يتم التحميل...

دور الإيمان والكفر في السعادة والشقاء الأبديين‏

أدلة المعاد

يقع البحث في هذا المقال عن العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح، وكذلك بين الكفر والمعصية. وعن وجود تأثر وتأثير بين الأعمال الحسنة والسيئة نفسها؟ هل أن كلا من الإيمان والعمل الصالح عامل مستقل في السعادة الابدية...

عدد الزوار: 348

‏يقع البحث في هذا المقال عن العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح، وكذلك بين الكفر والمعصية. وعن وجود تأثر وتأثير بين الأعمال الحسنة والسيئة نفسها؟

هل أن كلاً من الإيمان والعمل الصالح عامل مستقل في السعادة الابدية، أم أن عامل السعادة هو مجموعهما، حيث يساهم كلاهما في تحقيق السعادة، دون ان يكون لأحدهما بمفرده هذا التأثير؟ وكذلك، هل أن كلاً من الكفر والعصيان عامل مستقل في العذاب الأبدي، أم أن هذا الأثر مترتب على مجموعهما؟

وفي الصورة الثانية: إذا توفر الإنسان على الإيمان وحده، أو العمل الصالح وحده، فماذا سيكون مصيره وعاقبته؟ وكذلك لو اتصف الإنسان بالكفر وحده، أواإرتكب المعصية فحسب، فماذا ستكون عاقبته؟ وإذا إرتكب المؤمن ذنوبا كثيرة، أو صدرت من الكافر أعمال خيرة كثيرة، فهل سيكون من أهل السعادة أو من أهل الشقاء؟

وفي كلتا الصورتين: إذا عاش الإنسان فترة من عمره ملتزماً بالإيمان والعمل الصالح، بينما عاش في فترة أخرى متورطاً في الكفر والمعصية، فماذا ستكون عاقبته؟ ومثل هذه المسائل، بحث فيها منذ القرن الأول الهجري، فقد اعتقد بعض الناس أمثال (الخوارج) بأن ارتكاب المعصية عامل مستقل في الشقاء الأبدي، بل إنه يؤدي إلى الكفر والارتداد. بينما اعتقدت جماعة أخرى أمثال (المرجئة) بأنه يكفي الإيمان وحده في السعادة الأبدية، ولا يضر ارتكاب المعصية شيئا في سعادة المؤمن. والقول الحق في هذا المجال: أنه ليست كل المعاصي توجب الكفر والشقاء الأبدي، وإن كان من الممكن لتراكم الذنوب أن يؤدي إلى سلب الإيمان وفقدانه، ومن جانب آخر: فلا يصح الرأي الآخر القائل بأنه مع وجود الإيمان يغتفر كل ذنب، ولا تضر المعصية.
وفي بداية هذا المقال نذكر توضيحاً حول حقيقة الإيمان والكفر، وبعد ذلك نبحث في تأثيرهما في السعادة أو الشقاء الأبدي.

حقيقة الإيمان والكفر
إن الإيمان حالة قلبية ونفسية تنشأ من العلم بمفهوم، والميل اليه، وهو يقبل الكمال والنقص نتيجة لشدة أحد هذين العاملين أو ضعفه، وهما العلم والميل، وإذا لم يعلم الإنسان بوجود شي‏ء وإن كان علماً ظنياً  فلا يمكنه الإيمان به، ولكن لا تكفي المعرفة والعلم  فحسب  في حصول الإيمان، إذ من الممكن أن يكون المعلوم أو لوازمه مخالف لرغبته وميوله، بينما يميل إلى ضد هذا الأمر المعلوم، ولذلك لا يعزم ولا يصمم على العمل بلوازمه، بل ربما صمم وعزم على العمل بضده.

وكما قال القرآن الكريم حول الفراعنة: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا(النمل:14),  وقال موسى عليه السلام في خطابه لفرعون: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبّ‏ُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(الاسراء:102). مع أن فرعون لم يؤمن، وكان يقول للناس: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي(القصص:38). وانما آمن حين أوشك على الغرق حيث قال: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل(يونس:90)وتراجع ايضا: النحل:97، والاسراء:19، وطه:112، والأنبياء:94، وغافر:40).

ومثل هذا الإيمان الإضطراري لا يقبل من الإنسان إن أمكن تسميته بالايمان.

إذن، فالايمان متقوم بالميل القلبي والاختيار خلافاً للعلم والمعرفة، فيمكن حصوله بدون إختيار الشي‏ء المعلوم، ومن هنا، يمكن إعتبار الإيمان(عملاً قلبياً إختيارياً)، وذلك فيما لو وسعنا من مفهوم العمل بما يشمل الأعمال القلبية، فيمكن أن نعتبر الإيمان من مصاديق العمل. وأما لفظة (الكفر)، فتستخدم تارة في عدم ملكة الإيمان، حيث يطلق الكفر على عدم الإيمان  سواء نشأ عدم الإيمان من الشك والجهل البسيط، أو من الجهل المركب، أو نشأ من الميل للاتجاه المخالف للإيمان تعمدا وعناداً، وتارة أخرى يختص الكفر بالقسم الاخير اي حالة الجحود والعناد، ويعتبر هذا القسم أمرا وجوديا مضادا للإيمان.

نصاب الإيمان والكفر
يستفاد من الايات القرآنية الكريمة، والروايات الشريفة، أن الحد الأدنى من الإيمان الذي يلزم توفره من أجل الحصول على السعادة الابدية، عبارة عن الإيمان بالله الواحد، وبالثواب والعقاب الأخرويين، وبصحة ما نزل على الأنبياء عليهم السلام. ومما يلزم من هذا الإيمان ويترتب عليه العزم والتصميم الإجمالي على العمل بتعاليم الله تعالى وأحكامه، واما رفع درجات الإيمان فإنه مختص بالأنبياء والأولياء الإلهيين سلام الله عليهم اجمعين.

وأما الحد الأدنى للكفر فهو عبارة عن إنكار التوحيد أو النبوة أو المعاد أو الشك فيها، أو إنكار أمر يعلم بنزوله من الله تعالى على الأنبياء، وأما أسوأ مراتب الكفر فهو الإنكار عناداً لهذه الحقائق مع العلم بصحتها والعزم والتصميم على محاربة الدين الحق . ومن هنا، يكون الشرك (إنكار التوحيد) من مصاديق الكفر، وأما النفاق فهو الكفر الباطني، المقترن بالخداع والتظاهر بالإسلام، والمنافق (الكافر المقنع) أكثر إنحطاطاً وسقوطاً من سائر الكفار، كما قال القرآن الكريم: ﴿إِنّ‏َ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ(النساء:145).

والملاحظة التي يلزم تأكيدها هنا: أن الإسلام أو الكفر الذي يبحث الفقه فيه، ويكون موضوعاً لبعض الاحكام، أمثال طهارة الذبيحة وحليتها، وجواز النكاح والإرث وعدمه، لا يلازم الإيمان أو الكفر الذي نبحثه في أصول الدين، إذ من الممكن أن ينطق أحد بالشهادتين، وتثبت له الاحكام الفقهية الإسلامية، مع أنه لم يؤمن قلبياً بمضمون التوحيد والنبوة ولوازمهما.

والملاحظة الأخرى: إذا لم يملك الإنسان القدرة على معرفة أصول الدين، كما لو كان مجنوناً وفاقداً للعقل، أو لم يتمكن من معرفة الدين الحق نتيجة للظروف التي يعيشها فمثل هذا الإنسان يكون معذوراً بمقدار قصوره، أما لو كان الإنسان يملك إستعدادا وقابلية لاكتساب العلم والمعرفة، ولكنه قصر في ذلك، وبقي على حالة شكه، أو أنه أنكر أصول الدين وضرورياته بدون دليل، فلا يكون معذورا، وسيحكم عليه بالعذاب الابدي.

تأثير الإيمان في السعادة والشقاء الأبديين‏
مع ملاحظة هذه الحقيقة بأن الكمال الحقيقي للانسان إنما يتحقق في ظل القرب الإلهي، وفي المقابل، فإن سقوط الإنسان وإنحطاطه إنما يحصل نتيجة للبعد عن الله تعالى، ومن هنا فيمكن إعتبار الإيمان بالله تعالى، وبربوبيته التكوينية والتشريعية المستلزم للإعتقاد بالمعاد والنبوة، نبتة التكامل الحقيقي للإنسان، واما الأعمال التي يرتضيها الله فهي بمثابة أغصانها وأوراقها، وثمرتها السعادة الأبدية التي تظهر في عالم الآخرة، إذن فاذا لم يبذر الإنسان بذور الإيمان في قلبه، ولم يغرس هذا النبت المبارك، ولكن بذر في محلها بذور الكفر والعصيان المسمومة في قلبه، فانه قد أضاع النعمة الإلهية المعطاة له وزرع شجرة ستكون ثمارها الزقوم الجهنمي، ومثل هذا الشخص المنحرف، ليس له طريق يسلكه للوصول إلى السعادة الأبدية، ولا يتجاوز تأثير أعماله الخيرة حدود هذا العالم.

والسر في ذلك: أن كل فعل إختياري يعتبر حركة للروح باتجاه الغاية والهدف الذي ينشده الفاعل، ومن لا يعتقد بالعالم الأبدي والقرب الإلهي، فكيف يمكنه أن ينشد مثل هذا الهدف ويتصوره، وكيف يوجه افعاله لمثل هذا الإتجاه؟! وبطبيعة الحال، لا يمكن لمثل هذا الشخص أن يتوقع حصوله على الثواب الأبدي من الله تعالى، غاية ما يمكن تقبله بالنسبة للأعمال الخيرة التي تصدر من الكفار، أن مثل هذه الأعمال ربما توفر في التخفيف من عذابهم، اذ يمكن لهذه الأعمال أن تؤدي لإضعاف روح العناد وعبادة النفس وتخفيفها.

شواهد قرآنية
نلاحظ أن القرآن الكريم يؤكد التأثير الفاعل والأساس للإيمان في سعادة الإنسان الأبدية، فبالاضافة إلى أن القرآن الكريم ذكر في عشرات الآيات العمل الصالح بعد ذكره للإيمان في سياق واحد، فإنه في بعض الآيات أكد اعتبار الإيمان شرطاً في تأثير الأعمال الصالحة في السعادة الأبدية، حيث يقول: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِن فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة(النساء:124).

هذا من جانب، ومن جانب آخر، نرى القرآن الكريم ذكر أن الله أعد الجحيم والعذاب الأبدي للكفار، واعتبر أعمالهم باطلة لا ثمرة فيها، وشبه أعمالهم بالرماد الذي يتطاير عند هبوب ريح شديدة، لا تبقي له أثراً: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْ‏ءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ(ابراهيم:18). وفي موضع آخر، يقول القرآن الكريم انه ستكون أعمال الكفر كالغبار المنثور في الهواء: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا(الفرقان:23). وشبهها في آية أخرى بالسراب الذي يتطلع إليه الظامئ من بعيد، ولكن حين يقترب منه لا يجد ماء: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب(النور:39) وانظر ايضا: الاسراء:18، والشورى:20، والاحقاف:20)، ومع ملاحظة هذه الآيات، ندرك مدى ما يملكه بعض الاشخاص من ثقافة إسلامية، ومعرفة بالإسلام!! حيث فضلوا العلماء الكفار الملحدين الغربيين على كبار الشيعة وعلمائهم، أمثال نصير الدين الطوسي والعلامة المجلسي.

ويقول بعد ذلك: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيّ‏ٍ يَغْشَاهُ مَوْج مِّن فَوْقِهِ مَوْج مِّن فَوْقِهِ سَحَاب ظُلُمَات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور1.

وتؤكد آيات أخرى أن نتائج أعمال طلاب الدنيا تمنح لهم في هذا العالم وليس لهم نصيب في الآخرة إذ لا تنفعهم هناك: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ‏ِ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.


*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص241-246
1- الحبط والتكفير مصطلحان قرآنيان، والاول منها يعني عدم تأثير الأعمال الحسنة والخيرة، والثاني يعني جبران المعاصي.
2009-08-03