القضاء والقدر
العدل
إن لفظة القدر بمعنى المقدار، والتقدير يعني قياس الشيء وجعله على مقدار، وصنع كل شيء بحد معين ولفظة " القضاء" بمعنى الإتمام والفراغ من الشيء، أو الأداء، والحكم،وهو نوع من الاتمام الاعتباري. وأحياناً تستعمل كلتا الكلمتين بمعنى مترادف حيث يستعملان في معنى المصير.
عدد الزوار: 463
مفهوم القضاء والقدر
إن لفظة "القدر" بمعنى المقدار، و "التقدير" يعني قياس الشيء وجعله على مقدار، وصنع كل شيء بحد معين ولفظة " القضاء" بمعنى الإتمام والفراغ من الشيء، أو الأداء، والحكم، (وهو نوع من الاتمام الاعتباري). وأحياناً تستعمل كلتا الكلمتين بمعنى مترادف حيث يستعملان في معنى "المصير".
والمراد من التقدير الإلهي، أن الله تعالى جعل لكل حادث مقدارا وحدودا كمية وكيفية وزمانية ومكانية معينة، في تحققه بفعل العلل والعوامل التدريجية، والمراد من القضاء الإلهي، إيصال الحادث إلى مرحلته النهائية والحتمية بعد توفر المقدمات والأسباب والشروط لذلك الحادث. وعلى ضوء هذا التفسير، تكون مرحلة التقدير متقدمة على مرحلة القضاء، حيث تكون للتقدير مراحل تدريجية مشتملة على مقدمات بعيدة ومتوسطة وقريبة، ويتعرض التقدير للتغير بتغير بعض الأسباب والشروط.
فمثلا مسيرة الجنين المتدرجة من النطفة إلى العلقة فالمضغة، إلى أن تكون جنينا متكاملا، تعتبر هي المراحل المختلفة لتقديره، حيث يشمل المشخصات الزمانية والمكانية أيضا، وسقوط هذا الجنين في مرحلة من هذه المراحل يعد تغيراً في التقدير. وأما مرحلة القضاء فهي دفعية وليست تدريجية، ومرتبطة بتوفر كل الأسباب والشروط، وهي أيضا حتمية لا تقبل التغير﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون﴾(آل عمران:47). ولكن وكما اشرنا اليه يستعمل (القضاء والقدر) كلفظين مترادفين أحيانا ومن هنا يقسم للحتمي وغير الحتمي، وبهذا اللحاظ تعرضت بعض الروايات والادعية لتغيير القضاء وأن الصدقة والبر بالوالدين وصلة الرحم والدعاء من عوامل تغيير القضاء.
القضاء والقدر العلمي والعيني
يستعمل التقدير والقضاء الإلهي أحيانا، بمعنى علم الله بتوفر المقدمات والأسباب والشروط المؤثرة في تحقق الظواهر وكذلك علمه بالوقوع الحتمي لها، ويطلق على ذلك "القضاء والقدر العلمي"، وأحيانا يستعمل بمعنى إنتساب المسيرة التدريجية للظواهر، وكذلك إنتساب تحققها العيني الخارجي، إلى الله تعالى، ويطلق عليه "القضاء والقدر العيني".
ووفقا لما يستفاد من الايات والروايات، فإن العلم الإلهي بكل الظواهر بالصورة التي تتحقق بها في العالم الخارجي تماما، مودع في مخلوق شريف رفيع، يسمى "اللوح المحفوظ". وكل من يمكنه الإتصال بهذا اللوح، بإذن الله، سيكون عالما بالظواهر الماضية والمستقبلية. وهناك ألواح اخر، أقل رتبة ومقاما من اللوح المحفوظ، أودعت فيها الظواهر بصورة مشروطة وغير تامة، ومن يشرف ويتعرف عليها ستكون له معلومات محدودة وناقصة ومشروطة قابلة للتغير، وربما تكون هذه الآية الشريفة ناظرة إلى هذين النوعين من المصير ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(الرعد:39) وتغير التقديرات المشروطة وغير الحتمية يعبر عنه في الروايات ب"البداء". إذن فالإيمان بالقضاء والقدر العلمي، لا يثير إشكالا أكثر مما ذكر في موضوع العلم الإلهي الأزلي.
ولكن الإشكال الأكثر صعوبة يأتي في مجال الإعتقاد بالقضاء والقدر العيني، وخاصة في مجال الإيمان بالمصير الحتمي، علينا معالجته والإجابة عنه وإن علم الجواب الإجمالي عنه في موضوع التوحيد بمعنى التأثير المستقل.
العلاقة بين القضاء والقدر، وإختيار الإنسان
علمنا فيما سبق، أن الإعتقاد بالقضاء والقدر العيني الإلهي، يقتضي الإعتقاد بأن وجود الظواهر من بداية وجودها حتى مراحل نموها وإزدهارها، إلى نهاية عمرها، بل من حين توفر المقدمات البعيدة لها، كلها خاضعة للتدبير الإلهي الحكيم، وعلينا أن نؤمن أيضا بأن توفر الشروط لوجودها ووصولها إلى المرحلة النهائية، مستندا إلى الإرادة الإلهية1.
وبعبارة أخرى: فكما أن وجود كل ظاهرة، منتسب للاذن والمشية التكوينية للّه وبدون إذنه لا يمكن لاي موجود أن يفتح عينيه على عالم الوجود، كذلك فإن وجود وتكوّن كل شيء مستند إلى التقدير والقضاء الالهيين وبدونها لا يمكن لاي موجود الوصول إلى شكله وحدوده المعينة، ولا يصل إلى نهاية عمره، وتوضيح هذه الارتباطات والعلاقات وتفسيرها يمثل في واقعه التعليم التدريجي للتوحيد بمعنىالإستقلال في التأثير، الذي هو من أرفع مراتب التوحيد فإن للتأكيد على مثل هذه العلاقات والتنبيه عليها دوره الكبير في بناء شخصية الإنسان.
وأما إسناد الظواهر إلى الإذن، بل حتى للمشية الإلهية، فهو أيسر فهما وأقرب إلى الأذهان، خلافا لإسناد مرحلتها النهائية وتعينها الحتمي للقضاء الإلهي. فإنه لأجل صعوبة إستيعابه وفهمه لذلك بحث فيه أكثر، وذلك لأنه يصعب التوفيق بين هذا الإيمان، والإيمان بإختيار الإنسان في رسم مصيره وتحديده، لذلك رأينا بعض المتكلمين (الأشاعرة) الذين تقبلوا شمول القضاء الإلهي لأفعال الإنسان، قد أتجهوا إلى القول بالجبر، بينما نرى جماعة أخرى (المعتزلة) الذين لم يمكنهم القول بالجبر وآثاره الخطيرة والسيئة، قد أنكروا شمول القضاء الإلهي لأفعال الإنسان الإختيارية، وكل جماعة أوّلت الآيات القرآنية والروايات المخالفة لرأيها بما يتلاءم وإتجاهها ورأيها، كما ذكر ذلك كله في الكتب الكلامية الموسعة وفي الرسائل المخصصة للبحث حول الجبر والتفويض.
والمحور الرئيسي للإعتراض: أن فعل الإنسان إذا كان إختياريا حقا، ومستندا لإرادته، فكيف يمكن القول بإستناده لإرادة الله وقضائه؟ وإذا كان مستندا للقضاء الإلهي فيكف يمكن القول بأنه خاضع لإرادة الإنسان وإختياره؟
ولأجل الجواب عن هذا الإعتراض والتوفيق بين إستناد الفعل لإرادة الإنسان واختياره، وإستناده لإرادة الله وقضائه، يلزم علينا أن نبحث حول انواع إستناد المعلول الواحد لعلل متعددة، حتى يتضح لنا نوع إستناد الفعل الإختياري للإنسان وللّه تعالى.
أنواع تأثير العلل المتعددة
يمكن أن يتصور تأثير العلل المتعددة في وجود ظاهرة ما، بعدة صور:
1- أن تؤثر العلل المتعددة معا، وكل منها منضمة للأخرى، وتساهم جميعا في وجود الظاهرة، كإجتماع البذر والماء والحرارة وغيرها، حيث تؤثر في إنفلاق البذر وخروج النبات.
2- أن تتناوب العلل في التأثير، بحيث يمكن تقسيم تلك الظاهرة، على عدد تلك العلل، وكل قسم منها معلول لواحدة من العلل والعوامل، التي تؤثر أثرها خلال وقتها ونوبتها، كما لو كانت هناك عدة محركات للطائرة، تؤدي بالتناوب عملية إستمرارية حركة الطائرة.
3- أن يكون تأثير كل واحد منها مترتبا على الآخر، كما في تصادم كرات رياضية متعددة، كل منها بالاخر فكل واحدة هي السبب في حركة الأخرى، وكما في الاصطدامات الحلقية المسلسلة حيث تسقط الحلقة اللاحقة من حلقات السلسلة بتأثير السابقة على التعاقب، ومثال آخر له، ما نلاحظه من تأثير إرادة الإنسان في حركة اليد، وتأثير اليد في حركة القلم. وتأثير القلم في وجود الكتابة.
4- التأثير المترتب على علل وعوامل متعددة طولية، بحيث يكون وجود كل منها مرتبطا بوجود الآخر، خلافا للقسم الثالث حيث لم يكن وجود القلم مرتبطا بوجود اليد، أو وجود اليد مرتبطا بإرادة الإنسان، وفي هذه الصور جميعا يمكن أن تجتمع علل متعددة على معلول واحد، بل يجب اجتماعها. وتأثير الإرادة الإلهية وإرادة الإنسان في الفعل الاختياري من القسم الأخير، إذ إن وجود الإنسان وإرادته مرتبطان بالإرادة الإلهية وأما الصورة التي لا يمكن فيها أن تجتمع علتان على معلول واحد، فهي الصورة التي تجتمع فيها علتان موجدتان، أو علتان يمتنع الجمع بينهما في التأثير في عرض ومستوى واحد وعلى البدل كما لو فرضنا صدور إرادة واحدة من فاعلين مريدين، أو إستناد ظاهرة واحدة إلى مجموعتين من العلل (علتين تامتين).
مناقشة شبهة
تبين مما ذكرناه من توضيحات، أن إستناد وجود الأفعال الإختيارية الإنسانية إلى الله تعالى، لا ينافي إستنادها للإنسان نفسه، لأن أحدهما في طول الآخر، ولا تزاحم بينهما.
وبعبارة أخرى: إستناد الفعل للفاعل الإنساني في مستوى، بينما إستناد وجوده للّه تعالى فهو في مستوى آخر أسمى من ذلك المستوى فانه في ذلك المستوى يكون وجود الإنسان نفسه، ووجود المادة التي يحقق فعله فيها، ووجود الآلات التي يستخدمها في القيام بفعله، كلها مستندة إلى الله تعالى. إذن فتأثير إرادة الإنسان التي هي من قبيل الجزء الأخير للعلة التامة في فعله، لا ينافي إستناد جميع أجزاء العلة التامة إلى الله تعالى، فإنه تعالى هو الذي يملك بيد قدرته وجود العالم والإنسان وكل شؤونه وأحواله الوجودية، وهو الذي يفيض الوجود عليها بإستمرار، ولا تستغني عنه تعالى في أي زمان وحال، وليست لها أية إستقلالية عنه وبناء على ذلك فالأفعال الإختيارية للانسان غير مستغنية عنه تعالى أيضا، ولا يمكن لها أن تخرج عن حدود إرادته وكل صفاتها ومميزاتها وحدودها ومشخصاتها أيضا مرتبطة بالتقدير والقضاء الإلهي، وليس كما ذكر، بأن هذه الأفعال إما أن تكون مستندة لإرادة الإنسان، أو مستندة لإرادة الله، وذلك لان هاتين الإرادتين ليستا في عرض ومستوى واحد، ولا يمتنع الجمع بينهما، ولا يؤثران في تحقق الأفعال على البدلية، بل إن إرادة الإنسان كأصل وجوده نفسه، مرتبطة بالإرادة الإلهية، ووجود الإرادة الإلهية ضروري لتحققها. ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين﴾َ(التكوير:29).
معطيات الإعتقاد بالقضاء والقدر
إن الإعتقاد بالقضاء والقدر الإلهي، كما أنه يعتبر مرحلة رفيعة من معرفة الله، ويؤدي إلى تكامل الإنسان عقليا، فكذلك له آثار ومعطيات عملية كثيرة، نذكر هنا بعضا منها:
إن من يؤمن بأن حدوث الحوادث خاضع لإرادة الله الحكيمة، ومستند إلى التقدير والقضاء الإلهي، لا يخشى الأحداث المؤلمة، ولا ينهار أمامها، ولا يتملكه الجزع واليأس، فإنه حين يعتقد بأن هذه الأحداث تمثل جانبا من نظام العالم الحكيم، وتتحقق وفق مصالح وحكم، يستقبلها بأحضان مفتوحة، ليتوصل من خلال هذا الموقف المؤمن إلى ملكات فاضلة، أمثال الصبر والتوكل والرضا والتسليم وغيرها.
وكذلك لا تشده ولا تخدعه ملذات الحياة وأفراحها، ولا يصيبه الغرور والخيلاء، بها، ولا يتخذ النعم الإلهية سلما للتفاخر والإستعلاء.
إن هذه المعطيات القيمة هي التي تشير إليها الآية الشريفة: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(الحديد:22-23) وعلينا أن نؤكد على تجنب اثار ومضاعفات التفسير المنحرف لمسألة القضاء والقدر والتوحيد في التأثير المستقل، فإن التفسير الخاطئ يؤدي إلى الكسل والبطالة والمذلة وقبول الظلم والجور، والتهرب من المسؤولية، ويلزم علينا أن نعلم أن السعادة أو الشقاء الأبدي للانسان إنما هو نتيجة أفعاله الاختيارية نفسه﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت﴾(البقرة:286). ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾(النجم:39).
*دروس في العقيدة الاسلامية،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص79-85
1-إن إنطباق كل من الإرادة والقضاء الإلهين على الآخر (بحسب المورد) يتضح من تطبيق الآية 47 من آل عمران على الآية 82 من سورة يس ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.