يتم التحميل...

مناهج الجبر: الجبر الأشعري

العدل

الطوائف القائلة بالجبر في العصور الإسلامية الأُولى، انقرضت ولم يبق منها إلاَّ الفكرة السائدة بين جماعة من أهل السنَّة وهي نظرية الإِمام الأشعري، وهي عند الشهرستاني جبرية غير خالصة ولكنها عندنا لا تفترق عن الجبرية الخالصة.إنَّ الاشاعرة وإن كانوا ينزهون أنفسهم عن كونهم مجَّبِرة...

عدد الزوار: 676

الطوائف القائلة بالجبر في العصور الإسلامية الأُولى، انقرضت ولم يبق منها إلاَّ الفكرة السائدة بين جماعة من أهل السنَّة وهي نظرية الإِمام الأشعري، وهي عند الشهرستاني جبرية غير خالصة ولكنها عندنا لا تفترق عن الجبرية الخالصة.

إنَّ الاشاعرة وإن كانوا ينزهون أنفسهم عن كونهم مجَّبِرة، لكن الأصول التي اعتقدوها واتخذوها أداة للبحث، لا تنتج إلاَّ القول بالجبر، وإليك فيما يلي أصولهم وما يستندون إليه في تفسير أفعال العباد.

الأصل الأول
أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه1

إنَّ من فروع التوحيد القول بأنَّه لا خالق إلاَّ اللّه سبحانه من غير فرق بين الذوات وأفعال العباد، والآيات الواردة في القرآن الكريم مطلقة تعمّ الجميع. وإنَّما الاختلاف في تفسير هذا الأصل التوحيدي فالأشاعرة بما أنهم أنكروا وجود أي تأثير ظلّي لغيره سبحانه قالوا بوجود علّة واحدة قائمة مكان جميع العلل والأسباب (المنتهية إلى اللّه سبحانه في منهج العليّة)، فلا تأثير لأي موجود سوى اللّه سبحانه، فهو الخالق والموجد لكل شيء، كلام الإِمام الأشعري في (الإِبانة):

قال في الباب الثاني: "إِنَّه لا خالق إلاَّ اللّه وإِنَّ أعمال العبد مخلوقة للّه مقدرة كما قال: ﴿واللّه خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلونَ(الصَّافات:96). وإنَّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون، كما قال سبحانه: ﴿هَلْ مِنْ خَالِق غَيْرُ اللّه(فاطر:3)"2.

قال شارح المواقف: "إِنَّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها، واللّه سبحانه أجرى عادته بأنَّ يوجد في العبد قدرة واختياراً. فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما، فيكون فعل العبد مخلوقاً للّه إبداعاً وإحداثاً، ومكسوباً للعبد والمراد بكسبه إيَّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلاًّ له. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري"3.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأول: تفسير عموم قدرته تعالى لعامة الكائنات ومنها أفعال البشر وأنَّه لا خالق إلا هو.
الثاني: تفسير حقيقة الكسب الذي تدرعت به الأشاعرة في مقابل العدلية.

المقام الأول: في عموم القدرة
المراد من التّوحيد في الخالقية ليس هو نفي التأثير عن العلل الطولية المنتهية إليه، كيف وقد نصّ القرآن الكريم على تأثير العلل الطبيعية في آثارها كراراً، فيكون معنى التوحيد في الخالقية: إنَّ الخالق الأصيل غير المعتمد على شيء هو اللّه سبحانه وإن قيام غيره بالخلق والإِيجاد، بقدرته ومشيئته ولطفه وعنايته. فالكل مستمد في وجوده وفعله منه، لا غنى لهم عنه في حال من الحالات، ﴿يا أيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إِلى اللّه وَ اللّه هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ(فاطر:15).

ونزيد هنا بياناً فلسفياً على إبطال النظرية التي تتبناها الأشاعرة.

الوجود حقيقة واحدة
إنَّ سلب وصف المؤثريّة والعليّة عن كل شيء حتى على نحو التبعية والظلية، مضافاً إلى أنّه مخالف للحكم الفطري الذي يجده كل إنسان في نفسه حيث يعتقد بأنَّ للأشياء وللعقاقير والنباتات آثاراً، ولا معنى لخلقه سبحانه هذا الحكم الخاطئ والباطل في نفوسنا، أقول "مضافاً إلى ذلك" إنَّ البرهان الفلسفي يرده بوضوح، وذلك أنَّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة في جميع مراتبها، من الواجب إلى الممكن، فالجميع يشترك في حقيقة واحدة نعبر عنها بـ "طرد العدم". ولأجل تلك الوحدة نطلق الوجود على الجميع بمعنى واحد، ولو كانت حقيقته في الواجب مباينة لحقيقته في الممكن لوجب أن يكون لفظ الوجود مشتركاً لفظياً بينهما، وأن يطلق على الواجب بملاك آخر.

فإذا كانت حقيقة الوجود بين عامة المراتب حقيقة واحدة، فإذا ثبت التأثير لمرتبة عليا منه، يجب أن يكون ثابتاً للمراتب الدنيا أيضاً لكن حسب ما يناسب شأنها، فإنَّ حقيقة الوجود "حسب الفرض" موجودة في جميع المراتب فإذا كانت مؤثرة في مرتبة كالواجب، يجب أن تكون مؤثرة في غيرها أخذاً بوحدة الحقيقة السائدة على المراتب.

نعم يمكن أن يقال إنَّ التأثير من آثار شدة الوجود وقوته، فلا يصح تعميم أثر مرتبة إلى أخرى. ولكنه ليس بكلام تام، لأن الشدة ليست شيئاً زائداً على نفس الحقيقة بل الشدة شدة الحقيقة وتأكدها، فإذا كانت الشدّة من سنخ الوجود والحقيقة، يقتضي ذلك أن يكون الأثر لحقيقة الوجود، غاية الأمر كما تختلف المراتب من حيث الشدّة والضعف، تختلف آثارها كذلك أيضاً.فالحقيقة في جميع المراتب واحدة تختلف بالشدّة والضعف، والأثر المترتب على الحقيقة واحد لكنه يختلف بالشدّة والضعف أيضاً.

ولأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه يحكي سريان العلم إلى جميع الموجودات حتى الجمادات بقوله: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَ الاَْرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيء إِلاَّ يُسَبِّح بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَ تفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً(الإسراء:44).

فاللّه سبحانه عالم، كما أنَّ غيره عالم، ولكن يختلف الأثر باختلاف الموضوع. وبذلك يظهر أنَّ القول بحصر الخالقية باللّه سبحانه ونفيها عن غيره بتاتاً، حتى بنحو المعنى الحرفي، يخالف الآيات القرآنية أولاً، والفطرة الإِنسانية ثانياً، والبرهان الفلسفي ثالثاً.غير أنَّ إكمال البحث يتوقف على تحليل ما اعتمد عليه الأشعري من البرهان العقلي في هذا المقام.

الأدلة العقلية على خلق الأعمال
إنَّ الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه أقاموا حججاً وأدلة، بل شبهات وتشكيكات على خلق الأعمال، وأنَّ أعمال العباد مخلوقة للّه سبحانه مباشرة، وليس لقدرة العبد فيها دور. ولأجل إيقاف الباحث على مدى وهن هذه الحجج نأتي ببعضها منهم.

الدليل الأول: إنَّ المؤمن ليس موجداً لإِيمانه كما أنَّ الكافر ليس موجداً لكفره، لأن الكافر يقصد الكفر بما أنه أمر حسن، ولكنه في الحقيقة قبيح، كما أنَّ المؤمن يقصد الإِيمان بما أنه غير متعب وهو ليس كذلك.فينتج أنَّه إذا لم يكن المحدث للإِيمان والكفر بما لهما من الخصوصيات، شخص المؤمن والكافر، يكون المحدث هو اللّه سبحانه4.

يلاحظ عليه: أولا: بالنقض بأنه لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنَّ شارب الماء الذي يتخيّل أنَّه خمر، لم يشرب ماءً ولم يصدر منه عمل ولا فعل لأنَّهُ قصد شرب الخمر وكان الواقع شرب الماء، فَما وَقَعَ لَمْ يُقْصَدْ وما قُصِدَ لَمْ يَقَعْ.

وثانياً: إنَّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية والصفات الانتزاعية.فالأولى كالحرارة والبرودة تحتاج إلى محدث كما يحتاج موصوفها إليه كذلك. وأمَّا الثانية كالصِّغَر والكِبَر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء، لأن هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن ومخترعاته، فالجسم الذي هو بقدر ذراع أكبر من الجسم الذي على نصفه، والفاعل يوجد ذات الجسمين لا وصفهما وإنما ينتقل الإِنسان إليهما عند المقايسة، وعلى ضوء ذلك فالموجد للإِيمان إنما يوجد نفس الإِيمان والموجد للكفر يوجد ذات الكفر، وأمَّا كون الأول مؤلماً متعباً، والثاني قبيحاً فلا يحتاج إلى فاعل سوى الموجد الذي أوجد ذات الإيمان أو الكفر.فإن الوصفين أعني كون الإِيمان متعباً وكون الكفر قبيحاً إنما يحصلان عند المقايسة، فالإِيمان بما أنَّه يجعل الإِنسان مسؤولا أمام اللّه أولاً، وأمام الناس ثانياً، يستتبع الإِتعاب. و الكفر بما أنَّه على خلاف الفطرة والحقيقة، فإذا قيس إليهما يتصف بالقبح، فالإِتعاب والقبح لا يحتاجان إلى فاعل سوى موجد الإِيمان والكفر.

والعجب أنَّ الأشعري يعترف بالحسن والقبح العقليين هنا مع أنَّ منهجه فيهما غير ذلك.

الدليل الثاني: لا شك أنَّ الحركة الاضطرارية مخلوقة للّه سبحانه. وما هو المِلاك لإِسنادها إلى اللّه، هو المِلاك في حركة الاكتساب (الحركة الاختيارية). فما دلّ على أنَّ حركة الاضطرار مخلوقة للّه تعالى، يجب به القضاء على أنَّ حركة الاكتساب مخلوقة للّه تعالى، وذلك لوحدة ملاكهما، وهو الحدوث5.

يلاحظ عليه: إنَّ اشتراكهما في الملاك لا ينتج إلاَّ أنَّ للحركة الاكتسابية أيضاً محدِثاً، وأمَّا وحدة محدثيهما وأن محدِث الأولى هو نفس محدِث الثانية، فلا يدل عليه البرهان، لأن نسبة الحركة الاضطرارية إلى اللّه سبحانه، وسلبها عن الإنسان لأجل خروجها عن اختياره وإرادته فتنسب إلى الله سبحانه وأمَّا الحركة الاكتسابية فهي واقعة في إطار اختيار الإِنسان وإِرادته فلا وجه لمقايسة إحداهما بالأخرى.

نعم، لو قال أحد بمقالة الأشعري، وأنَّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل، كان له أن يسند الحركتين إلى اللّه سبحانه. ولكنه أوَّلَ الكلام والاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدعى نفس الدليل.

ثم إِنَّ المتأخرين من الأشاعرة، كالرازي في (مُحَصّله)، والإيجي في (مواقفه)، والتفتازاني في (شرح مقاصده)، والقوشجي في (شرحه على التجريد)، بحثوا عن المسألة (خلق الأعمال) تحت عنوان عموم قدرته سبحانه لكل شيء وأن كل موجود واقع بقدرته، ولأجل إكمال البحث نأتي ببعض ما ذكروه من الأدلة.

الدليل الثالث: لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه، لكان عالماً بتفصيل أفعاله وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ(الملك:14). وبما أنَّ الإِنسان غير عالم بتفاصيل أفعاله بشهادة أنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى، ولا نقصد جزئيات تلك الحركة، وجب القطع بأنَّ العبد غير موجد له6.

يلاحظ عليه: إنَّ الفاعل لو كان قاصداً للفعل بالتفصيل، يوجده به، ولو كان قاصداً بالإِجمال يوجده كذلك، فصانع شربة كيميائية من عدة عناصر مختلفة يقصد إدخال كل عنصر فيها على وجه التفصيل، فيلزمه العلم بها تفصيلا، والقائم بالأكل والتكلم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل، ويقصد مضغ كل حبة أو التكلم بكل حرف وكلمة إجمالا، فيلزمه العلم بهما على وجه الإِجمال.

الدليل الرابع: لو كانت قدرة العبد صالحة للإِيجاد، فلو اختلفت القدرتان في المتعلق، مثل ما إذا أراد تعالى تسكين جسم وأراد العبد تحريكه، فإما أن يقع المرادان، وهو محال. أو لا يقع واحد منهما وهو أيضاً محال، لاستلزامه ارتفاع النقيضين.أو يقع أحدهما دون الآخر وهو أيضاً محال، لأن وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر لأن اللّه تعالى وإن كان قادراً على ما لا نهاية له والعبد ليس كذلك إلاَّ أنَّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة اللّه وقدرة العبد7.

يلاحظ عليه: إننا نختار الشقّ الآخر أي وقوع مراد اللّه دون مراد العبد لأنّ قدرة اللّه في الصورة المفروضة، قدرة فعلية تامة في التأثير وقدرة العبد قدرة ممنوعة، ومن شرائط القدرة الفعلية أن لا تكون ممنوعة من ناحية قدرة بالغة كاملة. فتعلق قدرته سبحانه وإرادته على الحركة تكون مانعة عن وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير والإِيجاد، فإحداهما مطلقةو الأخرى مشروطة.

الدليل الخامس: إنَّ نسبة ذاته إلى جميع الممكنات على السوية فيلزم أن يكون تعالى قادراً على جميع الممكنات وعلى جميع مقدورات العباد. وعلى هذا ففعل العبد إمَّا أن يقع بمجموع القدرتين، أعني قدرة اللّه وقدرة العبد، وإمَّا أن لا يقع بواحدة منهما، وإمَّا أن يقع بأحدى القدرتين دون الأُخرى والأقسام الثلاثة باطلة، فوجب أن لا يكون العبد قادراً على الإِيجاد والتكوين8.

يلاحظ عليه: إنَّ لعموم قدرته سبحانه تفسيرين:

1- أن يتحقق كل شيء بقدرته سبحانه مباشرة، وبلا واسطة كما هو الحال في الصادر الأول في جميع المذاهب.

2- أن يتحقق بقدرة مفاضة منه إلى العبد، فيقوم العبد بإيجاده بحول وقوّة منه سبحانه، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة ومقدور للّه سبحانه عن طريق القدرة التي تفضل بها عليه وأقدر عبده بها على الفعل. فيكون الفعل فعل اللّه من جهة وفعل العبد من جهة أُخرى.

وبعبارة أخرى إنَّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه فالجليل والحقير والثقيل والخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى الاستواء قيامه بكل شيء مباشرة وخلع التأثير عن العلل والأسباب، بل هو سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل فالكل مخلوق له، ومظاهر قدرته وحوله.

فالأشاعرة خلعوا الأسباب والعلل وهي جنود اللّه سبحانه، عن مقام التأثير والإِيجاد. كما أنَّ المفوضة عزلت سلطانه عن ملكه وجعلت بعضاً منه في سلطان غيره. والحق الذي عليه البرهان ويصدقه الكتاب كون الفعل موجوداً بقدرتين لكن لا بقدرتين متساويتين ولا بمعنى علتين تامتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأولى وشؤونها وجنودها، ﴿وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ(المدثّر:31). وقد جرت سنة اللّه تعالى على خلق الأشياء بأسبابها فجعل لكل شيء سبباً، وللسبب سبباً إلى أن ينتهي إلى اللّه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطولية علة واحدة تامة كافية لإِيجاد الفعل ونكتفي في المقام بكلمة عن الإِمام الصَّادق عليه السَّلام:

قال: "أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاَّ بأسباب، فجعل لكل شيء سبباً وجعل لكلِ سبب شرحاً"9.

إلى هنا تم الكلام في المقام الأول وهو تفسير عموم قدرته تعالى وكون أفعال العباد مخلوقة له سبحانه.

المقام الثاني: في حقيقة الكسب
إنَّ القول بخلق الأفعال لما كان مستلزماً للجبر حاول الأشعري معالجته بإضافة الكسب إلى الخلق، قائلا بأنَّ اللّه هو الخالق والعبد هو الكاسب، ومِلاك الطاعة والعصيان هو "الكسب"، دون "الخلق". فكل فعل صادر عن كل إنسان مريد يشتمل على جهتين: "الخلق" و"الكسب".فالخلق منه سبحانه والكسب من الإِنسان. وفي الحقيقة إنَّ نظرية الكسب التي تدرع بها الأشاعرة أخذتها عن النجارية والضِرارية، فقد سبقتاها في تبني هذه النظرية حتى تخرج عن الجبرية الخالصة التي تتبناها الجهمية. والحافز لإِضافة هذا الأمر ليس إلاَّ الخروج عن مضيق الجبر إلى فسيح الاختيار لكن مع الالتزام بالأصل الثابت عندهم أعني كونه سبحانه خالقاً "لكل شيء مباشرة وبلا واسطة". والمهم هو الوقوف على حقيقة هذه النظرية، فقد اضطربت عبارات القوم في تفسيرها إلى حدّ صارت من الألغاز حتى قال الشاعر فيها:

مما يُقَال وَلا حقيقَة عِنْدَهُ   معقولة تدنو إلى الأفهام

الكَسْبُ عند الأشعرىّ، والحَالُ * عند البَهْشَمِي، وطَفْرَةُ النَّظَّام
10.

وها نحن نأتي فيما يلي بنصوصهم في المقام:

أ- الكسب: وقوع الشيء من المكتسب له بقوة مُحْدَثة

إنَّ جماعة من الأشاعرة فسّروا الكسب بتأثير قدرة العبد المحدثة في الفعل ويظهر هذا التفسير من عدة:

منهم: الشيخ الأشعري حيث يقول عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية والحركة الاكتسابية: "كما كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسباً، لأن حقيقة الكسب هو أنَّ الشيء وقع من المكتسب له بقُوة مُحْدَثَة"11.

ومنهم: المحقق التفتازاني حيث يقول في شرح (العقائد النَّسَفيّة): "فإن قيل: لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إِلاَّ كونه موجداً لأفعاله بالقصد والإِرادة، وقد سبق أنَّ اللّه تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها، ومعلوم أنَّ المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين.

قلنا: لا كلام في قوة هذا الكلام ومتانته، إلاَّ أنه لما ثبت (من جانب) بالبرهان أنَّ الخالق هو اللّه تعالى وثبت (من جانب آخر) بالضرورة أنَّ لقدرة العبد وإرادته مدخلاً في بعض الأفعال كحركة اليد دون البعض كحركة الارتعاش، إحتجنا في التفصي عن هذا المضيق إلى القول بأنَّ اللّه تعالى خالق والعبد كاسب"12.

يلاحظ عليه: إنَّه بعد لم يخرج عن هذا المضيق بل قال بأصلين متعارضين، فإذا ثبت بالبرهان أنَّه لا خالق إلاَّ هو تعالى، وفسّرت خالقيته العامة بكونه فاعلاً مباشراً لكل فعل، لم يبق لتأثير قدرة العبد مجال.فالقول بالأصلين جمع بين المتعارضين.

وبعبارة ثانية، إنَّ الخلق بتمام معنى الكلمة، إذا كان راجعاً إليه ولا تصح نسبته إلى غيره كيف يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير، فلو كان لها تأثير يكون الفعل مخلوقاً للعبد أيضاً لا للّه وحده.

و باختصار، لو كانت القدرتان في عرض واحد، فإنه يستلزم اجتماع القدرتين على مقدور واحد. ولو كانت قدرة العبد في طول قدرة اللّه سبحانه، يلزم كون الفعل مخلوقاً للعبد أيضاً، وهم يفرون من نسبة الخلق والإِيجاد إلى غير اللّه سبحانه.

ومنهم: القاضي الباقلاني فقال: "قد قام الدليل على أنَّ القدرة الحادثة لا تصلح للإِيجاد، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على جهة الحدوث فقط، بل ها هنا وجوه أُخر هي وراء الحدوث".ثم ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات، وقال: "إنَّ الإِنسان يفرّق فرقاً ضرورياً بين قولنا: "أوجد"، وقولنا: "صلى"و "صام"و "قعد"و "قام". وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى، فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان، جاز لي إثبات حالة هي متعلق القدرة الحادثة، ومن قال هي حالة مجهولة، فبيّنا بقدر الإِمكان جهتها، وعرّفنا، أىّ شيء هي، ومثّلناها كيف هي"13.

وحاصل كلامه: إنَّ للقدرة الحادثة تأثيراً في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي مِلاك الثواب والعقاب، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد. مثلا: وجود الفعل مخلوق للّه سبحانه لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه: إنَّ هذه العناوين والجهات لا تخلو من صورتين: إمَّا أن تكون من الأمور الوجودية فعندئذ تكون مخلوقة للّه سبحانه حسب الأصل المسلم.

وإمَّا أن تكون من الأمور العدمية، فعندئذ لا يكون للكسب واقعية خارجية بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإِيجاد والقدرة، فكيف تؤثر القدرة فيه، وكيف يكون مِلاكاً للثواب والعِقاب.

وباختصار: إِنَّ واقعية الكسب إمَّا واقعية خارجية متحققة، فحينئذ يكون (الكسب) مخلوقاً للّه تعالى ولا يكون للعبد نصيب في الفعل، أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمراً وهمياً وذهنياً فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتى يُثاب أو يُعاقَب.

ب- الكسب: إيجاده سبحانه الفعل مقارناً لإِرادة العبد وقدرته
يظهر من بعض أئمة الأشاعرة أنَّ المراد من الكسب هو قيامه سبحانه بإِيجاد الفعل مقارناً لإِرادة العبد وقدرته من دون أن يكون لقدرة العبد تأثير. وهذا يظهر من جماعة:

منهم: الغزالي وهو من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس وأوائل السادس قال في (الاقتصاد) ما هذا حاصله: "إنما الحق إِثبات القدرتين، على فعل واحد، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين، فلا يبقى إلاَّ استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد، وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما فتوارد القدرتين المتعلقتين على شيء واحد غير محال".

ثم حاول بيان تغاير الجهتين14.

ومنهم: الفاضل القوشجي حيث قال: "والمراد بكسبه إياه، مقارنته لقدرته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له"15.

يلاحظ عليهما: إنَّ دور العبد في أفعاله على هذا التقرير ليس إلاَّ دور المقارنة، فعند حدوث القدرة والإِرادة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل، ومن المعلوم أنَّ تحقق الفعل من اللّه مقارناً لقدرته، لا يصحح نسبة الفعل إلى العبد، معه كيف يتحمل مسؤوليته إذ لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه، وعندئذ تكون الحركة الاختيارية كالحركة الجبرية.

والحق أنّ الأشاعرة مع أنهم مالوا يميناً وشمالا في توضيح الكسب لم يأتوا بعبارة واضحة مقنِعَة. ولأجل ذلك نرى أنَّ التفتازاني يعترف بقصور العبارات عن تفهيم المراد حيث يقول: "إن صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسبٌ، وإيجاد اللّه تعالى عقيب ذلك خلقٌ، والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين، فالفعل مقدور للّه بجهة الإِيجاد ومقدور للعبد بجهة الكسب، وهذا القدر من المعنى ضروري، وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق اللّه تعالى وإيجاده مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار16.

يلاحظ عليه أمران
1- إنَّ مراده من الصرف هو توجه قدرة العبد إلى الفعل، فمجرد توجهها إلى الفعل وإن لم يكن دخيلا في وجود الفعل، كسب. ومن المعلوم أنَّ صرف التوجه لا يعدو عن نية الفعل فكما أنَّها لا تؤثر في المسؤولية إذا نوى هو وقام الآخر به، فهكذا في المقام.

2- إنَّ الشيخ التفتازاني يعترف بعجزه عن تفسير الكسب.

وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه قال: "إنَّ فساد المذهب يعلم بأحد طريقين:

أحدهما: أن يتبين فساده بالدليل.
الثاني: أن يتبين أنَّه غير معقول في نفسه.

والمقام (الكسب) من قبيل الثاني فإذا تبين أنَّه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مؤونة الكلام عليه، لأن الكلام على ما لا يعقل لا يمكن. والذي يبين لك صحة ما نقوله أنَّه لو كان معقولاً لكان يجب أن يعقله مخالف المُجبرة في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإِمامية، فإن دواعيهم متوفرة وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى. فلما لم يوجد في واحد من هذه الطوائف على اختلاف مذاهبهم، وتنائي ديارهم، وتباعد أوطانهم، وطول مجادلتهم في هذه المسألة من ادعى أنه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهمه، دل على أنَّ ذلك مما لا يمكن اعتقاده والإِخبار عنه البتَّة. ومما يدل على أنَّ الكسب غير معقول هو أنَّه لو كان معقولاً لوجب "كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه" أن يعقله غيرهم من أهل اللغات وأن يضعوا له عبارة تنبي عن معناه.فلما لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة دل على أنه غير معقول"17.

إنكار الكسب من محققي الأشاعرة
الأشاعرة وإن أصرّوا على نظرية الكسب إلاَّ أنَّ هناك رجالاً منهم أدركوا جفاف النظرية ومضاعفاتها السيئة، فنقضوا ما أبرموه وأجهروا بالحقيقة. ونخص بالذكر منهم رجالاً ثلاثة:

الأول: إمام الحرمين أبو المعالي الجُوَيْني (ت 478 هـ)، فقد صرّح بتأثير قدرة العباد في أفعالهم، وأنَّ قدرتهم تنتهي إلى قدرة اللّه سبحانه، وأنَّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسببات، وكل سبب يستمد من سببه المقدم عليه، وفي الوقت نفسه يستمد ذاك السبب من آخر، إلى أن يصل ألى اللّه سبحانه وهو الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني على الإطلاق"18.

الثاني: الشيخ الشعراني (ت973 هـ) وهو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر فقد وافق إمام الحرمين في هذا المجال، وقال من زعم أنه لا عمل للعبد فقد عاند، فإن القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء.

ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك، فلابد أنه مضطر على الاختيار19.

الثالث: الشيخ محمد عبده (ت 1323 هـ) فقد خالف الرأي العام عند الأشاعرة وصرّح بتأثير قدرة العبد في فعله ولم يبال في ذلك باعتراض رجال الأزهر الذين كانوا يُكَفّرون من قال بالعلّة الطبيعية أو بمطلق العلّة غيره سبحانه ويرددون في ألسنتهم قول القائل:

ومن يَقُلْ بالطَّبْعِ أو بالعِلَّة * فذاك كُفْرٌ عند أهل المِلّة


قال الإِمام عبده في كلام طويل: منهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق وهو غرور ظاهر(يريد المعتزلة).

ومنهم من قال بالجبر وصرّح به ومنهم من قال به وتبرأ من اسمه (يريد الأشاعرة) وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف وإبطال لحكم العقل البديهي، وهو عماد الإِيمان.

ودعوى أنَّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله 20. يؤدي إلى الإِشراك باللّه"وهو الظلم العظيم" دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإِشراك على ما جاء به الكتاب والسنَّة.فالإِشراك اعتقاد أنَّ لغير اللّه أثراً فوق ما وهبه اللّه من الأسباب الظاهرة، وأنَّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين..."21.

وقد وقف مفتي الديار المصرية على هذا النوع من التفكير عن طريق اطّلاعه على نهج البلاغة للإِمام أمير المؤمنين عليه السَّلام واتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسد آبادي، فقد كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية.

بقيت هنا آراء غير قيّمة لبعض الأشاعرة في تفسير الكسب لا يهمنا ذكرها.

القرآن وخلق الأعمال
قد عرفت الأدلة العقلية التي أقامتها الأشاعرة على مسألة خلق أعمال العباد بقدرة الله وحدها، ولكن للقوم أدلة سمعية نشير إلى بعضها.فقد استدل الشيخ الأشعري عليها في كتاب (الإِبانة) بآيتين:

الآية الأُولى: قوله سبحانه: ﴿أَتَعْبُدُون ما تَنْحِتُون واللّه خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ(الصافات:95-96).

يلاحظ على الاستدلال أمران
أ- إِنَّ الاستدلال مبني على كون "ما" في كلامه سبحانه، مصدرية وإنَّ معنى الآية: "و اللّه خَلَقَكُمْ وَ عَمَلَكُمْ". ولكن الظاهر أن "ما" موصولة بقرينة قوله (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحتُونَ)، والمراد من الموصول هنا الأصنام والأوثان، ووحدة السياق تقتضي كون "ما" في الآية الثانية موصولة أيضاً، فيكون معنى الآية: "أتعبدون الأصنام التي تنحتونها واللّه خلقكم أيها العباد والأصنام التي تعملونها". وتتم الحجة على المشركين بأنهم ومعبوداتهم مخلوقات اللّه سبحانه، فلا وجه لترك عبادة الخالق وعبادة المخلوق.

وأمَّا إذا قلنا بكون "ما"مصدرية، فتفقد الآية الثانية صلتها بالأُولى ويكون مفاد الآيتين: "أتعبدون الأصنام التي تنحتونها واللّه خلقكم أيها العباد وخلق أعمالكم وأفعالكم"، والحال أنَّه ليس لعملهم صلة بعبادة ما ينحتونه.

ب- إنَّه لو كانت "ما"مصدرية لتمت الحجة على غير صالح الخليل ولانقلبت عليه، إذ عندئذ ينفتح لهم باب العذر بحجة أنَّه لو كان اللّه سبحانه هو الخالق لأعمالنا فلماذا توبخنا وتنددنا بعبادتنا إيَّاهم.

الآية الثانية: قوله سبحانه: ﴿هَلْ مِنْ خَالِق غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(فاطر:3).

يلاحظ عليه: إنَّ الآيات الدّالة على حصر الخالقية باللّه سبحانه كثيرة في القرآن الكريم22.

لكن المهم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات فإنّ لهذا القسم منها احتمالين لا يتعين أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأُخر، ودونك الاحتمالين:

أ- حصر الخلق والإِيجاد على وجه الإِطلاق باللّه سبحانه ونفيه عن غيره بتاتاً على وجه الإِستقلال والتبعية وهذا ما تتبناه الأشاعرة.

ويَرُدّه ما مضى من الآيات الكثيرة الدَّالة على أنَّ للعلل الطبيعية دوراً في عالم الوجود بإذن اللّه سبحانه23.

ب- إنَّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء منحصرة باللّه سبحانه، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإِيجاد بمشيئته وإرادته، والكل جنود للّه سبحانه. ويدل على هذه النظرية الآيات التي تثبت للموجودات تأثيراً وللإنسان دوراً في أفعاله.

ولزيادة البيان نقول: إنَّ الآيات الواردة حول أفعال الإِنسان على قسمين: قسم يعد الإِنسان عاملا فاعلا لأفعاله، وقسم ينسب قسماً من الأفعال إلى الإِنسان. فمن القسم الأول قوله سبحانه: ﴿وَقُلِ اعمَلُوا فَسَيَرى اللّه عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ المُؤْمِنُونَ(التوبة:105). وقوله سبحانه: ﴿أطيعوا اللّه وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ(محمد:33). وقوله سبحانه: ﴿وأنْ لَيْس للإِنسانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى(النجم:39-40).

وأمَّا القسم الثاني: فحدّث عنه ولا حرج، فقد نسب في الذكر الحكيم كثيراً من الأفعال إلى الإِنسان كالجهاد، والإِنفاق، والإِحسان، والسرقة، والتطفيف، والكذب وغير ذلك من صالح الأعمال ورديها.

فعل واحد ينسب إلى اللّه وإلى العبد معاً
هناك قسم ثالث من الآيات ينسب الفعل الواحد إلى نفسه سبحانه، وإلى عبده في ضمن آيتين أو آية واحدة.

1- يقول سبحانه: ﴿إنَّ اللّه هُو الرَّزاقُ ذو القُوَّةِ المَتِينُ(الذاريات:58). فيخصّ الرَّازقية بنفسه بشهادة تقدم الضمير المنفصل "هو". وفي الوقت نفسه يأمر الإِنسان بالقيام بالرزق بالنسبة إلى من تحت يده ويقول: ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ التي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِياماً وارْزُقُوهمْ فيها واكْسُوهُمْ وقُولُوا لَهُمْ قَولا مَعْرُوفاً(النساء:5).

2- يقول سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَارِعُونَ(الواقعة:63-64). فيخص الزارعية بنفسه وذلك معلوم من سياق الآيات. وفي الوقت نفسه يعد الإِنسان زارعاً ويقول: ﴿كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَطَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ...(الفتح:29). فكيف تجتمع هذه التوسعة مع الحصر السابق.

3- يقول سبحانه: ﴿كَتَبَ اللّه لأَْغلِبَنّ أَنَا وَ رُسُلِي(المجادلة:21). فينسب الفعل الواحد وهو الغلبة في وقت واحد إلى نفسه ورسله.

4- يقول سبحانه: ﴿إِنْ تَنْصُروا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(محمد:7). فيعد نفسه ناصراً وفي الوقت نفسه يعد المؤمنين ناصرين أيضاً.

5- يقول سبحانه: ﴿وإذ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئَ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وإذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإِذْنِي(المائدة:110). ترى أنَّه سبحانه ينسب أمر الخلق إلى رسوله بصراحة، حتى أنَّ الرسول يصف نفسه به ويقول ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ(آل عمران:49). ومع ذلك أنَّ القرآن الكريم يخصّ الخالقية باللّه سبحانه في كثير من الآيات التي تعرفت عليها، ولا يحصل الجمع بين هذه الآيات إلاَّ بالقول بأنَّ الخالقية النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء تختص به سبحانه، ومثله سائر الأفعال من الرزق والزرع والغلبة والنصرة، فالكل بالمعنى السابق مختص به سبحانه لا يعدوه، لأنها من خصائص الواجب ولا يتصف بها الممكن. وأَمَّا الفعل المعتمد على الواجب المستمد منه فهو من شأن العبد يقوم به بإقدار منه سبحانه وإذن. ولأجل ذلك يكرر سبحانه لفظة " بإذني"أو "بإذن اللّه"في الآيات المتقدمة وهذا واضح لمن عرف الفباء القرآن. والأشعري ومن تبعه قصروا النظر على قسم واحد، وغفلوا عن القسم الآخر، ولا يقف على ذلك إلاَّ من فسّر الآيات تفسيراً موضوعياً.

الأصل الثاني: علمه الأزلي المتعلق بأفعال العباد
هذا هو الأصل الثاني الذي اعتمد عليه اتباع الإِمام الأشعري. وبيانه: إنَّ ما علم اللّه عدمه من أفعال العباد فهو ممتنع الصدور عن العبد، وإِلاَّ جاز انقلاب العلم جهلا. وما علم اللّه وجوده من أفعاله، فهو واجب الصدور عن العبد، وإلاَّ جاز ذلك الانقلاب، ولا مخرج عنهما لفعل العبد. فيبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب، والممتنع.

وكأن هذا الاستدلال، استدلال نقضي على القائلين بالاختيار.

ولأجل ذلك يقول المستدل بعد نقله: "إن ما ذكرنا يبطل التكليف لابتنائه على القدرة والاختيار، فما لزم القائلين بمسألة خلق الأعمال فقد لزم غيرهم لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلي المتعلق بالأشياء" حتى أنَّ الإمام الرازي ذكر هذا الدليل متبجحاً بقوله: "و لو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلا بالتزام مذهب هشام وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها".

أقول: يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنَّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم أمر غير ثابت ولم يقل به بعد انتمائه إلى الإِمام الصادق عليه السَّلام: إنَّ الإِجابة عن هذا الاستدلال واضحة جداً، وإِنَّ زعم الرازي أنَّ الثقلين لا يقدرون على حلّ عقدته، وهي كما أوضحناه عند البحث عن القضاء والقدر أنَّ علمه الأزلي لم يتعلق على صدور كل فعل عن فاعله على وجه الإطلاق، بل تعلق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك تعلق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر، بلا شعور ولا اختيار، كما تعلق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش على وجه الجبر عالماً بلا اختيار، ولكن تعلق علمه سبحانه بصدور فعل الإِنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية.فتعلق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلا مختاراً، وأنَّ كل فعل منه يصدر اختياراً، ومثل هذا العلم يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإِنسان.

الأصل الثالث: إرادته الأزلية المتعلقة بأفعال العباد
هذا هو الأصل الثالث الذي اعتمد عليه الأشاعرة، قالوا: ما أراد اللّه وجوده من أفعال العباد وقع قطعاً، وما أراد اللّه عدمه منها لم يقع قطعاً، فلا قدرة له على شيء منهما24.

يلاحظ عليه: إنَّ هذا الاستدلال نفس الاستدلال السابق لكن بتبديل العلم بالإِرادة، فيظهرالجواب عنه مما قدمناه من الجواب عن سابقه. وبما أنّ هذا البحث مما كثر النقاش فيه من جهات أُخرى نفيض القول فيه حسب ما يسعه المقام، فيقع البحث في جهات:

الجهة الأُولى: هل إرادته سبحانه نفس علمه بالأصلح أو شيء آخر؟ نقول إِنَّ الإِرادة صفة كمال لا يمكن سلبها عن الذات بما هي كمال، وهي غير العلم.نعم، الإِرادة المتجددة الحادثة المتدرجة الوجود، لا تليق بساحته سبحانه، وإنما اللائق بها كمال الإِرادة متجردة عن وصمة الحدوث والتدريج وإن لم نعرف حقيقتها.

الجهة الثانية: على القول بأنَّ إرادته غير علمه وقع الكلام في شمول إرادته سبحانه لأفعال الإِنسان، أو أنَّ أفعاله خارجة عن إطار الإِرادة الإِلهية. فالمعتزلة على الثاني "حفظاً لاختيار الإِنسان وتجنباً عن القول بالجبر" والأشاعرة على الأول لكن بالالتزام بتعلق إرادته سبحانه على أفعال البشر من غير واسطة كما هو الحال في غير الأفعال.

وأمَّا الإِمامية فقد اختلفت آراؤهم، فيظهر من الشيخ الصدوق سعة إرادته سبحانه لأفعال العباد، لكن بوجه مجمل لا يعلم كنه مراده منه. وذهب الشيخ المفيد إلى خلافه وقال: "إنَّ اللّه تعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الأفعال ولا يشاء إلا الجميل من الأعمال ولا يريد القبائح ولا يشاء الفواحش، تعالى الله عمَّا يقول المبطلون علواً كبيراً.قال اللّه تعالى: ﴿وما اللّه يُريدُ ظُلْماً لِلعباد وقال: ﴿يُريدُ اللّه بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُريد بِكُمُ العُسْرَ..."إلى أن قال: "فلو كان سبحانه مريداً لمعاصيهم لنافى ذلك التخفيف واليُسْر لهم، فكتاب اللّه شاهد على ضد ما ذهب إليه الضالون المفترون على اللّه الكذب"25.

وقد صارت هذه المسألة مائزة بين الأشاعرة والمعتزلة واتَّخذ كل من الفريقين نتيجة رأيه شعاراً لمنهجه. ولأجل ذلك لما دخل القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 1415 هـ) دار الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الإسفرائيني الأشعري (ت 413 هـ)، قال القاضي: "سبحان من تنزَّه عن الفحشاء"(يريد بذلك أنَّ القول بسعة إرادته لأفعال الإِنسان يستلزم أنَّه أراد الفحشاء). فأجابه أبو إسحاق بقوله: "سبحان من لا يجري في ملكه إلاَّ ما يشاء"(مريداً بذلك أنَّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بوجود أشياء في سلطانه ومملكته خارجة عن مشيئته)26.

وعلى كل تقدير، فالحق تعلُّق إرادته بكل ما يوجد في الكون من دون فرق بين فعل الإِنسان وغيره، ولا يقع في ملكه إِلاَّ ما يشاء ولكن لا على الوجه الذي ذهبت إليه الأشاعرة من أنَّ ما يدخل في الوجود فهو بإرادته تعالى من غير واسطة سواء أكان من الأمور القائمة بذاتها أو التابعة لها من الأفعال بلا واسطة. فإنه رأي زائف، لما دللنا عليه من أنَّ نظام الوجود، نظام الأسباب والمسببات وأنَّه لا تتعلق إرادته سبحانه على خلق شيء بلا توسيط أسبابه وعلله وقد عرفت البرهان الفلسفي على ذلك والآيات القرآنية27.

فالأشاعرة وإن أصابوا في القول بسعة الإِرادة لكنهم أخطأوا في جعل متعلقها نفس الفعل بلا واسطة، ولا يترتب على ذلك سوى الجبر الذي يتبنونه. بل الحق تعلق إرادته على جميع الكائنات لكن عن طريق صدورها عن أسبابها وعللها. فإنَّ القول بخروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه لغاية تنزيهه تعالى عن وصمة القبائح والشرور يستلزم القول بإثبات الشركاء للّه سبحانه بالحقيقة، لأنه يمثل الإِنسان خالقاً لأفعاله مستقلاً في إيجادها، وهو كما قال صدر المتألهين: "أشنع من مذهب من جعل الأصنام والكواكب شفعاء عند اللّه ويلزمهم أنَّ ما أراد ملك الملوك لا يوجد في ملكه، وأنَّ ما كرهه يكون موجوداً فيه وذلك نقصان شنيع، وقصور شديد في السلطنة والملكوت تعالى القيوم عن ذلك علوّاً كبيراً"28.

ولكنَّا، نعذّر الطائفتين، فإحداهما تعلقت فكرتها بتنزيهه سبحانه فلم تَرَ بُدَّاً من القول بعدم سعة إرادته لأفعال العباد والأُخرى أرادت توحيده وتنزيهه من الشرك والثنويّة فلم تر بداً من القول بسعة إرادته.

والحق إمكان الجمع بين التنزيه والتوحيد بالبيان التالي:

الجهة الثالثة: إنَّ القول بسعة إرادته سبحانه يبتني على مقدمات ثابتة:

1- سعة قدرته وخالقيته سبحانه، وأنَّ كل ما في صفحة الكون من دقيق وجليل، وذات وفعل، مخلوق للّه سبحانه على البيان الذي سمعت.

2- إنَّ الوجود الإِمكاني وجود فقير قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شؤونه لا في ذاته ولا في فعله، وإِنَّ غناء فعل الإِنسان عن الواجب يستلزم خروجه عن حد الإِمكان وانقلابه موجوداً واجباً،و هذا خلف فما في الكون يجب أن يكون منتهياً إلى الواجب قائماً به قيام المعنى الحرفي بالاسمي. فالقول باستقلال الإِنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.

3- إرادته سبحانه نفس ذاته، فهو علم كله وقدرة كله، وحياة كله، وإرادة كله، وإن لم يتحقق لنا، كنه إرادته.

ففي ضوء هذه الأصول الثلاثة تثبت سعة إرادته بوضوح ولا يحتاج إلى التأكيد والتبيين.

هذا حال الدلائل العقلية، وهناك آيات في الذكر الحكيم تؤيد عموم إرادته:

1- يقول سبحانه: ﴿وَمَا تَشاؤُون إلاَّ أَنْ يَشاءَ اللّه رَبُّ العَالَمِينَ(التكوير:29).
2- ويقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه(يونس:100). والآية وإن كانت ناظرة إلى ظاهرة خاصة وهي الإِيمان، ولكنها تؤدي ضابطة كلية في جميع الظواهر.

3- ويقول سبحانه: ﴿ما قَطَعْتُمْ مِن لِينَة أَوْ تَرَكْتُموها قَائِمَةً على أُصولِهَا فَبِإِذْنِ اللّه وَ لِيُخْزِىَ الفاسِقِينَ(الحشر:5). وهذه الآية قرينة على أنَّ الآية السابقة كنفس هذه الآية بصدد إعطاء الضابطة، وإن كان البحث فيهما في إطار الإِيمان وقطع اللينات أو تركها. وهناك آيات بهذا المضمون تركنا إيرادها29.

هذا ما يرشدنا إليه الذكر الحكيم، وعليه تضافرت أحاديث أئمة أهل البيت.

1- روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن قرط عن أبي عبداللّه عليه السَّلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: "من زعم أنَّ اللّه تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على اللّه، ومن زعم أنّ الخير والشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه، ومن زعم أنَّ المعاصي من غير قوة اللّه، فقد كذب على اللّه، ومن كذب على اللّه أدخله النَّار"30.

2- روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه عليه السَّلام قال: "إنَّ اللّه أكرم من أن يكلف النَّاس ما لا يطيقون واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد"31.

3- وروى عن حمزة بن حمران قال: قلت له: "إنَّا نقول إنَّ اللّه لم يكلف العباد إلاَّ ما آتاهم، وكل شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع، ولا يكون إلاَّ ما شاء اللّه، و 2009-08-01