توحيد الله
التوحيد
يقع البحث في هذا الدرس في موضوع التوحيد، وتفنيد آراء المشركين ومعتقداتهم.وهناك آراء مختلفة لعلماء الإجتماع حول نشأة المعتقدات المشركة في البشرية، وما طرأ عليها من تبدل وتغير، ولكن ليس هناك دليل واضح وصالح للإعتماد على كل تلك الآراء والتفسيرات.
عدد الزوار: 228
توحيد الله
المقدمة
يقع البحث في هذا الدرس في موضوع التوحيد، وتفنيد آراء المشركين ومعتقداتهم.وهناك آراء مختلفة لعلماء الإجتماع حول نشأة المعتقدات المشركة في البشرية، وما طرأ عليها من تبدل وتغير، ولكن ليس هناك دليل واضح وصالح للإعتماد على كل تلك الآراء والتفسيرات.وربما يمكن لنا القول بأن العامل الأول في الإتجاه للشرك وتعدد الآلهة، هو مشاهدة تنوع الظواهر السماوية والأرضية، فاعتقدوا أن كل نوع منها خاضع لتدبير إله معين، فقد اعتقد بعضهم بأن الخيرات مستندة لإله الخير، والشرور مستندة لإله الشر، ومن هنا قالوا بوجود مبدأين وإلهين للعالم. وكذلك يلاحظ مدى تأثير نور الشمس والقمر والكواكب في الظواهر الأرضية لذلك إعتقد بأن لها نوعا من الربوبية للموجودات الأرضية هذا من جهة، ومن جهة أخرى: رغبة البشر في معبود محسوس وملموس، دفعتهم إلى أن يصنعوا لتلك الآلهة المتوهمة تماثيل وتواتم (علامات ورسوم رمزية) وهي الأصنام والأوثان وأخذوا في عبادتها، وبالتدريج اكتسبت هذه الأوثان طابع الأصالة عند قاصري الذهن والبدائيين، ووضعت كل أمة بل كل قبيلة لنفسها بعض الطقوس والتقاليد بما تمليه عليها أوهامها، تعبد بها أو ثانها، ليشبعوا بهذه الممارسات والطقوس البديلة ذلك الدافع الفطري الكامن في أعماقهم لعبادة الله، وليضفوا على نزواتهم الحيوانية وأهوائهم العابثة لون القداسة الدينية، ولا زالت بعض هذه الممارسات والطقوس والحفلات قائمة حتى اليوم، حيث تصحبها ألوان الرقص والصخب وشرب الخمور، والعبث الجنسي، بين الوثنيين، متلونة كلها بطابع الطقوس الدينية. بالإضافة لذلك كله، أنه كان من وراء ذلك كله الجبابرة والطواغيت اللاهثون وراء السلطة وإشباع رغباتهم ومطامعهم الشريرة، حيث إستغلوا هذه المعتقدات والأفكار الساذجة لعامة الناس، وإستثمروها في سبيل تحقيق مآربهم الجهنمية، ومن أجل أن يحكموا قبضتهم حول رقاب الشعوب، ويوسعوا أكثر من سلطانهم، فإنهم شرعوا في بذر المعتقدات المشركة ونشرها، وأضفوا على أنفسهم لونا من الربوبية، واعتبروا عبادة الطواغيت من جملة الطقوس الدينية، وهناك شواهد بارزة على هذه الظاهرة يمكن ملاحظتها في ملوك وسلاطين الصين والهند وإيران ومصر وسائر الأقطار الأخرى.
إذن فالمعتقدات والمبادئ المشركة، وجدت بين الناس نتيجة لعوامل مختلفة، وإنتشرت لتكون عقبة كأداء في مسيرة التكامل الحقيقي للبشرية، الذي يوفره العمل بالدين الإلهي والتوحيدي، ومن هنا خص الأنبياء الجانب الأكبر من جهودهم ونشاطاتهم لمحاربة الشرك والمشركين، كما تذكر حكايات هذا الصراع مرارا في القرآن الكريم.
إذن فالمعتقدات والمبادئ المشركة تعتمد على أساس الإيمان بربوبية موجود آخر غير الله تعالى، من الموجودات والظواهر الكونية، وهناك الكثير من المشركين إعتقدوا بوحدة الخالق للكون، وفي الواقع أنهم آمنوا بالتوحيد في الخالقية، ولكنهم قالوا بوجود آلهة بمستوى أدنى، حيث إعتقدوا بأن هذه الآلهة تقوم بمهمة تدبير الكون والتصرف فيه بصورة مستقلة، وأطلقوا على الإله الخالق "رب الأرباب".
وإعتقد البعض بأن هذه الآلهة المدبرة هي الملائكة. والمشركون من العرب اعتقدوا أنَّها بنات الله بينما توهم البعض الآخر أنها من الجن، واعتقد آخرون أنها أرواح الكواكب أو أرواح بعض البشر السابقين، أو أنها نوع معين من الموجودات غير المرئية. وفي الواقع فإن التلازم بين الخالقية والربوبية الحقيقية هو تلازم وثيق، فلا ينفصل الإيمان بإحداهما عن الأخرى أبداً، وأن الإيمان بخالقية الله، لا يتلاءم والايمان بربوبية غيره، وأولئك الذين يؤمنون بمثل هذه المعتقدات المتناقضة لم يتنبهوا إلى تناقضها، ويكفي في تفنيد معتقداتهم، أن تتبين حقيقة هذا التناقض وسره. وقد اقيمت أدلة وبراهين عديدة على توحيد الله تعالى، ذكرت في الكتب الكلامية والفلسفية المختلفة، ونذكر هنا دليلا واحدا، يدل بالمباشرة على التوحيد في الربوبية، وتفنيد معتقدات المشركين.
الدليل على توحيد الله
إن إفتراض وجود إلهين، أو آلهة متعددة للكون، لا يخرج عن الإحتمالات التالية، فإما أن نفترض أن كل واحدة من هذه الظواهر والكائنات الكونية، مخلوقة ومعلولة لجميع هذه الآلهة، وإما أن كل مجموعة منها معلولة لواحد من الآلهة المفترضة، وإما أن نعتبرها جميعا مخلوقة لإله واحد، بينما نفترض سائر الآلهة مدبرة للكون.
أما افتراض أن كل ظاهرة وكائن له آلهة متعددة خالقة له، فهو افتراض محال، ذلك لأن القول بأن هناك اثنين أو أكثر من الآلهة الخالقة، (بمعنى العلة الموجدة) تخلق الموجود، يعني أن كل واحد منها يفيض وجودا. ونتيجة لذلك أن توجد عدة وجودات بعدد الآلهة المفترضة للشيء الواحد، مع أن كل موجود ليس له إلا وجود واحد، وإلا لم يكن موجودا واحدا.
وأما افتراض أنّ كل واحد منها خالق لمخلوق واحد، أو لمجموعة معينة من المخلوقات، فيلزم من هذا الافتراض أن يكون كل مخلوق قائما بخالقه، ولا يحتاج لموجود آخر إلا الإحتياج الذي يؤول وينتهي بالتالي إلى خالقه، وهو إحتياج إلى خصوص مخلوقات خالقه، وبعبارة أخرى: ان إفتراض الآلهة المتعددة للكون يلزم منه وجود أنظمة متعددة في الكون، وكل واحد منها مستقل ومنفصل عن الآخر، مع أن للكون نظاما واحدا، وكما يوجد إرتباط وتفاعل بين الظواهر الموجودة في زمان واحد، وتحتاج كل منها إلى الأخرى فان هناك ارتباطا وعلاقة بين الظواهر السابقة مع الظواهر الحاضرة الراهنة، وكذلك بين الظواهر الراهنة والظواهر المستقبلية واللاحقة، وكل ظاهرة سابقة ممهدة لوجود اللاحقة إذن فهذا الكون الذي يتألف من أجزاء مترابطة متلاحمة، ويحكمه نظام واحد، لا يمكن أن يكون معلولا لعدة علل موجودة، وأما الإفتراض الثالث، وهو أن الخالق لكل المخلوقات إله واحد، وأما سائر الآلهة فتتكفل بمهمة تدبير الكون وإدارته، فهذا الإفتراض غير صحيح أيضا، وذلك لأن كل معلول قائم بكل شؤون وجوده بعلته الموجدة له، وليس لأي موجود مستقل آخر سبيل للتصرف فيه، إلا أن يكون من قبيل التفاعلات الحاصلة بين معلولات العلة أنفسها، ولكنها كلها خاضعة للفاعل الموجد لها، ولا تخرج عن حكومة قدرته وسلطانه، ولايتم شيء إلا بإذنه التكويني، وفي هذه الحالة لا تكون كل تلك الآلهة غير الإله الخالق الموجد "ربا" بمعناه الحقيقي، إذ إن المعنى الحقيقي للرب، أن يقوم بالتصرف المستقل في مربوبه والمفروض في هذه التصرفات والتأثيرات أنها غير مستقلة، بل إنها كلها مقتبسة من ربوبية الخالق، وبالقوة التي يزودها بها ذلك الخالق، ولولاها لما أمكن أن توجد هذه التصرفات، وإفتراض وجود مثل هذه الأرباب المدبرة للكون لا ينافي التوحيد في الربوبية، كما أن الخالقية التي تتم بالإذن الإلهي لا تنافي التوحيد في الخالقية. وفي القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ما يدل على ثبوت مثل هذا الخلق أو التدبير التبعي وغير المستقل لبعض عباد الله، إذ يقول الله تعالى في كتابه الكريم عن عيسى عليه السلام ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾(النازعات:5) ويقول تعالى أيضا: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾(الروم:48).
والحاصل أن التوهم بإمكان آلهة متعددة للكون، ناشئ من قياس الله وتشبيهه بالعلل المادية والمعدة، حيث يمكن القول بتعددها للمعلول الواحد، ولكن لا يمكن أن نشبه العلة الموجدة بمثال هذه العلل، ولا يمكن أن نفترض لأي معلول، عدة علل موجدة أو عدة أرباب مدبرة بالإستقلال إذن فلأجل تفنيد هذا التوهم، لا بد أن نتأمل بدقة أكثر في مفهوم العلة الموجدة وخصائص هذا النوع من العلة، حتى ندرك إستحالة تعدد مثل هذه العلة للمعلول الواحد، وكذلك لا بد من التأمل في ترابط الكون ليتضح لنا أن هذا النظام المترابط الذي يحكم الكون لا يمكن أن يكون مخلوقا لآلهة متعددة، أو خاضعا لتدبير أرباب مستقلين.
وإتّضح من خلال ما ذكرناه أيضا، أن القول بالولاية التكوينية لبعض عباد الله الصالحين، لا ينافي الإيمان بالتوحيد، ولكن يجب أن لا تفسر هذه الولاية بمعنى الخالقية أو الربوبية المستقلة، كما أن القول بالولاية التشريعية للنبي الأكرم صلى الله عليه و سلم والأئمة الطاهرين عليهم السلام لا ينافي الربوبية التشريعية الإلهية، لأن هذه الولاية إنما وجدت من الله تعالى وبالإذن الإلهي ومستمدة ومكتسبة من الله.
*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص60-64