التوحيد في الخالقية
التوحيد
لا خالق سوى الله :دلَّت البراهين العقلية على أنَّه ليس في الكون خالق أصيل إلا الله سبحانه، وأنَّ الموجودات الإِمكانية وما يتبعها من الأَفعال والآثار، حتى الإِنسان وما يصدر منه، مخلوقات لله سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عناية، غاية الأمر أنَّ ما في الكون مخلوق له إِمَّا بالمباشرة أو بالتسبيب...
عدد الزوار: 282
لا خالق سوى الله
دلَّت البراهين العقلية على أنَّه ليس في الكون خالق أصيل إلا الله سبحانه، وأنَّ الموجودات الإِمكانية وما يتبعها من الأَفعال والآثار، حتى الإِنسان وما يصدر منه، مخلوقات لله سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عناية، غاية الأمر أنَّ ما في الكون مخلوق له إِمَّا بالمباشرة أو بالتسبيب.
وذلك لأنّه سبحانه هو الواجب الغني، وغيره ممكن بالذات ولا يُعْقَل أنْ يكون الممكن غنياً في فعله وذاته عن الواجب، فكما أنَّ ذاته قائمة بالله سبحانه، فهكذا فعله. والحاجة في الذات إلى الواجب آية الحاجة في الفعل أيضاً. ومن عرف الممكن حق المعرفة وانه الفقير الفاقد لكل شيء، والواجد في ظل خالقه فعلَهُ وأَثَرَهُ، لا يشك في استناد الأَفعال والآثار إلى الله سبحانه، وهذا ما يعبر عنه بالتوحيد في الخالقية وأنَّ هنا خالقاً واحداً أصيلا وهو الله سبحانه وأمَّا غيره فبين غير خالق لشيء إلى خالق بإذنه ومشيئته وإقداره سبحانه.
هذا ما لدى العقل، وأما النَّقل فقد تضافرت النصوص القرآنية على أنّ الله سبحانه هو الخالق، ولا خالق سواه، وإليك الآيات الواردة في هذا المجال.
قال سبحانه: ﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىء وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ﴾(الرعد:16)
وقال سبحانه: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شيء وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيء وَكِيلٌ﴾(الزمر:62)
وقال سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيء لا إلهَ إلا هُوَ﴾(المؤمن:62)
وقال سبحانه: ﴿ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ﴾(الأنعام:102)
وقال سبحانه: ﴿هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْماءُ الحُسْنَى﴾(الحشر:24)
وقال سبحانه: ﴿أنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيء﴾(الأنعام:101)
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّها النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِق غَيْرُ اللهِ﴾(فاطر:3)
وقال سبحانه: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾(الأعراف:54)
هذا هو حكم العقل وهذه نصوص القرآن الكريم لا يشك فيها إلا المنحرف عن الفطرة، غير أنَّ الذي يهمنا هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات.
وهناك احتمالان ذهب إلى كلٍّ طائفة من المتكلمين ونحن نذكرهما، وندعم الحق منهما بالبرهان.
نظرية الأشاعرة في التوحيد في الخالقية
ذهبت الأشاعرة إلى أنَّ المراد من التوحيد في الخالقية و حصر الخلق والإِيجاد على الإِطلاق بالله سبحانه وأنه ليس في صفحة الوجود مؤثر وموجد وخالق إلاّ الله سبحانه وأمَّا غيره، فليس بمؤثر ولا خالق لا على وجه الاستقلال ولا على وجه التبعية.
وعلى ذلك الأساس أنكرت العلّية والمعلولية، والتأثير والتأثّر بين الموجودات الإِمكانية فزعمت أنَّ آثار الظواهر الطبيعية كلها مفاضة منه سبحانه، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها، فعلى مذهبهم "النار حارّة" بمعنى أنَّه جرت سنَّة الله على إيجاد الحرارة عند وجود النار مباشرة من دون أنْ تكون هناك رابطة بين النار وحرارتها، والشمس وإضاءتها، والقمر وإنارته، بل الله سبحانه جرت عادته على إيجاد الضوء والنور مباشرة عقب وجود الشمس والقمر من دون أنْ يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلّية والمعلوليّة. وعلى ذلك فليس في صفحة الوجود إلاّ علة واحدة، ومؤثر واحد، يؤثر بقدرته وسلطانه في كل الأشياء، من دون أن يُجري قدرته ويُظهر سلطانه عن طريق إيجاد الأسباب والمؤثِرات. بل هو بنفسه الشخصية قائم مقام جميع ما يتصور من العلل و الأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.
هذا ما يتبناه الأشعري وأتباعه. ناسبين إيّاه إلى أهل السنة والجماعة، فهم لا يقيمون للعلل الطبيعية وزناً، فعامل الحمى في المريض هو الله سبحانه وليس للجراثيم دور في ظهورها فيه، ومثل ذلك سائر الظواهر الطبيعية من تفتح الأزهار ونمو الأشجار، فالكل مخلوق لله سبحانه بلا واسطة ولا تسبيب سبب من الأسباب.
وعلى هذا الأصل جعلوا أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه مباشرة، ولم يقيموا للقدرة الحادثة في العبد وزناً ولم يعترفوا بتأثيرها في فعله فصار كل ما في الكون من آثار الفاعلين، عالمين كانوا أم لا، صادراً منه سبحانه مخلوقاً له.
تحليل نظرية الأَشاعرة
إنَّ تفسير التوحيد في الخالقية بهذا المعنى، بما أنَّه لا يستند إلى دليل عقلي بل يستند إلى ظواهر الآيات التي وقفت عليها، فلا مناص في تحليله من الرجوع إلى نفس الذكر الحكيم حتى يعلم أنَّه غير معترف بهذا التفسير بل ينكره جداً.
إنَّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العليّة والمعلوليّة بين الظواهر الطبيعية وتسند الآثار إلى موضوعاتها وفي الوقت نفسه تسندها إلى الله سبحانه حتى لا يغتر القارئ بأنَّ آثار الموضوعات متحققة من تلقاء نفسها.والآيات الواردة في هذا المجال كثيرة نكتفي بالقليل منها.
1- قال سبحانه: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾(البقرة:22).
2- وقال عزّ مِنْ قائِل: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ المَاءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أنْعامُهُمْ وأَنْفُسُهُمْ أفَلاَ يُبْصِرُونَ﴾(السجدة:27).
فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع إذ إنَّ الباء في "به" في الموردين بمعنى السببية.وأوضح منهما التالية.
3- قال سبحانه: ﴿وَفي الأَرْضِ قَطِعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أعْناب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِماء وَاحِد وَنُفَضَّلُ بَعْضَها عَلى بَعْض فِي الأُكُلِ إِنَّ في ذَلِكَ لآيات لِقَوْم يَعْقِلُونَ﴾(الرعد:4).
فإِنَّ جملة "يسقى بماء واحد" كاشفة عن دور الماء وأثره في إِنبات النباتات وإِنماء الأَشجار، ومع ذلك يتفضل بعض الثمار على بعضها. ومن أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على كيفية بيانه للمقدمات الطبيعية لنزول الثلج والمطر من السماء من قبل أنْ يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية، واكتشاف عللها ومقدماتها. ويتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين:
4- قال سبحانه: ﴿الله الذي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيبْسُطُهُ في السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾(الروم:48). فقوله سبحانه: (فتثير سحاباً) صريح في أنَّ الرياح تحرك السَّحاب وتسوقها من جانب إلى جانب.
5- قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ أنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبال فيها مِنْ بَرَد فَيُصيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشاءُ يَكادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصارِ﴾(النور:43).
فالآية الرابعة تُسند حركة السحاب إلى الرياح وتقول (فتثيرُ سحاباً) وهذه الآية تسندها إلى الله سبحانه وتقول (انَّ الله يزجي سحاباً). وكلا الإِسنادين صحيح، حيث إنَّ الرياح جند من جنوده سبحانه وسبب من أسبابه التي تعلقت مشيئته على نزول الفيض من طريقها ولأجل ذلك يَعُدّ فِعْلَها فِعْلَهُ.والكُلّ قائم به قيام الممكن بالواجب.
6- قال سبحانه: ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْها المَاءَ اهتَزَّتْ وَرَبَتْ وأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوج بَهِيج﴾(الحج:5).
فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأَرض وربوتها، ثم تصرح بإنبات الأَرض من كل زوج بهيج.
7- قال سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّة أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلّ سُنْبُلَة مِائةُ حَبَّة واللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ واللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(البقرة:261).
فالآية تسند إنبات السبع سنابل إلى الحبة.
وحصيلة البحث أنَّه سبحانه يسند الإِنبات في هذه الآيات إلى الأَرض والحبّ ولكنه يسند في الوقت نفسه ذلك الفعل إلى ذاته ويقول: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذَاتَ بَهْجَه مَا كانَ لَكُمْ أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ءإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾(النمل:60).
ويقول أيضاً: ﴿وأنْزَلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْج كَرِيم﴾(لقمان:10) ولا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات إذ الفعل فعل الله سبحانه بما أنَّه مُنشئ الكون وموجده، ومسبب الأَسباب ومكونها.كما هو فعل السبب، لصلة بينه وبين آثاره.والأَسباب والعلل على مراتبها مخلوقات لله مؤثرات بإذنه، وليس الإِسنادان في درجة واحدة وعَرْض واحد، بل أحدهما في طول الآخر.
8- قال سبحانه: ﴿خَلَقَ السَّمواتِ بَغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَها وألْقَى في الأرْضِ رَوَاسِىَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾(لقمان:10).
أي جَعَلَ على ظهر الأرض، الجبال الثوابت لئلا تضطرب بكم، فقد نسب صيانة الإِنسان عن الاضطراب والمَيَدان إلى نفسه حيث قال "وألقى". وإلى سببه حيث قال "رواسي أنْ تميد بكم"، أي لغاية أن تصونكم الرواسي عن مَيَدان الأرض بكم كرواسي السفن الصائنة لها عن المَيدانَ والاضطراب. والكل يهدف إلى أمر واحد وهو الذي ورد في قوله سبحانه: ﴿هَذا خَلْقُ الله فَأَرُوني ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ في ضَلال مُبِين﴾(لقمان:11) أي هذا الذي تشاهدونه في السماء والأرض وما بينهما من الأسباب والمسبَّبات كلّه مخلوق لله، والأسباب جنوده والآثارُ آثار للسَّبَبِ وللمسبِّبِ بالكسر.ما ذكرناه تحليل لنظريه الأشعري في ضوء الوحي، وقد عرفت أن الوحي يردها بحماس.
وهناك تحليل فلسفي لها وهو أنه لا شك أنَّ كثيراً مما نجده من الموجودات الممكنة المادية تتوقف في وجودها على شروط لا تتحقق بدونها، كالإِنسان الذي هو ابن فلان.فإن لوجود الإِبن توقفاً على وجود الوالدين وعلى شرائط أخرى كثيرة زمانية ومكانية، فمن الضروري أنَّ ما يتوقف عليه وجود الشيء يُعَدّ جزءاً من العلة التامة. وعلى هذا، لا يصح عدّه سبحانه علة تامة وحدها لهذه الظاهرة أي كون زيد ابن فلان.
نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة، إذ لا يتوقف على شيء غيره سبحانه وأمَّا سائر أجزاء العالم كوجود زيد فهو سبحانه جزء العلة التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل وما هو معه من الشرائط والمُعِدّات1.
والذي يوضح ذلك أنَّ أَفعالا لا يمكن إسنادها إلى الله سبحانه مباشرة كأكل زيد وشربه ومشيه وقيامه وقعوده، فإنَّ تحقق هذه العناوين يتوقف على وجود زيد وأعضائه من فمه ولسانه ورجليه وعضلاته فإِنَّ لها دخالة في تحقق هذه الأَفعال، فكيف يمكن إنكار دخالتها؟ فهذه الأَفعال لا تستند إلا إلى الموجود المادي مباشرة، وإلى الواجب سبحانه على وجه التسبيب والسببية الطولية.
فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنَّ القرآن يعترف بناموس السببية بين الأشياء وآثارها وإِنهاء كل الكون إلى ذاته تبارك وتعالى. فلا يصح عندئذ حصر الخالقية والعلية الأَعم من الأَصلية والتبعية بالله سبحانه، وتصوير غيره من الأَسباب أُموراً عاطلةً غير مفيدة لشيء. وجعل القدرة الحادثة في العبد شيئاً مقترناً بإيجاده سبحانه فعل العبد. وعلى ذلك فيجب تفسير حصر الخالقية وتوحيدها على وجه يناسب مع جميع الآيات الماضية التي تدل على الحصر وأنَّه لا خالق غيره، وفي الوقت نفسه يعترف بتأثير العلل وإيجادها. وهذه هي النظرية التي نتلوها عليك بإذنه سبحانه.
نظرية العدلية في التوحيد في الخالقية
إنَّ هناك معنى آخر لحصر الخالقية بالله سبحانه ونفيها عن غيره بالمعنى الذي يتناسب شأنه سبحانه، وما نذكره هو الذي يدعمه العقل ويوافقه القرآن وتعضده البحوث العلمية في الحضارات الإِنسانية وإليك بيانه:
إنَّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه ولا يشاركه فيها شيء.وأَما غيره سبحانه فإِنما يقوم بأمر الخَلْق والإِيجاد بإذن منه وتسبيب ويُعدُّ الكُلُّ جنود الله سبحانه يعملون بتمكين منه لهم ويظهر هذا المعنى من ملاحظة الأُمور التالية:
أ- لا يشك المتأمل في الذكر الحكيم في أنه كثيراً ما يسند آثاراً إلى الموضوعات الخارجية، والأَشياء الواقعة في دار المادة كالسماء وكواكبها ونجومها، والأرض وجبالها وبحارها وبراريها وعناصرها ومعادنها والسحاب والرعد والبرق والصواعق والماء والأَعشاب والأَشجار والحيوان والإِنسان إلى غير ذلك من الموضوعات الواردة في القرآن الكريم. فمن أَنكر إِسناد القرآن آثار تلك الأَشياء إلى أنفسها فإنما أَنكره باللسان، وقلبه مطمئن بخلافه. وقد ذكرنا نزراً من الآيات الواردة في هذا المجال.
ب- إنَّ القرآن يسند إلى الإِنسان أَفعالا لا تقوم إلا به، ولا يصح إِسنادها إلى الله سبحانه بلا واسطة، كأَكله وشربه ومشيه وقعوده ونكاحه ونموه وفهمه وشعوره وسروره وصلاته وصيامه. فهذه أَفعال قائمة بالإِنسان مستندة إليه، فهو الذي يأكل ويشرب وينمو ويفهم.
ج- إِنَّ الله سبحانه أمر الإِنسان بالطاعة أمْرَ إلزام، ونهاه عن المعصية نَهْىَ تحريم، فيجزيه بالطاعة ويعاقبه بالمعصية. فلو لم يكن للإِنسان دور في ذلك المجال وتأثير في الطاعة والعصيان فما هي الغاية من الأَمر والنهي وما معنى الجزاء والعقوبة؟!
وهذه الأمور الثلاثة إذا قورنت بقوله سبحانه: ﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيء وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ﴾(الرعد:16)، الذي يدل على بسط فاعلّيته وعليته على كل شيء، يستنتج أنَّ النظام الامكاني على اختلاف هوياته وأنواعه فعّال ومؤثر في آثاره، لكن بتقديره سبحانه ومشيئته وإذنه وهو القائل جل وعلا: ﴿الّذي أعْطَى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾(طه:50) وقال تعالى: ﴿وَالذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾(الأَعلى:3) فتنتهي وجودات هذه الأشياء وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها إلى قضائه وتقديره وهدايته وإِجراء الأَسباب في النظام الإِمكاني.
فعلى هذا فالأَشياء في جواهرها وذواتها وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإِلهية، كما أنَّ أَفعالها التي تصدر عنها في ظل تلك الخصوصيات تنتهي إليه أيضاً وليس العالمَ ومجموع الكون إلا مجموعة متوحدة، يتصل بعضها ببعض، ويتلاءم بعضها مع بعض، ويؤثر بعضها في بعض، والله سبحانه وراء هذا النظام ومعه وبعده، لا خالق ولا مدبر، حقيقة وبالأصالة، إلاّ هو، كما لا حول ولا قوة إلا بالله.
وبهذه النظرية أي نظرية كون العالم مخلوقاً على النظام السببي والمسببي وأنَّ فيه فواعل اضطرارية كما أنَّ فيه فواعل اختيارية تتناسق الأمور الثلاثة وتتوحد نتائجها، وهذا بخلاف ما قلناه في النظرية الأُولى، فإِنها توجب التضاد بين الأُمور الثلاثة المُسَلَّمة.
النظام الإِمكانى نظام الأَسباب والمُسبَّبات
إنَّ الإِمعان في الآيات الكريمة يدفع الإِنسان إلى القول بأنَّ الكتاب العزيز يعترف بأنَّ النظام الإِمكاني نظام الأسباب والمُسَبَّبات، فلأجل ذلك ينسب الفعل الواحد إلى الله سبحانه وفي الوقت نفسه إلى غيره من دون أن يكون هناك تضادّ في النسبة.
1- يقول سبحانه: ﴿اللهُ يَتَوَفّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾(الزمر:42) فينسب توفّي الأنفس إلى نفسه، بينما نجده سبحانه ينسبه إلى رسله وملائكته ويقول: ﴿حَتَى إذا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفّتْهُ رُسُلُنا﴾(الأنعام:61).
ولا يجد الإِنسان العارف بالقرآن أي اختلاف في النسبة.
2- إِنَّ الذكر الحكيم يصفه سبحانه أنه الكاتب لأعمال عباده ويقول: ﴿وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ﴾(النساء:81) ولكن في الوقت نفسه ينسب الكتابة إلى رسله ويقول: ﴿بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾(الزخرف:80).
3- إنَّهُ سبحانه ينسب تزيين عمل الكافرين إلى نفسه ويقول: ﴿إنَّ الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنا لَهُمْ أعْمَالَهُمَ﴾(النمل:4)وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان ويقول: ﴿وإذْ زَيّن لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ﴾(الأنفال:48).
وفي آية أُخرى ينسبها إلى قرنائهم ويقول: ﴿وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾(فصلت:25) ولا تصح هذه النسب المختلفة ظاهراً إلا بالقول بأنَّ الكون مبني على النظام السببي والمُسبَّبي وسببية كل شيء بتسبيب منه سبحانه وينتهى الكل إليه فالفعل مع أنه فعل السبب فعل المسبِّب بالكسر أيضاً.
4ـ لا شك أنَّ التدبير كالخلقة منحصرٌ في الله سبحانه (كما سيوافيك بيانه في القسم الآتي من التوحيد) حتى لو سئل بعض المشركين عن المدبِّر لأَجاب بأنَّ الله هو المدبر، كما يقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ﴾(يونس:31). لكن نرى أنَّ القرآن يعترف بمدبريّة غير الله سبحانه حيث يقول: ﴿فَالمُدَبِّراتِ أمْراً﴾(النازعات:5).
5- إنَّ القرآن يشير إلى كلتا النسبتين (أي نسبة الفعل إلى الله سبحانه إشارة إلى الجانب التسبيبي وإلى الإِنسان إشارة إلى الجانب المباشِري) بقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمَى﴾(الأنفال:17).
فهو يصف النبي الأَعظم صلى الله عليه وآله وسلم بالرمي وينسبه إليه حقيقة ويقول: "إذ رميت"، لكنه يصف الله سبحانه بأنه الرامي الحقيقي وما ذلك إلا لأن النبي إنما قام بما قام بالقدرة التي منحها الله له، وكان مفيضاً لها عليه حين الفعل، فيكون فعله فعلا لله أيضاً.
وهذه المجموعة من الآيات ترشدك إلى النظرية الحقَّة في تفسير التوحيد في الخالقية.وفي الحديث القدسي إشارة إليها.
يقول: "يا ابن آدم بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاءُ لنفسك، وبقوتي أديَّتَ إلي فرائضي، وبنعمتي قَوِيتَ على معصيتي، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً"2.
ثم إنَّ هذه النظرية، على تقاريرها المختلفة من حيث الدقّة والرقّة3 مما أطبقت على صحته الإِمامية والمعتزلة وأيدته النصوص المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السَّلام وقد قال به بعض الأشاعرة أيضاً كإِمام الحرمين أبي المعالي الجُوَيْني وهو من أعلام القرن الخامس والشيخ الشعراني وهو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر، والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في القرن الرابع عشر.ومن أراد الوقوف على كلماتهم فليرجع إلى مصادرها4.
ثم إِنَّ هنا ضابطة لتمييز الأَفعال التي تُسند إلى الفاعل القريب عن الأَفعال التي تُسند إلى القريب والبعيد تَفَطّن إليها العلامة الطباطبائي في تفسيره فقال: "إن من الأَفعال ما يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة كالأَكل بمعنى الالتقام، والبلع والشرب بمعنى المص والتجرع، والقعود بمعنى الجلوس، لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر، فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاءً كذا ويشرب شراباً كذا، ويقعد على كرسي كذا، قيل: "أكل الخادم وشرب وقعد، ولا يقال أكله سيده وشربه وقعد عليه.
وأما الأَعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة والحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشِر للحركة كالقتل والأَسر والإحياء والإِماتة والإِعطاء والإِحسان ونظائرها فإِنها تُنسب إلى الفاعل القريب والبعيد على السوية، بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب، كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجوداً وأشد سلطة وإِحاطة، وبذلك يظهر سر نسبة التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه ويقول:
﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْم مُؤْمِنينَ﴾(التوبة:14) كما يظهر أنَّ القول بالتوحيد في الخالقية واستناد الحوادث وانتهائها إلى الله سبحانه لا يستلزم استناد القبائح إليه سبحانه، بل الأفعال التي تعتبر فيها خصوصيات المباشرة، كالنكاح والزنا والأكل المُحَرّم والمحلَّل، فإِنما تُنْسب إلى الإِنسان فقط لأنه والموضوع المادي الذي يقوم بهذه الحركات وأما الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركتهُ وليس الله بنفسه متحركاً بهذه الحركات وإِنَّما يوجدها إيجاداً إذا تمت شرائطها وأسبابها فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بعضو من أعضاء الإِنسان"5.
وأنت إذا أمعنت في هذه الضابطة تقدر على التفريق بين ما يصح فيه الإِسناد وما لا يصح، كما تقف على أن القول بالتوحيد في الخالقية على الوجه الذي فسرناه، لا يستلزم مضاعفات نظرية الأَشاعرة، فإِنها مبنية على إِنكار رابطة العلية والمعلولية بين الإِنسان وفِعله، وفرض وجوده سبحانه قائماً مقام جميع العلل.
الثنوية بإشكالها المختلفة
إنَّ التوحيد في الخالقية يقابله الاعتقاد بأنَّ أمر الخِلْقَة لا ينحصر بالله سبحانه بل هناك وراءه سبحانه خالقاً أو خالِقِين مستقِلِّين بأمر الخلقة يعتمدون على أنفسهم وقدرتهم من دون أن يستمدوا منه سبحانه أو يكونوا مؤتمرين وخالقين بأمره وهذا ما يعبّر عنه في مصطلح المتكلمين بالثنوية سواء أكان الشريك واحداً أو أكثر فهذه اللفظة رمز لمن يرفض التوحيد في الخالقية من غير فوق بين أن يعتقد باثنين أو بأكثر ولأجل لك يدخل تحت هذا العنوان كثير من الفرق التي لا تعتقد بانحصار الخالقية في الله سبحانه منها:
1- المفوّضة: وهم الذين يعتقدون بتفويض أفعال البشر إلى أنفسهم، فهم مستقلون في خلق الأفعال وإيجادها ولا صلة لها بخالق البشر. وقد رُميت المعتزلة من المسلمين بهذه العقيدة، وهؤلاء لأجل التحفظ على عدله سبحانه وقسطه بين عباده التجأوا إليها زاعمين أن القول بعدم صلة أفعال البشر بخالقهم ينفعهم في القول بالعدل، ويكون البشر نفسه مسؤولا عن فعله وعمله. غير أن النسبة لو تحققت يكون هذا العمل كالفرار من المطر إلى تحت الميزاب فإنهم وإن توفقوا في مجال توصيف الرب بالعدل، غير أنهم فشلوا في مجال التوحيد فجعلوا الإِنسان خالقاً في مقابل خالقه العظيم، فما قيمة توصيفه بالعدل إذا كان مستلزماً للانسلاك في عداد المشركين؟.
ولأجل ذلك ذهبت الأَشاعرة إلى أنَّ أفعال الإِنسان أفعال لِلَّه سبحانه مباشرة وبلا سبب كما ذهبت الإِمامية من العدلية إلى أنَّ أفعاله فعل للّه سبحانه وفي الوقت نفسه فعل للبشر والنسبة إليهما مختلفة فأحد الفاعليين خالق بالتسبيب والآخر خالق بالمباشرة على النحو الذي وقفت على بيانه.
2- الزرادشتية: وهم القائلون بأنَّ في عالم الكون أُموراً توصف بالخير والبركة كما أنَّ هناك أموراً توصف بالشرور والبلايا فلا يصح إسناد كلا الصنفين من الأَفعال إلى الخالق الحكيم فيجب الاعتقاد بأنَّ خالق الخير غير خالق الشر. وقد اخترعوا عقيدة خيالية وهي: إنَّ خالق الخير موجود يدعى بـ "يزدان"كما إِنَّ خالق الشر موجود يدعى بـ "أَهريمن"وكلا الخالقين مخلوق لله سبحانه وبهذه الفرضية الخيالية، تمكنوا من إِقناع أنفسهم بحلّ مشكلة الشرور والبلايا في صفحة الوجود.
وهناك طوائف أُخرى تُدعى بالثنوية لها عقائد خاصة متواجدة في بلاد الهند وجنوب شرق آسيا فمن أراد الوقوف على عقائدها فليرجع إلى الكتب المترجمة لها.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج2،ص43-58
1- الميزان، ج 15، ص 138.
2- البحار، ج 5، ص 57.
3- إن تفسير مسألة "الأمر بين الأمرين" وأنَّ فعل العبد في حال كونه فعله، فعلا لله سبحانه يختلف حسب اختلاف الأفهام في المقام، فيفسره المتكلم على نمط يناسب أبحاثه، فيصور كونه سبحانه فاعلا بالتسبيب من حيث أنه أعطى القدرة والحياة للعبد، فلولاه لما قدر العبد على العمل، وأما الحكيم الإِلهي فيرى الموجودات على تباينها في الذوات والصفات والأفعال، وترتبها في القرب والبعد من الحق تعالى، قائمة بذاته سبحانه، فهو مع بساطته ينفذ نوره في الموجودات الإِمكانية، عامة. ولا يوجد ذرة من ذرات الأَكوان الوجودية، إلا ونوره محيط بها، قاهرٌ عليها وهو قائم على كل نفس بما كسبت وهو مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة. فإذاً، كما أنه ليس في الوجود شأن إلاّ وهو شأنه كذلك ليس في الوجود فعل إلاّ وهو فعله، لا بمعنى أنَّ فعل زيد ليس فعلا له بل بمعنى أنَّ فعل زيد مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعله سبحانه كذلك. فهو مع غاية عظمته وعلوه، ينزل منازل الأشياء ويفعل فعلها، كما أنَّه مع غاية تجرّده وتقدسه لا يخلو منه أرض ولا سماء.فإذاً نسبة الفعل والإِيجاد إلى العبد صحيحة، كما أنَّ نسبتها إلى الله تعالى كذلك.
4- الملل والنحل، ج 1، ص 98-99 نقل كلمة إمام الحرمين، واليواقيت والجواهر للشعراني، ص139-141، ورسالة التوحيد، ص 59ـ 62- وقد جاء الأُستاذ دام ظله بنص كلامهم في كتابه أبحاث في الملل والنحل.
5- لاحظ الميزان، ج 9، ص 193 ـ 197.
2009-07-31