يتم التحميل...

الصلابة والبأس الشديد

علي الأكبر تضحية وفداء

انطلق الركب الحسيني بمسيرته التاريخية من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، البلد الأمين، دار السلام والاطمئنان، وبعدما أضحت مكة غير ذات أمان مهتوكة الحرمة، ولأسباب متظافرة اتجهت المسيرة العملاقة نحو الشمال إلى العراق حيث إقليم الكوفة فكربلاء.

عدد الزوار: 267

انطلق الركب الحسيني بمسيرته التاريخية من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، البلد الأمين، دار السلام والاطمئنان، وبعدما أضحت مكة غير ذات أمان مهتوكة الحرمة، ولأسباب متظافرة اتجهت المسيرة العملاقة نحو الشمال إلى العراق حيث إقليم الكوفة فكربلاء.

وأخذ الركب يلف الصحراء ويطوي البيداء، ويعبر ويصعد الهضاب ويقطع السهول متجاوزاً التلال والمرتفعات . يحث خطى السير لا يلوي على شيء... قد حملت الجمال معدات السفر والعتاد، ومحامل النساء... فيما امتطى الفرسان صهوات جيادهم..

وقد لحقهم مئات من الرجال النفعيين الذين ظنوا باقبال الدنيا على الحسين عليه السلام، وقد أدرك الإمام دوافعهم فسلك معهم عدة أساليب لارجاعهم وإبعادهم عن جهاده النقي، وللإبقاء على صفوة الرجال وخلاصة الرساليين الأبطال، ممن لا منفعة دنيوية تحدوهم ولا مصلحة شخصية تدعوهم، إلا إعلاء كلمة الله بإظهار الحق ودمغ الباطل.

مرّ الركب بعدة مناطق في الطريق، كمنطقة الصفاح، وزرود والخزيمية. ومنطقة الثعلبية ... الخ.

وهنا في هذه المنطقة بالذات حيث بلغها الركب في المساء، وعليّ الأكبر يسير معهم ليلاً نهاراً، يسير كلما ساروا ويقف كلما وقفوا، ويحث جواده كلما حثوا الجياد.. حتى بلغ منهم النصب وأخذهم التعب، وفي ذلك المساء بتلك المنطقة غفا الإمام الحسين، وأخذه الكرى، فرأى في نومه المؤقت رؤيا أزالت عنه الكرى، وفتح عينيه على أثرها، وأخذ يسترجع إنا لله وإنا إليه راجعون وهذا عبارة عن تعقيب على مضمون الرؤيا ومعناها.

فانتبه نجله علي الأكبر الذي كان يسير على مقربة منه فالتفت حالماً سمعه، ليستفسر من والده العظيم عما دعاه للإسترجاع، فأجابه الأب القائد: رأيت فارساً وقف عليّ، وهو يقول: أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة، فعملت أن أنفسنا قد نعيت إلينا وفي رواية لا توجد عبارة إلى الجنّة.

فبادر ولده علي قائلاً بصرامة المؤمن القوي: يا أبة أفلسنا على الحق؟ قال إمام الحق: بلى يابني، والذي إليه مرجع العباد.

فرد علي بكلمة نابعة من العزة والإباء يا أبة إذن لا نبالي بالموت وفي الأعيان أنه قال: فاننا إذن لا نبالي أن نموت محقين فعقب والده الإمام بكلمة التقدير العالية الرفيعة، التي جاءت بصيغة الدعاء، وأي دعاء من أب لولده، أم أي كلمة هذه التي ينطق بها الإمام الحسين شخصياً لولده عليّ الأكبر بالذات.. جزاك الله يا بني عني خير ما جزى به والداً عن والده. وهكذا هي تحية الإجلال لموقف الصلابة الشجاع.. أكرم بهذه الأبوة وتلك البنوة، الممتدين من أصول الأنبياء وخاتم النبوة.

لقد تحدى كل العقبات والمعوقات التي تحول دون تحقيق أهداف الحق، فطالما نحن على حق ينبغي أن لا نهاب الموت، الموت الذي حتى لو أيقنا قربه ودنوه منا، الموت المؤكد في الموقف المعين بالذات، الموت على الإيمان واليقين .. واليقين من أسماء الموت: أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين.

فلابدّ من نصب الموت أمام الأعين في السلم والحرب، ولابدّ للمؤمن من حمل الكفن إن لم يحمل معه خشبة الصَلب.. فلا يقولون أحد أن منيته وأجله في غيره هذه الحادثة الجهادية أو هذه الحرب، لأن ذلك معناه سابق نية على التهرب والإنسلال وعدم الرغبة في تمام التحرير وكامل الاستقلال.

ان هذه الرواية وحديث علي مع أبيه لابدّ أن نستفيد منه ولنتعرف على حقيقة شخصية علي من خلاله.. وفي الحديث من الدلالة على جلالة علي بن الحسين الأكبر، وحسن بصيرته، وشجاعته ورباطة جأشه، وشدة معرفته بالله تعالى، ما لا يخفى .

لقد كان حواراً جهادياً عظيماً، يذكرنا بحوار نبي الله إبراهيم مع نجله النبي إسماعيل.. فحينما قص إبراهيم الرؤيا، (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ).. أجابه ابنه إسماعيل بقوله: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) القرآن الكريم.

فثمة تشابه من حيث الغرض وهو الفداء والتضحية غير أن ثمة فوارق.. فجواب إسماعيل كان مفروضاً عليه بحكم طبيعة الرؤيا فهو مطالب بالرد المناسب ومطلوب للتضحية بذاته دون سواه. بينما لم يكن مفروضاً على علي الأكبر أن يجيب وليس الرد مطلوباً منه، ولم يك مطلوباً للتضحية بذاته ولوحده، وكان بمقدوره أن لا يجيب على ما ذكره أبوه من رؤيا.. لكنه أجاب بنبرات الصارم وعزيمة الصابر الصامد الذي لا يلين..

ولا نريد أن نعقد مقارنة بين الحوارين، فلا تفاضل بين النجلين الطاهرين، بحصول الفرق بين الموقفين وطبيعة القضيتين..

وبعد فقد تقدم إسماعيل صابراً، ليقدمه والده قرباناً ويبقى هو - والده - حياً، ثم غير الله سبحانه قضاءه إذ بدا له أن ينزل كبشاً كبديل (فَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) فنجا إسماعيل من مذبحة كادت تنهيه.
بينما تقدم علي الأكبر مع والده وكوكبة الرجال والشبان صفوة الأمة المسلمة، تقدم بأقدام ثابتة وخطوات لا تثنيها أي قوة مضادة إلى حيث مذبحة الذي ذبح عليه وقطع تقطيعاً هو ومن سبقه، بمرأى والده، بل مضى حتى والده قرباناً وضحية، أجل ذلك بحكم اختلاف القضية، ويا لها من قضية عظيمة لا كبش - مهما كان عظيماً - يعوضها أو يعادلها..

أجل سار علي وواصل مع الركب المجيد، سار والحق يحدوه، وأمامه نصبت صخرة الذبح من أجل أقدس قضية حَتَمَت أرقى فداء وتفانٍ وتضحية .


* حياة علـى الأكبـر / محمد علي عابدين ص50_53.

2011-12-02