسان إنسانٌ ممسوخٌ لا أنّه ممسوخٌ فاقدٌ للاِنسانية8.
السؤالُ الثاني: يذهبُ بعض المؤلّفين إلى أنّ القول بالرجعة ناشيء من القول بالتناسخ9.
فهل يستلزمُ الاعتقادُ بالرجعة القولَ بالتناسخ؟
الجواب: إنّ الرجعة حسب إعتقاد أكثر علماء الشيعة الاِمامية تعني أنّ طائفةً من أهلِ الاِيمان، وأهل الكفر سيعودُون إلى هذه الحياة (أي العالم الدنيويّ) في آخر الزمان مرةً أُخرى، وتكون عودتهم إلى الحياة مثل إحياءِ الموتى على يد السيد المسيح، ومثل عودة "عزير" للحياة بعد مائة سنة10.
وعلى هذا الاَساس لا يكون للاِعتقاد بالرجعة أيّ ارتباطٍ وعلاقة بمسألة التناسخ قط11.
أشراط الساعة
لقد ورَدَت في كلمات العلماء تبعاً للقرآن مسألة باسم "أشراط الساعة" وتعني علامات القيامة.
إنّ علاماتِ يومِ القيامة على قسمين
أ- حوادث تقع قبل وقوع القيامة وانهدام النظام الكوني وعند وقوع ذلك يكونُ البشر لا يزالون يعيشون على وجه الاَرض، ولفظة "أشراط الساعة"تُطلَق في الاَغلب على هذا النَمَط من الحوادث والوقائع.
ب- الحوادث التي توجب تخلخل النظام الكونيّ، وقد جاء أكثرها في سور: التكوير، والاِنفطار، والاِنشقاق والزلزال.
والعلائم من القسم الاَوّل عبارة عن
1- بعثة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم12.
2- اندكاك السدّ وخروج يأجوج ومأجوج13.
3- إتيان السماء بدخان مبين14.
4- نزول السيد المسيح عليه السلام15.
5- خروج دابّة من الاَرض16.
ولابُدَّ من مراجعة كتُبِ التفسير والحديث للحصول على تفاصيل هذه العلائم.
ولقد تحدّث القرآنُ الكريمُ بإسهاب حولَ العلائم والاَشراط من النوع الثاني مثل: انهدام النظام الكونيّ وتلاشيه وتكوير الشمس والقمر، وانكدار النجوم، وتناثرها، وتفجير البحار وتسجيرها، وتسيير الجبال17. وغيرها من الحوادث التي ملخّصُها هو اندثار النظام السائد فعلاً، وظهور نظام جديدٍ، وهو في حقيقته تجلّ للقدرةِ الاِلَهيّةِ التامّة، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الاََرضُ غَيْرَ الاََرْضِ وَالسَّمَاواتُ وَبَرَزُواْ للهِ الواحِدِ الْقَهَّار﴾(إبراهيم:48).
النَفخُ في الصُّور
إنّ القرآنَ الكريم يتحدَّث عن حادثةٍ باسم "النَفخُ في الصُّور" والذي يتم مرتين
أ- النَفْخُ في الصُّور، الذي يوجبُ موتَ كلّ الاَحياء في السَّماوات والاَرضين.
ب- النَّفخُ في الصُّور، الذي يوجبُ إحياءَ الموتى كما يقول:﴿وَنُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ مَنِ في السَّمَوَتِ وَمَن في الاََرْضِ إلاّ مَن شَآءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾(الزمر:68).
إنّ القرآنَ الكريم يتحدَّث عن خصوص حَشر البَشَر ونشْرهم يومَ القيامة قائلاً: ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الاََجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾(القمر:7).
مراحل الحساب والقيامة
بعد عَودة الموتى إلى الحَياة، وحَشْرِهمْ ونَشْرِهِمْ، تتحقَّق عدةُ أُمور قبلَ دُخولِ الجنة أو النار، أخبر بها القرآنُ الكريمُ، والاَحاديثُ الشريفة:
1- محاسَبة النّاس على أعْمالهم بشكلٍ خاصّ، أو بصورٍ معيّنة إحداها إعطاءُ صحيفةِ عملِ كل أحد بيده18.
2- مضافاً إلى ما هو مُدرَجٌ في صحيفة كل واحد من الصغائر والكبائر، ثمّتَ شهُودٌ من داخلِ الاِنسان وخارجه تشهدُ يومَ القيامة بأعمالهِ التي عَمِلَها في العالمِ الدُّنْيويّ.
والشُهود الّذين من الخارج هم عبارةٌ عن الله19 ونبي كلّ أُمّة 20 ونبيّ الاِسلام 21، والصَفوة الاَخيار من الاَُمّة 22، والملائكة 23، والاَرض 24.
وأمّا الشهودُ من داخل الكيانِ البشريّ فهم عبارة عن الاَعضاء والجوارح 25، وتجسّم الاَعمال نفسِها 26.
3- هناكَ لمحاسبة الاِنسان على أعماله مضافاً إلى ما قلناه ما يُسمّى ب "موازين العَدل" التي تُقامُ يومَ القيامة، وتضمِن وصولَ كلّ إنسان إلى ما يستحقه من الجزاء على وجهِ الدِقّة كما يقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شيْئاً وإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِها وَكَفَى بِنَا حاسِبين﴾(الاَنبياء:47).
4- ويُستفاد من الاَحاديث الشريفة أنّ هناك يومَ القيامة ممرّاً يجبُ أن يعبر منه الجميعُ بلا استثناء.
وهذا الممرّ يُعبّر عنهُ في الروايات بالصراط، وقد ذهبَ المفسرون إلى أنّ الآيات 71 ـ 72 من سورة مريم ناظرة إليه﴿وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وارِدُهَا كَانَ عَلى رَبّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَنَذَرُ الظَّالِمينَ فِيهَا جِثيّاً﴾(مريم:71ـ72).
5- هناكَ حائلٌ بين أهل الجنّة وأهل النار أسماه القرآنُ الكريم بـ(الحجاب) كما أنّه يقف شخصياتٌ رفيعةُ المستوى على مكانٍ مرتفعٍ يعرفون كلاًّ مِن أهلِ الجنّة وأهلِ النارِ بسيماهُم كما يقولُ سبحانه:﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاََعراَفِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًَّ بِسِيماهُمْ﴾(الاَعراف:46).
وهؤلاءُ الشخصيّات العالِية المستوى هم كما تُصرّح رواياتُنا الاَنبياءُ وأوصياؤهم الكرام البرَرَة.
6- عندما تَنْتهِي عمليّةُ الحساب ويَتّضح مصيرُ الاَشخاص يومَ القيامة يعطي اللهُ سبحانه لواءً بيد النبيّ الاَكرمِ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يُدعى "لواء الحمد" فيتحرّكُ أمامَ أهلِ الجنة، إلى الجنّة.27
7- أخبَرَتِ الرواياتُ العديدةُ بوجود حوضٍ كبير في المحشر يُعرَف بحوض "الكوثر"، يحضر عنده رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسقى الصالحون من الاَُمّة من ماء ذلك الحوض بأيدي النبيّ وأهلِ بيته.
*العقيدة الاسلامية،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ط1،ص225-242
1- اعتقادات الصدوق، الباب 17، ص 37.
2- تصحيح الاعتقاد للمفيد: ص 45 ـ 46.
3- كشف المراد: المقصد 6، المسألة 14.
4- راجع كتاب «السنة» لاَحمد بن حنبل؛ و «الاِبانة» لاَبي الحسن الاَشعري؛ وشرح الاَُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي.
5- كشف المراد للعلامة الحلّي المقصد الثاني، الفصل الرابع المسألة الثامنة، والاَسفار صدر المتألّهين: 9:10.
6- لاحظ سورة الاَعراف: الآية 166.
7- شرح المقاصد، للتفتازاني: 3:337.
8- الميزان، للطباطبائي، 1:209.
9- فجر الاِسلام، لاَحمد أمين المصري ص 377.
10- لاحظ آل عمران:49، والبقرة:259.
11- لاحظ الاَصل التاسع والعشرين بعد المائة ص 286.
12- لاحظ محمد:18.
13- لاحظ الكهف:98 ـ 99.
14- لاحظ الدخان:10 ـ 16.
15- لاحظ الزخرف:57 ـ 61.
16- لاحظ النمل:82.
17- لاحظ سور: التكوير، والانفطار، والانشقاق، والقارعة.
18- لاحظ الاِسراء:13 ـ 14.
19- لاحظ آل عمران:98.
20- لاحظ النحل:89.
21- لاحظ النساء:41.
22- لاحظ البقرة:143.
23- لاحظ ق:18.
24- لاحظ الزلزلة:4 ـ 5.
25- لاحظ النور:24، فُصّلت:20 ـ 21.
26- لاحظ التوبة|34 ـ 35.
27- بحار الاَنوار، ج 8، الباب 18، الاَحاديث 1 ـ 12؛ ومسند أحمد 1:281، 295 و 3: 144.