يتم التحميل...

أهمية معرفة العاقبة

أدلة المعاد

إن الباعث على النشاطات والأعمال الحياتية إشباع الحاجات والرغبات، وتحقيق الأهداف والطموحات، وبالتالي الوصول للسعادة والكمال النهائي، وإن تقويم الأفعال، وكيفية توجيهها مرتبط بتحديد الأهداف التي تسعى جميع الجهود...

عدد الزوار: 283

أهمية الإعتقاد بالمعاد
إن الباعث على النشاطات والأعمال الحياتية إشباع الحاجات والرغبات، وتحقيق الأهداف والطموحات، وبالتالي الوصول للسعادة والكمال النهائي، وإن تقويم الأفعال، وكيفية توجيهها مرتبط بتحديد الأهداف التي تسعى جميع الجهود والنشاطات الحياتية لبلوغها، ومن هنا كان لمعرفة الهدف النهائي للحياة دور أساس في توجيه النشاطات، واختيار الأعمال وتعيينها، وفي الواقع إن العامل الرئيس في تحديد طريقة الحياة ومسيرتها يكمن في نوع نظرة الإنسان ورؤيته ومعرفته بحقيقته وكماله وسعادته، ومن يعتقد أن حقيقته ليست إلا مجموعة من العناصر المادية والتفاعلات المعقدة فيما بينها، ويرى حياته محددة بهذه الأيام القليلة للحياة الدنيوية، ولا يعرف لذة أو سعادة أو كمالاً آخر وراء هذه المنافع والمكاسب المرتبطة بهذه الحياة، فانه سوف ينظم أعماله وسلوكه بما يشبع حاجاته الدنيوية ومتطلبات هذا العالم، اما ذلك الذي يؤمن بان حقيقته أوسع وأبعد من الظواهر المادية، ولا يرى في الموت نهاية الحياة، بل يراه منعطفاً ينتقل من خلاله من هذا العالم المؤقت العابر إلى عالم خالد باق، وأن أعماله الصالحة وسيلة للوصول لسعادته وكماله الابديين، فإنه سوف يخطط وينسق نظام حياته بطريقة تكون معها أكثر عطاء وأفضل تأثيراً على حياته المؤبدة، ومن جانب آخر فإن المتاعب والاخطاء والخسائر التي يواجهها في حياته الدنيوية، لا تثبط عزيمته، ولا تبعث فيه اليأس والقنوط، ولا تمنعه من مواصلة جهوده ونشاطاته في سبيل ممارسة وظائفه، وبلوغ السعادة والكمال الأبديين.

ولا ينحصر تأثير هذين النوعين من معرفة الإنسان، في الحياة الفردية، بل إن لهما تأثيراً كبيراً وفاعلاً في الحياة الإجتماعية، وفي مواقف الأفراد وعلاقاتهم فيما بينهم، فان للإعتقاد بالحياة الأخروية، وبالثواب والعقاب الأبديين، دوره المهم وتاثيره البالغ في رعاية حقوق الاخرين، والإيثار والإحسان إلى المحتاجين والمحرومين، وحين يسود المجتمع مثل هذا الإعتقاد، فلا يحتاج كثيراً إلى استخدام القوة في سبيل تنفيذ القوانين والاحكام العادلة ومكافحة الظلم والإعتداء على الأخرين . وبطبيعة الحال حين يصبح هذا الإعتقاد عالمياً وشاملاً، فسوف تقل بصورة ملحوظة الكثير من المشاكل الدولية.

ومن خلال هذه الملاحظات، تتضح لنا أهمية مسألة المعاد، وقيمة البحث فيها، بل وحتى الإعتقاد بالتوحيد، ان لم يكن مقترناً بالإعتقاد بالمعاد، لا يمكنه ان يؤثر أثره الكامل والشامل في توجيه الحياة الوجهة الصحيحة والمنشودة، ومن هنا ينكشف لنا سر إهتمام الأديان السماوية، و خاصة الدين الإسلامي المقدس بهذا الأصل العقائدي، وسر بذل الأنبياء أقصى جهودهم في سبيل ترسيخ هذه العقيدة في النفوس وتثبيتها. والإعتقاد بالحياة الاخروية، انما يكون له تأثيره في توجيه السلوك والأفعال الفردية والإجتماعية، فيما لو تم التسليم بوجود نوع من علاقة العلة والمعلول بين ما يتحقق في هذا العالم من المواقف والأفعال والسعادة والشقاء في عالم الآخرة. وفي أقل التقادير لا بد من الإعتراف بان النعم أو العذاب الأخروي إنما تكون ثواباً أو عقاباً على الأعمال الطالحة والصالحة التي تصدر في هذا العالم. واما لو اعتقدنا بأن السعادة الأخروية يمكن تحصيلها في ذلك العالم الاخر نفسه  كما يمكن الحصول على النعم الدنيوية في هذا العالم  فإن الإعتقاد بالحياة الأخروية سوف يفقد تأثيره الفاعل والأساس في الأفعال الدنيوية، إذ إنه على حسب هذا الإعتقاد والفهم  يمكن القول: بأنه يلزم السعي في هذه الدنيا لتحصيل السعادة الدنيوية، كما أنه من أجل الوصول للسعادة الأخروية، لا بد من السعي في العالم الأخروي نفسه بعد الموت!

ومن هنا، كان من الضروري أن نثبت ايضاً، إضافة لإثبات المعاد والحياة الأخروية، العلاقة بين الحياتين (الدنيا والآخرة) وتأثير الأفعال الإختيارية في السعادة والشقاء الأبديين.

إهتمام القرآن بمسألة المعاد
الملاحظ ان أكثر من ثلث الآيات القرآنية، مرتبط بالحياة الأبدية، وفي مجموعة من هذه الآيات أكد القرآن على لزوم الإيمان بالآخرة ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَان مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمّ‏َ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْر وَإِسْتَبْرَق وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا(الدهر:11 -21)، وانظر:( الرحمن:46 إلى آخر السورة), (الواقعة:15:ج 38).

وفي مجموعة أخرى، أشار إلى آثار إنكاره ومضاعفاته ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَة كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ(الحاقة:20-27)، وانظر أيضا: (الملك: 6 -11)، (الواقعة:42-56).

وفي مجموعة ثالثة، ذكر النعم الأبدية ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ‏ِ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنّ‏َ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَاب شَدِيد بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(سورة ص:26)، وانظر أيضا (السجدة:14).

وفي مجموعة رابعة، تعّرض القرآن إلى أنواع العذاب الأبدي (القيامة:3-5) كما أن هناك آيات كثيرة ذكرت العلاقة بين الأعمال الحسنة والسيئة، مع نتائجها وآثارها الاخروية وكذلك اكدت، بأساليب مختلفة، إمكان القيامة وضرورتها، وتعرضت إلى الجواب عن شبهات المنكرين، وقد بينت بعض الآيات أن السبب في الكثير من أنواع الضلال والإنحراف هو نسيان أو إنكار القيامة ويوم الجزاء قال تعالى: ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (النمل:68)، وانظر أيضا: (الاحقاف:17).

ومن خلال التأمل في الآيات القرآنية نتوصل إلى أن القسم الأكبر من أحاديث الأنبياء ومناظراتهم مع الناس كان يدور حول موضوع المعاد، بل يمكن القول بأن الجهود التي بذلوها لإثبات هذا الأصل كانت أكثر من جهودهم لإثبات التوحيد، وذلك لأن أغلب الناس كانوا يتخذون موقفاً أكثر عناداً وتشدداً من هذا الأصل، ويمكن ان نلخص السبب في عنادهم وتشددهم هذين في امرين: أحدهما عامل مشترك يتجسد في إنكار كل أمر غيبي وغير محسوس، والثاني عامل مختص بموضوع المعاد، اي الرغبة بالتحلل، وعدم الشعور بالمسؤولية، وذلك لما ذكرناه من أن الإعتقاد بالقيامة والحساب، يعتبر دعامة قوية وصلبة للشعور بالمسؤولية، ودافعاً قوياً لتقبل الكثير من الضوابط على السلوك والأعمال، والكف عن الظلم والاعتداء والفساد والمعصية. وبإنكاره، سوف يفتح الطريق أمام تدفق التصرفات المتحللة، وعبادة الشهوات والأنانيات، والإنحرافات. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا العامل في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَه، بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَه(القيامة:5-3)

ويمكن ان نلاحظ هذه الحالة النفسية من الإمتناع عن الإعتراف بالمعاد بمعناه الحقيقي في أولئك الذين يحاولون في أحاديثهم وكتاباتهم، تطبيق (البعث) و(اليوم الآخر) وسائر التعبيرات القرآنية عن المعاد على ظواهر هذا العالم الدنيوي، وبعث الامم والشعوب، وإقامة المجتمع غير الطبقي وبناء الجنة الارضية، أو أنهم يفسرون عالم الآخرة والمفاهيم المرتبطة به، بمفاهيم قيمية خلقية، واعتبارية، واسطورية (من الضروري ان نعلم أن لكل واحدة من هذه الالفاظ معاني اصطلاحية أخرى، والمراد منها هنا هي الصورة النوعية (كالنفس الانسانية التي هي الصورة النوعية للإنسان).

وقد إعتبر القرآن الكريم أمثال هؤلاء من (شياطين الانس) و(أعداء الأنبياء) لأنهم يحاولون تشويه الأذهان وخداع القلوب بأحاديثهم الخادعة والمنمقة. وإقصاء الناس عن الإيمان والإعتقاد الصحيح، وإلتزام الأحكام والتعاليم الإلهية. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ‏ِ نِبِيّ‏ٍ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنّ‏ِ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُون(الانعام:112-113).

النتيجة
من أجل أن يمكن للانسان أن يختار في حياته طريقاً يؤدي به إلى سعادته الحقيقية وكماله النهائي، فيلزم عليه أن يفكر: هل تنتهي الحياة الإنسانية بالموت؟ أم هل توجد هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة؟ وهل الانتقال من هذا العالم إلى عالم آخر، كالسفر من مدينة لأخرى، بحيث يمكنه توفير وسائل ومستلزمات المعيشة والحياة في تلك المدينة، أم أن الحياة في هذا العالم مقدمة، وأرضية لحصول المسرات والآلام في ذلك العالم، ولا بد ان يعد العدة، ويعمل في هذا العالم، ليحصل على النتيجة النهائية هناك ؟، واذا لم يعالج الإنسان هذه المسائل، فلا يمكنه معرفة الطريق، وتعيين نظام الحياة وطريقتها، وذلك لأنه إذا لم يتعرف على مقصد سفره ومصيره، فلا يمكنه تحديد طريق الوصول اليه.

وأخيراً، نؤكد على وجود احتمال وجود مثل هذه الحياة الأخروية مهما افترضناه ضعيفاً، وهذا الإحتمال في نفسه يكفي في دفع الإنسان العاقل الواعي، إلى البحث والفحص حول تلك الحياة، وذلك لأن (مقدار المحتمل) غير نهائي.

*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص213-219

2009-08-03