التوحيد في الربوبية
التوحيد
انحصار التّدبير في الله سبحانه: يُستفاد بجلاء من مطالعة عقائد الوثنية في كتب الملل والنحل أنَّ مسألة التَّوحيد في الخالقية كانت موضع اتفاق، وأنَّ الإِنحراف كان في مسألة التدبير أوّلا، والعبادة ثانياً. فكان الوثنيون موحدين في أمر الخلقة مشركين في الربوبية ثم في العبادة.
عدد الزوار: 677
انحصار التّدبير في الله سبحانه
يُستفاد بجلاء من مطالعة عقائد الوثنية في كتب الملل والنحل أنَّ مسألة التَّوحيد في الخالقية كانت موضع اتفاق، وأنَّ الإِنحراف كان في مسألة التدبير أوّلا، والعبادة ثانياً. فكان الوثنيون موحدين في أمر الخلقة مشركين في الربوبية ثم في العبادة.
وكان الشّرك في العبادة عاماً، بخلاف الشّرك في التدبير فلم يكن مثله في السعة والشمول.
وما ذكرناه يجده التالي للكتاب العزيز، قال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأَرْضَ لَيَقولُنَّ الله﴾(لقمان:25) ومثله في سورة الزّمر، الآية 38.
وقال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾(الزخرف:9).
وقال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنّى يُؤْفَكُون﴾(الزخرف:87).
وهذه الآيات تعرفنا موقف الوثنيّين في مسألة التوحيد في الخالقية، وأنَّ تلك العقيدة كانت عامة للمشركين أو لأكثرهم في الجزيرة العربية.
نعم، كان الاعتقاد بوجود مبدأين وخالقين لهذا العالم، أحدهما: "يزدان" والآخر: "أهريمن" أمراً مشهوراً بين "الزرادشتيين" ولكن عقيدتهم تحيط بها هالة من الإِبهام والغموض، كعقيدة البراهمة والبوذيين والهندوكيين في هذا المجال والبحث فيه خارج عن إطار الموضوع.
وأمَّا مسألة التوحيد في التدبير فلم تكن أمراً مسلَّماً عندهم، بل الشرك في التدبير كان شائعاً بين الوثنيين، حيث كانوا يقولون بأنه ليس للكون سوى خالق واحد وهو موجد السَّماوات والأرض وخالقهما ولكنه بعد أن خلق الكون فوّض تدبير بعض أُموره إلى واحد أو أكثر من خيار خلقه، واعتزل هو أمر التدبير. وهذه المخلوقات المفوّض إليها أمر التدبير كانت في نظر هؤلاء عبارة عن "الملائكة" و"الجن" و"الكواكب" و"الأرواح المقدسة" و....التي تكفلت كل واحدة منها تدبير جانب من جوانب الكون على حدّ زعمهم.
إنَّ عبدة الكواكب والنجوم في عصر بطل التوحيد "إبراهيم" كانوا من المشركين في أمر التدبير، حيث كانوا يعتقدون بأنَّ الأجرام العُلْوية هي المتصرفة في النظام السُّفلي من العالم وأنَّ أمر تدبير الكون ومنه الإِنسان، فوّض إليها فهي أرباب لهذا العالم ومدبرات له لا خالقات له. ولأجل ذلك نجد أنَّ إبراهيم يرد عليهم بإبطال ربوبيتها عن طريق الإِشارة إلى أُفولها وغروبها ويقول: إذا كانت هذه الأجرام حسب زعمكم هي المدبرات للموجودات الأرضية ومنها الإِنسان، فيجب أن يكون لها إشراف دائم على المدبّرات، واتصال دائم بالعالم السفلي الذي يقع تحت تدبيرها ولكنه لا يجتمع مع الأفول والغروب، لأنهما يستلزمان غَيْبة المدبِّر عن مدبَّره بالفتح وجهله بحاله، فيكون دليلا قاطعاً على عدم كونها مدبِّرة للموجودات الأرضية.
ولأجل أنَّ شِرْكَ عَبَدة الأجرام كان شركاً في الربوبية والتدبير نرى أنَّ إبراهيم يستعمل في طرح عقيدتهم وردّها لفظ "الربّ".يقول سبحانه حاكياً عنه ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلَ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذا رَبِّي﴾(الأنعام:76) وقال أيضاً: ﴿فَلَمّا رَأَى القَمَرَ بازغاً قَالَ هَذَا رَبّي﴾(الأنعام:77) فاستعمل لفظة "الرَّبّ"فيهما وفي غيرهما من الآيات الواردة في احتجاجه مع المشركين، ولم يستعمل كلمة "الخالق"، للفرق الواضح بين التوحيدين وعدم إنكارهم التوحيد الأول وإصرارهم على الشّرك في الثاني.
وأمَّا لفظة "الرّب" في لغة العرب فهي بمعنى المتصرف والمدبّر والمتحمل أمر تربية الشيء، وكأنه بمعنى الصاحب. وهذه، أعني التدبير والتصرف، من لوازم كون الشخص صاحباً ومالكاً. فربّ الضيعة يقوم بأمرها، وربّ البيت والغنم بالتصرف اللازم فيهما.
وباختصار، إنَّ في زعم المشركين أنَّ مقام الخلق غير التدبير وأنَّ الذي يرتبط بالله إنما هو الخلق والإِيجاد وأمَّا التدبير فيتعلق بموجودات أُخرى غير الله سبحانه وتعالى.فهي المتصرفات فيه وقد فوّض إليها تدبير عالم الطبيعة، وليست لله تعالى أية دخالة في أمر تدبير الكون وإدارته وتنظيم شؤونه والتصرف فيه.
هذه حقيقة الشّرك في التدبير ووجه الفرق بينه وبين الشّرك في الخالقية ونرى ذلك الشّرك في كلام عمر بن لُحَىّ وهو أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان وعندما سألهم عن شؤونها قالوا:
"هذه أصنام نَعْبُدُها فَنَسْتَمْطِرُها فَتُمْطِرُنا، ونَسْتَنْصِرُها فَتَنْصُرُنا، فقال لهم:أفلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض العرب فيعبدوه".فاسْتَصْحَب معه صنماً كبيراً باسم "هُبَلْ" ووضعه على سطح الكعبة المشَرَّفة ودعا الناس إلى عبادته1.
وها هنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي:إنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور أنَّ الوثنية تعتقد بأنَّ هذه الأصنام الحجرية والخشبية هي ذاتها المتصرفة والمدبرة للكون إذ لا يصدر ذلك عن عاقل، بل كانوا يعتقدون بكونها أصناماً للآلهة المدبّرة لهذا الكون فُوّض إليها إدارته. ولما لم تكن هذه الآلهة المزعومة في متناول أيديهم وكانت عبادة الموجود البعيد عن متناول الحسّ واللمس صعبة التصور، عمدوا إلى تجسيد تلك الآلهة وتصويرها في أوثان وأصنام ورسوم وأجسام وقوالب من الخشب والحجر، وصاروا يعبدونها عوضاً عن عبادة أصحابها الحقيقيين وهي الآلهة المزعومة.
ثم إنَّ الاعتقاد بربوبية غير الله سبحانه كما يتصور في مسألة التكوين فَيَعْتَقِد المشرك بكون المَلَك أو الجنّ أو غيرهما متصرفاً في العالم، فكذلك يتصور في عالم التشريع. فمن أعطى زمام التشريع والتقنين أو الحلال والحرام إلى الإِنسان فقد اتخذه ربّاً لنفسه وصاحباً لها، ولأجل ذلك نرى أنَّ القرآن الكريم يصرّح بأنَّ اليهود والنصارى اتخذوا الأحبار والرّهبان أرباباً لأنفسهم ولم يكن الاعتقاد بربوبيتهم بصورة الاعتقاد بتصرفهم في العالم السُّفلي وإنما كان يتجلَّى في اتخاذهم أرباباً وأصحاباً لأنفسهم في إطار التقنين فاستحلوا ما أحلّوه، وحرّموا ما حرموه. يقول سبحانه: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهُبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله﴾(التوبة:31) ويقول عزّ وجل: ﴿وَلاَ يَتَّخِذُ بَعضُنا بَعضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله﴾(آل عمران:64)
وحصيلة البحث
1-.إِنَّ ربوبية الله عبارة عن مدبريته تعالى للعالم لا عن خالقيته.
2- دلّت الآيات التي ذكرناها على أنَّ مسألة التوحيد في التدبير لم تكن موضع اتفاق ،بخلاف مسألة "التوحيد في الخالقية" وأنَّه كان في التاريخ ثمة فريق يعتقد بمدبريّة غيرالله للكون كله أو بعضه، وكانوا يخضعون أمامها باعتقاد أنها أربابٌ.
3- وبما أنَّ الربوبية في التشريع غير الربوبية في التكوين فقد تكون بعض الفِرَقِ موحدة في الثاني ومشركة في الأول فاليهود والنصارى تورطوا في "الشرك الربوبي التشريعي"لأنهم أعطوا زمام التقنين والتشريع إلى الأحبار والرهبان وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فكأنهم فُوّضوا أمر التشريع إليهم.
وبذلك يتجلَّى أنَّ التوحيد في الربوبية هو الاعتقاد بأنَّ الخير والشّر وتدبير الحياة والكون كلّها بيد الله سبحانه وأنَّ الإِنسان بل كل ما في الكون لا يملك لنفسه شيئاً من التدبير، وأنّ مصير الإنسان في حياته كلها إليه سبحانه ولو كان في عالم الكون أسباب ومدبرات له، فكلها جنود له سبحانه يعملون بأمره ويفعلون بمشيئته.ويقابله الشرك في الربوبية وهو تَصَوُّر أن هناك مخلوقات لله سبحانه لكن فَوّض إليها أمر تدبير الكون ومصير الإنسان في حياته تكويناً أو تشريعاً وأنَّه سبحانه اعتزل هذه الأُمور بعد خلقهم وتفويض الأمر إليهم.
هذا خلاصة التوحيد والشّرك في مجال الربوبية وإنما الكلام في إقامة الدليل عليه:
أدلة التوحيد في الربوبية
1- التدبير لا ينفك عن الخلق
إنَّ النكتة الأساسية في خطأ المشركين تتمثل في أنهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسسة وتصوروا أنهما من نوع واحد.
إنَّ تدبيره سبحانه لهذا العالم ليس كتدبير حاكم البلد بالنسبة إلى مواطنيه، أو ربّ البيت بالنسبة إلى أهله حيث إنَّ ذاك التدبير يتمّ بإصدار الأوامر، ولكن التدبير في الكون في الحقيقة إدامة الخلق والإِيجاد وقد سبق أنَّ الخالقية منحصرة في الله سبحانه فالقول بالتوحيد فيها يستلزم القول بالتوحيد في التدبير.
توضيح ذلك: إنَّ كل فرد من النظام الإِمكاني بحكم كونه فقيراً ممكناً فاقد للوجود الذاتي، لكن فقره ليس منحصراً في وجوده في بدء تحققه وإنما يستمر هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة. فهو محتاج في إدامة وجوده بل حتى في علاقاته روابطه وانسجامه مع مجموع العالم. وحقيقة التدبير ليست إلاّ خلق العالم وجعل الأسباب والعلل بحيث تأتي المعاليل والمُسَبَّبات دُبُر الأسباب وعقيب العلل، وبحيث تظهر أجزاء الكون إلى الوجود و راء بعضها البعض تباعاً، وبحيث يؤثر بعضها في البعض الآخر حتى يصل كل موجود إلى كماله المناسب وهدفه المطلوب. فإذا كان المراد من التدبير هو هذا، فهو بعينه عبارة عن مسألة الخلق، فكيف يمكن أن نعتقد بأنَّ التدبير مغاير للخلق ونعتبرهما أمرين مختلفين؟
إن تدبير الوردة ليس إلا تكّونها من المواد النيتروجينية الموجودة في التربة مع استنشاقها لثاني أوكسيد الكاربون من الهواء وامتصاصها لأشعة الشمس وحدوث سلسلة معقدة من التفاعلات الكيميائية في خلاياها نتيجة ذلك، لتنمو بالتدريج وتَتَفَتَّح وَتَخْضَر وتُزْهِر. وليس كل منها إلا شعبة من الخلق. ومثلها الجنين مذ تكونه في رحم الأُم، فلا يزال يخضع لعمليات التفاعل والنمو حتى يخرج من بطنها، وليست هذه التفاعلات إلاّ شعبة من عملية الخلق وفرع منه وإيجاد بعد إيجاد.
ولأجل وجود الصلة الشديدة بين التدبير والخلق نرى أنه سبحانه بعدما يذكر مسألة خلق السَّماوات والأرض يطرح مسألة تسخير الشمس والقمر الذي هو نوع من التدبير.
ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق وقد عرفت أن لا خالق إلاّ الله.
2- وحدة النظام دليل على وحدة المُدَبِّر
إنَّ مطالعة كل صفحة من صفحات الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحّد، وكأنَّ أوراق الكتاب التكوينيـ على غرار الكتاب التدويني ـشُدّ بعضها إلى بعض بيد واحدة وأُخرجت في صورة موحدة.
إنَّ القوانين والسنن الحاكمة على الموجودات الطبيعية كليّة وشاملة، بحيث لو أُتيح لأحد أن يكشف ناموساً طبيعياً في نقطة من نقاط الكون فهو يكشف قانوناً كلياً سائداً على النظام من غير فرق بين أرضِيّه وفَلَكِيّه.
إنَّ وحدة النظام وشمول السنن تقودنا إلى موضوعين:
1- ليس للعالم إلاّ خالق واحد.
2- ليس للعالم إلاّ مُدَبّر واحد.
وعند ذلك يتجلى مفاد قوله سبحانه: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ تَبَارَك الله رَبُّ العالَمِين﴾(الأعراف:54)... و﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾(الرعد:2).
إنَّ جملة "له الخلق"إشارة إلى التوحيد في الخالقية.
وجملة "والأمر"إشارة إلى التوحيد في التدبير الذي هو نوع من الحاكمية.
وباختصار، إنَّ وحدة النظام وانسجامه وتلاحمه لا تتحقق إلاّ إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبر واحد، ولو خضع الكون لإِدارة مدبرين، لما كان من النظام المُوَحَّد أي أثر لأن تعدد المدبِّر والمنظِّم بحكم اختلافهما في الذات أو في المُصَنِّفات والمُشَخِصات يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإِدارة، ويستلزم تعدد التدبير فناءَ النظام الموحد وغيابه.
وبعبارة أخرى، إنَّ المدبِرَيْن إن كانا متساويين من كل الجهات لم يكن هنا اثنينية في المدبر، وإن لم يكونا متساويين بل كان هناك اختلاف بينهما في الذات أو في عوارضها، فالاختلاف فيها يؤثر اختلافاً في التدبير وهو خلاف الحسّ.
إلى هنا خرجنا بهاتين النتيجتين:
الأُولى: التدبير نوع من الخلق، والتوحيد في الثاني يلازمه في الأول.
الثانية: إن وحدة النظام وانسجامه وتلاصقه وتماسكه كاشف عن وحدة التدبير والمُدَبّرِ.
إجابة عن إشكال
إنَّ هناك إشكالاً دارجاً في الألسن وهو أَنَّ الأرباب المفروضين وإن كانوا متكثري الذوات ومتغايريها ويؤدي ذلك بالطبع إلى اختلاف الأفعال وتدافعها، لكن من الممكن أن يتواطأوا على التسالم وهم عقلاء، ويتوافقوا على التلاؤم رعاية لمصلحة النظام الواحد وتحفظاً على بقائه. هذا هو الإِشكال.
وأمَّا الإِجابة فبوجود الفرق الواضح بين العقلاء والأرباب المفروضين فإِنَّ عمل العقلاء مبني على علومهم وليست هي إلاَّ قوانين كلية مأخوذة من النظام الخارجي الجاري في العالم.فللنظام الخارجي نوع تقدم على تلك الصور العلمية وهي تابعة لنفس النظام الخارجي، فعند ذلك يتصالح العقلاء المتنازعون حسب ما تنكشف لهم المصلحة، فيأخذون بالطريق الوسط الّذي تجتمع فيه مصالحهم وأغراضهم وغاياتهم.هذا هو حكم العقلاء المتنازعين أولاً فالمتنازلين ثانياً حسب تطابق أعمالهم على النظام السائد.
وأما الأرباب المفروضون فالأمر فيهم على العكس لأن الكيفية الخارجية تتبع علمهم لما عرفت من أنَّ التدبير ليس منفكاً عن الخلق والإِيجاد، وليس شأنهم شأن مُدَراء الدوائر والمنشآت حيث إنَّ شأنهم التبعية للسنن السائدة فيها كما عرفت، فإنّ تدبير الآلهة تدبير تكويني ينشأ عن الخلق والإِيجاد ولو بقاءً لا حدوثاً، فعند ذلك يكون الخارج تابعاً لعلمهم لا أنهم يتبعون السنن الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك فلا معنى للتوافق في التدبير.
وباختصار هناك فرق بين تدبير خال عن الإيجاد والخلق كرئيسين بالنسبة إلى مرؤوسيهما، فيمكن تصالحهما على كيفية الاستفادة منها، وبين تدبير ملازم للخلق والإِيجاد وإدامة الحياة واستمرار الوجود، فالرئيس في الأول يقتفي السنن السائدة والرئيس في الثاني يوجد السنن ويبدعها.
3- القرآن والتَّوحيد في الرّبوبية
إنَّ القرآن الكريم ينكر أي مدبّر سوى الله تعالى ويستدلّ على ذلك ببرهان ذي شقوق وقد جاء البرهان ضمن آيتين، تتكفل كل واحدة منهما ببيان بعض الشقوق منه، وإليك الآيتين:
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(الأنبياء:22).
﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(المؤمنون:91).
وأمَّا مجموع شقوق البرهان فبيانها بما يلي:
إنَّ تصور تعدّد المدبر لهذا العالم يكون على وجوه:
1- أن ينفرد كل واحد من الآلهة المدبرة بتدبير مجموع الكون باستقلاله بمعنى أن يعمل كل واحد ما يريده في الكون دونما منازع، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير، لأنَّ المدبّر متعدّد ومختلف في الذات، وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾.
2- وإما أن يدبر كل واحد قسماً من الكون الّذي خلقه وعندئذ يجب أن يكون لكل جانب من الجانبين نظام خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به أصلاً وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام المشهود في الكون، في حين أننا لا نرى في الكون إلاّ نوعاً واحداً من النظام يسود كل جوانبه من الذرَّة إلى المجرَّة وإلى هذا الشق أشار بقوله في الآية الثانية: ﴿إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ﴾.
3- أن يتفضل أحد هذه الآلهة على البقية ويكون حاكماً عليهم، ويُوَحّد جهودهم وأعمالهم، ويسبغ عليها الانسجام، وعندئذ يكون الإِله الحقيقي هو هذا الحاكم دون البقية وإلى هذا يشير قوله سبحانه: ﴿وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض﴾.
فتلخص أنَّ الآيتين بمجموعهما تشيران إلى برهان واحد، ذي شقوق تتكفل كل واحدة منهما ببيان بعضها.
التوحيد في التدبير في أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السَّلام
جاءت الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السَّلام حول هذا القسم من التَّوحيد مركزة على الدلائل الّتي تقدم ذكرها.
يقول الإمام الصادق عليه السَّلام: "فلما رأينا الخلقَ منظماً والفُلك جارياً، واختلافَ الليل والنهار والشمس والقمر، دلّ صحة الأمر والتدبير، وائتلاف الأمر على أنَّ المدبر واحد"2.
وسأل هشام بن الحَكَم الإِمام الصادق عليه السَّلام: "ما الدليل على أنَّ الله واحد؟ "قال: "اتّصالُ التدبير وتمامُ الصُّنع كما قال الله عزّ وجل: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾3.
سؤال وجواب
إنَّ التَّوحيد في التدبير وأنَّه لا مدبر سواه لا يجتمع مع تصريح القرآن بوجود مدبرات في الكون يقول سبحانه: ﴿فَالمُدَبّراتِ أمراً﴾(النَّازعات:5) ويقول عز وجل: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً﴾(الأنعام:61). ولا شك أنَّ هؤلاء الحفظة إذ يراقبون البشر ويحفظونهم من الشر، فلا محالة يكونون مدبرين لهم بنحو ما.
والجواب عنه بما عرفته منا غير مرة من أنَّ معنى التَّوحيد في الخالقية أو الربوبية ليس كونه سبحانه خالقاً لجميع الأشياء مباشرة وبلا سبب ولا مدبراً كذلك، بل معناه أنَّه ليس في الكون خالق أو مدبر مستقل سواه، وأنَّ قيام الأشياء الأُخرى بدور الخلقة والتدبير هو على وجه التبعية لإِرادته سبحانه. والاعتراف بمثل هذه المدبرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه.ومن له أدنى إلمام بألف باء المعارف والمفاهيم القرآنية يقدر على الجمع بين تلكما الطائفتين من الآيات كما أوضحنا ذلك عند البحث عن الخالقية، ولأجل إيضاح الحال نأتي بكلام العلاّمة الطباطبائي في المقام.
الملائكة وسائط في التدبير
الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءاً وعوداً، على ما يعطيه القرآن الكريم، بمعنى أَنَّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة، وبعده.
أمَّا في العود، أعني حال ظهور آيات الموت وقبض الروح وإجراء السؤال وثواب القبر وعذابه، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك مجدداً، والحشر وإعطاء الكتاب ووضع الموازين، والحساب، والسوق إلى الجنة أو النار فوساطتهم فيها غنية عن البيان. والآيات الدّالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها والأخبار المأثورة فيها عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم السَّلام فوق حدّ الإِحصاء. وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن المداخلة فيه، وتسديد النبي، وتأييد المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار.
وأمَّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها قوله سبحانه: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً *فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾(النّازعات:1-5).
فإنَّ المراد من "النّازعات"الّتي أقسم بها القرآن هو الملائكة الّتي تنزع الأرواح من الأجساد، و"غَرْق" كناية عن الشديد في النزع.والمراد من "الناشطات" الّتي تخرج الأرواح برفق وسهولة. و"السابحات"النازلة من السماء مسرعة والسبح الإِسراع في الحركة كما يقال للفرس سابح إذا أسرع في جَرْيه. و"السابقات" نَفْسُ الملائكة لأنها سبقت ابن آدم بالخير والإيمان والعمل الصالح و"فالمُدبِّرات أمر"الملائكة المدبرة لأُمور الكون.
فشأن الملائكة أن يتوسطوا بينه تعالى وينفذوا أمره كما يستفاد من قوله تعالى:
﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل ِوَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون﴾(الأنبياء:26-27).
وقوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(النحل:50).
ولا ينافي ما ذكرنا (توسطهم بينه تعالى وبين الحوادث وكونهم أسباباً تستند إليها الظواهر الكونية) إسناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادية فإنَّ السببية طولية لا عَرْضية فإنَّ السبب القريب سبب للحادث، والسبب البعيد سبب للسبب.
كما لا ينافي توسطهم واستناد الحوادث إليهم، استناد الحوادث إلى الله تعالى، وكونه هو السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبية فإنَّ السببية طولية كما سمعت لا عرضية. ولا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريبة، وقد صَدّق القرآن الكريم استناد الحوادث الطبيعية كما صدّق استنادها إلى الملائكة.
وليس لشيء من الأسباب استقلال في مقابله تعالى حتى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه، إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقربين. فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كل شيء من كل جهة، فالملائكة لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
فَمَثَل الأشياء في استنادها إلى الأسباب المترتبة: القريبة والبعيدة، وانتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد، كمثل الكتابة يكتبها الإِنسان بيده وبالقلم، فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد الّتي توسلت إلى الكتابة بالقلم، وإلى الإِنسان الّذي توسل إليها باليد والقلم. والسبب الحقيقي هو الإِنسان المستقل بالسببية من غير أن ينافي سببيته، استناد الكتابة بوجه إلى اليد والقلم4.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص59-71
1- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 79.
2- توحيد الصدوق، ص 244.
3- المصدر السابق، ص 250.
4- الميزان، ج 20، ص 183 ـ 184 بتلخيص.