حاجة البشر الى الوحي والنبوة
مباحث النبوة العامة
المسائل الأساس في مبحث النبوة هي: ضرورة بعثة الأنبياء وضرورة صيانة الوحي من أي تلاعب وتشويه وتحريف، عمدا أو سهواً، حتى وصول محتوياته للناس، وبتعبير آخر: وجوب عصمة الأنبياء في تلقي الرسالة الإلهية وإبلاغها، وكذلك وجود طريق تثبت به للآخرين نبوة الأنبياء.
عدد الزوار: 363
• ضرورة بعثة الأنبياء
المسائل الأساس في مبحث النبوة هي: ضرورة بعثة الأنبياء وضرورة صيانة الوحي من أي تلاعب وتشويه وتحريف، عمدا أو سهواً، حتى وصول محتوياته للناس، وبتعبير آخر: وجوب عصمة الأنبياء في تلقي الرسالة الإلهية وإبلاغها، وكذلك وجود طريق تثبت به للآخرين نبوة الأنبياء.
وضرورة بعثة الأنبياء هي من أهم المسائل الأساس لفصل النبوة، ويمكن إثباتها ببرهان مؤلف من ثلاث مقدمات:
1- إن الهدف من خلق الإنسان هو: السير في طريق تكامله من خلال ممارسة الافعال الاختيارية من أجل التوصل إلى كماله النهائي، هذا الكمال الذي لا يتوصل اليه إلا بإختياره وإنتخابه.
وبتعبير آخر، إنما خلق الإنسان ليكون بعبادته وإطاعته للّه تعالى مستحقا وأهلا للحصول على الرحمة التي يختص بها الأفراد المتكاملون، والإرادة الإلهية الحكيمة انما تعلقت أصالة بكمال الإنسان وسعادته، ولكن بما أن هذا الكمال والسعادة السامية لا يمكن الوصول اليها إلا عن طريق ممارسة الأفعال الإختيارية، لذلك جعل مسار الحياة البشرية على مفترق طريقين وإتجاهين، لتتوفر بذلك أجواء الإختيار والإنتخاب.
وبالطبع، فان أحد الطريقين يؤدي نحو الشقاء والعذاب، لتتعلق به الإرادة الالهية بالتبع لا بالأصالة.
2- إن الإختيار الواعي والشعوري اضافة إلى إحتياجه للقدرة على ممارسة العمل، وتوفر الظروف والأجواء الخارجية لممارسة الأعمال المختلفة، ووجود الميل والدافع الداخلي لها يحتاج أيضا إلى المعرفة الصحيحة حول الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة، والطرق الصالحة وغير الصالحة، وإنما يتمكن الإنسان من إختيار طريق تكامله بكل حرية ووعي فيما لو كان يعرف الهدف، وطريق الوصول اليه، وكان عارفا بكل العقبات والعراقيل والإنحرافات والمزالق.
اذن، فمقتضى الحكمة الإلهية أن توفر للبشر الوسائل والمستلزمات الضرورية للحصول على مثل هذه المعارف والمدركات، والإ فسيكون حاله كذلك الشخص الذي يدعو ضيفا إلى داره، ثم لا يدله على موضعه، ولا على الطريق المودي اليه! ومن البديهي أن مثل هذا العمل مخالف للحكمة، وموجب لنقض الغرض.
وهذه المقدمة واضحة، لا تحتاج إلى توضيح وتوسع أكثر.
3- إن معارف ومدركات البشر العادية والمتعارفة، التي يحصل عليها نتيجة التعاون بين الحس والعقل، وإن كان لها دورها الفاعل في توفير ما يحتاج اليه في حياته، ولكنها لا تكفي في التعرف على طريق الكمال والسعادة الحقيقية، في جميع المجالات الفردية والإجتماعية والمادية والمعنوية والدنيوية والأخروية، وإذا لم يوجد طريق آخر لسد النقائص والفجوات فلن يتحقق الهدف الإلهي من خلق الإنسان.
وبملاحظة هذه المقدمات الثلاث نتوصل إلى نتيجة مفادها: أن الحكمة الالهية تقتضي وضع طريق آخر للبشر غير الحس والعقل من أجل التعرف على طريق الكمال في كل المجالات، حتى يستطيع البشر الإستفادة منه (مباشرة أو بواسطةفرد أو أفراد آخرين).
وهذا الطريق هو الوحي1، يقول القرآن الكريم في ذلك: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء﴾(آل عمران:179) الذي وضعه الله للأنبياء، ليستفيدوا هم منه بصورة مباشرة، وليستفيد منه الآخرون عن طريق الأنبياء، وليتعلموا منه كل ما يحتاجون اليه، من أجل الوصول إلى السعادة والكمال النهائي. ومن بين هذه المقدمات، ربما يحصل التردد والتشكيك في المقدمة الاخيرة، ومن هنا يلزم علينا توضيحها والتوسع فيها أكثر، ليتوضح لنا تماماً قصور المعرفة البشرية عن تحديد مسير التكامل الشامل للإنسان، واحتياجه لطريق الوحي.
• قصور المعرفة البشرية
من أجل معرفة الطريق الصحيح للحياة في كل أبعادها وجوانبها، لا بد من التعرف على مبدأ وجود الإنسان ومصيره، وعلاقاته بسائر الموجودات، والروابط التي يمكن له إقامتها وعقدها مع بني نوعه وسائر المخلوقات، وتأثير هذه الروابط والعلاقات المختلفة في سعادته وشقائه، وكذلك عليه أن يحدد نسب المنافع والمضار، ودرجات المصالح والمفاسد المختلفة ومقاديرها، والموازنة بينها، لتتحدد بذلك وظائف هذا العدد الكبير من البشر، والذي يتميز بخصائص بدنية ونفسية متفاوته ومتغايرة، وكل منهم يعيش ظروفا طبيعية وإجتماعية مختلفة، ولكن الإحاطة بكل هذه الأمور لا تتيسر، ليس لفرد أو لجماعة معينة فحسب، بل للآلاف من الجماعات المتخصصة، في مختلف العلوم المرتبطة بالإنسان. لا يمكنهم إكتشاف مثل هذه المعايير والقواعد المعقدة وبيانها على شكل قوانين وأحكام دقيقة ومضبوطة ومحددة، لتكفل بذلك توفير كل المصالح الفردية والإجتماعية، المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، لكل البشر وحينما يقع التزاحم والتضاد والتعارض بين أنواع المصالح والمفاسد وكثيراً ما يحصل ذلك يعين المصلحة الاهم بدقة، ويقدمها في المجال العملي.
إن ما يلاحظ من مسيرة التغييرات الحقوقية والقانونية عبر تاريخ البشر مؤشر على أنه لم يوجد حتى اليوم بالرغم من كل البحوث والجهود التي بذلها الكثير من العلماء المتخصصين عبر آلاف السنين نظام حقوقي وقانوني صحيح وكامل وشامل والملاحظ أيضاً أن المقننين والمؤسسات الحقوقية والقانونية في العام، تتوصل دائماً إلى نقاط الضعف في القوانين الوضعية، ولذلك يحاولون إصلاحها أو تكميلها، بإلقاء مادة أو نسخها، أو إضافة مادة لها أو إلحاق ملاحظة بها.
ويجب علينا أن لا نغفل عن انهم إستفادوا كثيرا في تقنين هذه القوانين وتدوينها من الإنظمة الحقوقية والقانونية الإلهية، والشرائع السماوية. وكذلك ينبغي أن نعلم بأن جهود المقننين والحقوقيين متوجهة لتوفير المصالح الدنيوية والإجتماعية، دون الاهتمام بتوفير المصالح الأخروية وملاحظة مدى علاقتها بالمصالح الدنيوية والمادية، واذا ما أرادوا الإهتمام بهذا الجانب الذي يعتبر أكثر الجوانب أهمية في هذا المجال فانهم لن يتمكنوا من الوصول إلى نتائج يقينية قاطعة، وذلك لأن المصالح المادية والدنيوية يمكن التعرف عليها إلى حد ما وتحديدها، من خلال التجارب العملية. أما المصالح المعنوية والأخروية فإنها لا تقبل التجربة الحسية، ولا يمكن تقويمها بدقة، وحين تتزاحم وتتعارض مع المصالح المادية والدنيوية فلا يمكن التعرف على معيار لقياس أهمية إحداهما. ومن خلال ملاحظة الحالة الراهنة التي تعيشها القوانين البشرية، يمكن لنا تقويم العلم البشري عبر آلاف أو مئات الآلاف من السنين لنتوصل لهذه النتيجة اليقينية: إن الإنسان البدائي أكثر عجزا من إنسان عصرنا في تحديد الطريق الصحيح للحياة، وعلى تقدير وصول إنسان عصرنا إلى نظام حقوقي قانوني صحيح، وكامل، وشامل، من خلال تجارب آلاف السنين وعلى تقدير القول بأن هذا النظام يتكفل توفير السعادة الأبدية والأخروية، فان هذا السؤال يبقى ملحا: كيف يتلائم اهمال الأجيال الكثيرة التي عاشت عبر التاريخ الطويل في ظلم جهلها مع الحكمة الإلهية والهدف من خلقهم؟
والحاصل: إن الهدف من خلق الإنسان، من البداية حتى النهاية، إنما يقبل التحقق في أرض الواقع، فيما لو وجد طريق آخر غير الحس والعقل لمعرفة حقائق الحياة، والوظائف الفردية والإجتماعية، وليس هذا الطريق إلا الوحي. وقد اتضح مما ذكرنا أيضا أن مقتضى هذا البرهان، أن يكون الإنسان الأول نبياً، ليتعرف على الطريق الصحيح للحياة عن طريق الوحي، وليتحقق فيه الهدف من الخلق، وليهتدي به الآخرون.
• فوائد بعثة الأنبياء
للأنبياء الإلهيين إضافة إلى تعريف البشر وهدايتهم إلى طريق الصحيح للتكامل الحقيقي للإنسان، وتلقي الوحي وإبلاغه للناس فوائد وتأثيرات مهمة أخرى في مجال تكامل البشر، وأهمها ما يلي:
1- إن هناك الكثير من المعلومات، التي يمكن للعقل الإنساني إدراكها، ولكن ربما يغفل عنها، إما لإحتياجها لزمان طويل، وتجارب كثيرة، وإما نتيجة إهتمام الأفراد وإنهماكهم في الأمور المادية، وسيطرة الميول الحيوانية عليهم، أو ربما تغيب عن الناس نتيجة للتربية المنحرفة، أو الإعلام السيئ أن مثل هذه المعلومات يبينها الأنبياء للناس، ليمنعوا من نسيانها تماما، من خلال تذكيرهم وتأكيدهم الدائم عليها، وليواجهوا المغالطات والتعليمات السيئة بتعليماتهم الصحيحة والمنطقية.
ومن هنا يعرف السبب في إطلاق صفتي (المذكر والنذير) على الأنبياء، وإطلاق أسماء (الذكر، والذكرى، والتذكرة) على القرآن الكريم. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حين يستعرض الفوائد والحكم من بعثة الأنبياء:
(ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ).
2- من أهم العوامل التي لها تأثيرها الفاعل في التربية، وفي رشد الإنسان وتكامله، وجود القدوة في العمل. وقد أثبتت أهمية ذلك في بحوث علم النفس، والأنبياء الإلهيون الذين يمثلون الإنسان الكامل، والذين نشأوا في ظلال التربية الإلهية، يقومون بذلك خير قيام أنهم بالإضافة إلى التعليمات والمعلومات التي يزودون بها البشرية يقومون بمهمة تربية الناس وتزكيتهم، ونحن نعلم أن القرآن الكريم قد قرن بين التعليم والتزكية في الذكر، وحتى أنه في بعض الآيات قدم (التزكية) على (التعليم).
3- ومن معطيات وفوائد وجود الأنبياء بين الناس، تولي القيادة في المجالات الإجتماعية والسياسية والقضائية، حينما تتوفر الظروف اللازمة لذلك، وبديهي أن القائد المعصوم من أعظم النعم الإلهية للمجتمع، حيث تعالج بواسطته الكثير من المعضلات والإضطرابات الإجتماعية، ويتم انقاذ الامة من الإختلاف والتنازع والفوضى والإنحراف، ليقودها بإتجاه كمالها المنشود.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص99-104.
1- وهذا البرهان من مواضع إستنتاج القضية العملية (ينبغي من القضية النظرية (يوجد)، وكذلك من مصاديق إثبات الضرورة بالقياس للمعلول عن طريق ضرورة العلة، وكذلك من مواضع إجراء البراهين اللمية في الإلهيات).