إخبار القرآن عن الظواهر والقوانين الكونية
القرآن معجزة النبي (ص)
لا يصحّ لعارف أنْ يتجاهل أنّ القرآن كتاب الهداية والتزكية وليس كتاب العلوم الطبيعية، يقول سبحانه: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. فالقرآن نزل لهداية الناس وسوقهم إلى الحياة السعيدة، ولم ينزل لتبيين القضايا الطبيعية، والقواعد الرياضية وما يتعلق بعلم التشريح...
عدد الزوار: 300
لا يصحّ لعارف أنْ يتجاهل أنّ القرآن كتاب الهداية والتزكية وليس كتاب العلوم الطبيعية، يقول سبحانه: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(البقرة:1ـ2).
فالقرآن نزل لهداية الناس وسوقهم إلى الحياة السعيدة، ولم ينزل لتبيين القضايا الطبيعية، والقواعد الرياضية وما يتعلق بعلم التشريح، ولا لتبيين خواصّ الأدوية والعقاقير.
ومع ذلك كلّه، ربما يتوقف غرض الهداية خصوصاً في الدراسات التوحيدية على إظهار عظمة العالَم ودقّة نظمه، والقوانين السائدة عليه، فعند ذلك يصحّ لهذا الكتاب الهادي، إلفات النظر إلى تلك المظاهر والقوانين الكونية.
ومن هذا المنطلق، نرى أنّ القرآن أشار إلى رموز سائدة في الكون، وسنن جارية فيه، تتطابق مع القضايا العلمية الثابتة حديثاً بالحسِّ واليقين. وقد كانت تلك السنن مجهولة على الأخصائيين في هذه العلوم، وأصحاب الحضارات في بلاد الفرس والروم، وإنّما اهتدى إليها العلماء بعد قرون متطاولة من نزول القرآن وذكره لها.
روي عن ابن عباس أنّه قال: "القرآن يُفَسِّرُهُ الزَّمان"1.
وهذه الكلمة سواء أصحّت نسبتها إلى تلميذ الإمام عليّ عليه السَّلام أوْ لا، كلمةٌ قيمة، فإنّ مرور الزمان وتكامل الحضارات، يزيد من قدرة الإنسان على استجلاء حقائق القرآن ومعارفه في شتى المجالات.
وما هذا إلاّ لأنّ القرآن، كلام الموجود اللامتناهي، فيجب أن يكون في كلامه أثر من ذاته، فيكون ذا آفاق وأبعاد لا متناهية، ويجد الإنسان في كل جيل وعصر، الشيء الجديد فيه، الّذي غفل عنه الأقدمون ولم يصلوا إليه. وعلى ذلك فلا غرو في أنْ نجتني نحن من هذه الدوحة المثمرة، ثماراً لم يجتنها الأَوّلون، فما أعذب قول الإمام علي بن موسى الرضاعليه السَّلام، في جواب من سأله عن سبب غضاضة القرآن وطراوته في كل عصر، وأنّ النَشرْ والدراسة لا يزيده إلاّ طراوة: "إنّ الله تعالى، لم يجعله لزمان دون ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضٌّ إلى يوم القيامة"2.
نعم، لسنا من المكثرين في تطبيق الآيات القرآنية على فروض متزلزلة فإنّه دخول في المزالق الوعرة، فسوف تتبدل تلك الفروض بفروض أُخرى، كما لسنا من المتحجرين الجامدين الّذين يسدّون باب التعمّق والإمعان في الآية. وإنّما نسلك في هذا طريقاً وسطاً، وهو أنّه إذا تمّت دلالة الآية على نظرية علمية، على ضوء القواعد الأدبية من دون تجشّم التأويل والتقدير، وثبتت القضية العلمية ثبوتاً واضحاً حتى عُدَّت من القواعد الموضوعية، ودخلت في نطاق القوانين العلمية ، كحركة الأرض ودورانها حول الشمس، والزوجية في النباتات، وغير ذلك من الأُصول العلمية الّتي أصبحت في عِداد البديهيات، ففي هذه الظروف يصحّ لنا استنطاق الآية والقضاء بأنّها تشير إلى ذلك القانون العلمي الثابت.
ولأجل ذلك نأتي في المقام بنماذج في هذا المجال.
1 ـ القرآن والجاذبية العامة
اكتشف العالم الإنجليزي نيوتن (ت 1642ـ 1727 م) ناموس الجاذبية العامة، وأثبت به وجود جاذبية بين الكواكب والسيارات، وحتى في باطن الذرّة. وقد كان لاكتشاف هذا القانون في القرن السابع عشر أهمية عظمى، حتى سمّي ذلك القرن باسم كاشفه.
وحاصل ما كشفه أنّ الأجرام السماوية كلّها متجاذبة فيما بينها ولا يشذّ جرم منها عن هذا الأثر العام، وأنّه كلما قربت الأجسام من بعضها، زادت الجاذبية بينها، وكلما تباعدت قلَّت الجاذبية بينها. وعلى ضوء ذلك، فلو كان القانون السائد هو قانون الجاذبية فحسب، للزم صيرورة الكون كله كتلة واحدة، ولكن هناك قوّة أُخرى مقابلة تحفظ النظام الكوني، هي قوة طاردة ناتجة عن الفرار من المركز. فالكواكب الّتي تدور حول الشمس، تنازعها قوّتان، قوة جاذبية إلى الشمس، وقوة طاردة عنها، ناتجة من دورانها حولها. وفي ظل تعادل هاتين القوتين، يأخذ النظام الكوني حالة الاستقرار، وتقع الأجرام الكبيرة في الفراغ من دون ماسك لها.
هذه خلاصة النظرية، بلفظها البسيط الواضح. وهي نظرية علمية محقّقة، هذا.
وبالرجوع إلى آيات الذكر الحكيم والتأمّل فيها، يظهر أنّ القرآن الكريم، قد أشار إلى هذا القانون الكوني، حيث يرى أنّ السموات مرفوعة في الفضاء بلا عمد مرئية يقول تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَل مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾(الرعد:2).
إنّ الضمير في قوله: (ترَوْنَها)، يرجع إلى (عمد) لا إلى (السَّموات)، لقرب الأول وبُعْد الثاني، والمعنى "الله الّذي رفع السموات بعمد غير مرئية الخ". بمعنى: إنّ للسموات عمداً، ولكن لا ترونها. فما هذه الأعمدة الّتي يثبتها القرآن للسموات، ولا نراها؟. فإذا كانت الجاذبية العامة، والقوة المركزية الطاردة، عمد تمسك السموات، فتكون الآية ناظرة إلى تلكما القوتين المتعاندتين، وإنّما جاء القرآن بتعبير عام حتى يفهمه الإنسان في القرون الغابرة والحاضرة، ولو أتى بما اكتشفه العلم الحديث، لَرُمِيَ القرآن قبل الاكتشاف، بالخطأ والزلل.
أضف إلى ذلك ما رواه الصدوق، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا عليه السَّلام، قال: قلت له: "أخبرني عن قول الله تعالى: (...رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا)." فقال: "سبحانه الله، أليس يقول: (بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا)؟" فقلت:
"بلى". فقال: "ثَمَّ عَمَد، ولكن لا تُرى"3.
وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السَّلام أنّه قال: "هذه النجوم الّتي في السماء مدائن، مثل المدائن الّتي في الأرض، مربوطة كل مدينة إلى عمود من نور". وفي بعض النسخ: "عمودين من نور"4.
وعلى كل تقدير فقد اختار القرآن في إفهام هذا الناموس تعبيراً صادقاً في جميع الأدوار، مفهماً أنّ هذه المُعَلَّقات في الفضاء، تحملها أعمدة غير مرئية، ممسكة لها.
2 ـ القرآن وكروية الأرض
إنّ في القرآن الكريم آيات صريحة ناطقة بكروية الأرض، يعرفها من أمعن فيها. يقول سبحانه: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾(الأعراف:137).
ويقول سبحانه: ﴿رَبُّ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِق﴾(الصافات:5).
ويقول: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾(المعارج:40).
ومن المعلوم أنّ الأرض على فرض انبساطها لا تخلو من مشرق واحد ومغرب كذلك، وإنّما تتعدد مشارقها ومغاربها إذا كانت كروية، فتكون النقاط الشرقية، غربية لسكنة النقاط الشرقية، والنقاط الغربية، شرقيةً لسكنة النقاط الغربية.
روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السَّلام قال: سمعته يقول: صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر. وكنت أنا أُصلي المغرب إذا غربت الشمس، وأُصلي الفجر إذا استبان الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. قال: فقلت إنّما علينا أنْ نُصلي إذا وجبت الشمس عنّا، وإذا طلع الفجر عندنا، ليس علينا إلاّ ذلك، وعلى أُولئك أن يصلّوا إذا غربت الشمس، عنهم5.
والظاهر من الرواية أنّ الإمام، ومصاحبه كانا يتفقان على كروية الأرض، وأنّ الشمس تطلع على قوم قبل أن تطلع على قوم آخرين، وأنّها تغرب عن قوم قبل أن تغرب عن قوم آخرين، ولو كانت منبطسة لطلعت على الجميع مرة واحدة، وغربت عن الجميع كذلك غير أنّ الإمام عليه السَّلام يعتقد بأنّ على كل مكلّف رعاية مَشْرِقه ومغربه، وطلوع الشمس عليه وغروبها عنه، وليس طلوعها على قوم وغروبها عنهم ميزاناً له، ولأجل ذلك جاء في بعض الأحاديث: "إنّما عليك مشرقك ومغربك"6.
نعم، كان للفلاسفة الأقدمين نظريات شتى حول شكل الأرض وكرويتها، وكان الاعتقاد بكرويتها منتشراً عند ظهور نظرية بطلميوس، غير أنها لم تكن معروفة في الحجاز، وإنّما كان تفكير الأُميين من العرب حول الأرض، تفكير إنسان بدوي يعيش في الصحراء القاحلة. فالإجهار بهذه الحقيقة في تلك البيئة البعيدة عن الحضارة، لا يصحّ إلاّ إذا اعتمد المخبر، على منطق الوحي.
3ـ القرآن والعالم الجديد
من الأسرار الّتي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرناً، وجود العالم الّذي اكتشفه البَحّار كريستوف كولمبوس.
قال سبحانه: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن﴾(الرحمن:17).
وقد شغلت الآية بال المفسّرين، ففسّروها تارة بمشرقي الشمس والقمر، ومغربيهما، وأُخرى بمشرقي الصيف والشتاء، ومغربيهما. ولكن الظاهر هو الإشارة إلى وجود قارة أُخرى، على الوجه الآخر من الكرة الأرضية، يلازم شروق الشمس عليها، غروبها عنّا، وذلك لقوله سبحانه ـ حاكياً عن المجرمين يوم القيامة: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْني وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِين﴾(الزخرف:38). فالظاهر أنّ المشرقين في الآيتين متحدّان أوّلاً، وأَنَّ البُعْد بينهما أطول مسافة محسوسة للمتمني ثانياً. وليست المسافة بين مشرقي الشمس والقمر أو مشرقي الصيف والشتاء أطول مسافة محسوسة، فلا بدّ من أن يكون المراد منها المسافة الّتي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر من الكرة الأرضية، ليصحّ هذا التعبير. فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الّذي لم يكتشف إلاّ بعد مئات السنين من نزول القرآن، كما أنّ إِفراد المشرق والمغرب في قوله سبحانه: ﴿وَللهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَ مَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾(البقرة:115)، لأجل الإشارة إلى المشرق والمغرب المحسوسين لمن يعيش على هذا الوجه من الأرض.
وبالجملة، إنّ تفسير المشرقين بالمعنى الأول والثاني، بعيد عن الأفهام العرفية، وإنّما يختصّ التفسير بهما بالفلكيين الأخصائيين في هذا الفن، والقرآن ينقله عن المجرم المتمني يوم القيامة.
4ـ القرآن وحركة الأجرام السماوية
إنّ القرآن المجيد يخبر عن حركة الأجرام السماوية المحدودة، يقول سبحانه: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ الْلَيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ﴾(يس:40).
والفَلَكَ في اللغة العربية كما صرّح به الراغب في مفرداته مجرى الكواكب، وتسميته بذلك لكونه كالفُلْك7.
وعلى ذلك فالفَلَك ليس بجسم وإنّما هو مدار النجوم.
وقد شبَّه سبحانه حركة الشمس والقمر، بحركة الأسماك في البِحار حيث يقول: (يَسْبَحون) والسَّبْح: المَرُّ السريع في الماء، واستعير لمرّ النجوم في الفلك8.
ولعلّ قوله سبحانه: ﴿والسَّابِحاتِ سَبْحاً﴾(النازعات:3)، إشارة إلى سباحة النجوم في الفضاء.
يقول سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَل مُسَمًّى﴾(الرعد:2).
والتحديد بقوله: (لأَجَل مُسَمًّى) سَبَبُهُ أَنّ حركتيهما محدودتان إلى أَمد معين، فإذا جاء أمر الله، ينطوي النظام الكوني ويتبدل. وذلك عندما يخطو العالَم خطوته نحو الكهولة، وتستوي فيه الحرارة والبرودة. ففي ذلك الظرف تنتهي صفحة الحياة، ويُطوى كتابها9.
وما ذكرنا لا يخالف ما ثبت من أنّ الشمس مركز للكواكب، فإنّ استقرارها استقرار نسبي بالنسبة إلى سائر المجموعة الشمسية، ولكن هذه المنظومة بعامَّتها متحركة، في حركة داخل مَجَرَّتها.
5ـ القرآن وحركة الأرض
إنّ الهيئة اليونانية كانت تصرّ على سكون الأرض، ومركزيّتها بمعنى أنّ الشمس وجميع الكواكب والنجوم تدور حولها. وأوّل من خالف هذه النظرية في الغرب وكشف حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس، العالم البولوني "كوبرنيك" (1473ـ1534م). وقد أيّده العالم الايطالي "جاليلو" (1554ـ 1624 م) بعد أن صنع لنفسه منظاراً فلكيّاً صغيراً ليشهد به حركة الأرض بالدقّة والحسّ. ولكنّه لقي بسبب تأييده هذا معارضة الكنيسة وملاحقتها حتى حكم عليه بالإعدام بعدما سجن طويلاً. ولأجل ذلك كان العلماء يكتمون اكتشافاتهم خوفاً من الكنيسة الرومية.
ولكن القرآن أشار إلى حركة الأرض بعبارات لم تتضح إلاّ بعد قرون من الزمن، وقد جاء ذلك في ضمن آيتين:
الأُولى: قوله تعالى: ﴿الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا﴾(طه:53) فقد استعار للأرض لفظ المهد الّذي يعمل للرضيع ويُهَزّ بهدوء لينام فيه مستريحاً هادئاً. وكذلك الأرض، مهدٌ للبشر، وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والانتقالية. فكما أنّ الغاية من حركة المهد رعاية الطفل وطمأنينته، فكذلك الأرض، فإنّ الغاية من حركتها اليومية والسنوية، تربية الإنسان، بل وجميع ما عليها من الحيوان والنبات والجماد. وإنّما أشار إلى الحركة ولم يصرّح بها، لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتى أنّه كان يُعَدُّ مِنَ الضروريات الّتي لا تقبل التشكيك.
الثانية: قولهُ تعالى: ﴿وَتَرى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون﴾(النمل:88).
إنّ بعض المفسّرين يخصّ الآية بيوم القيامة، لأنّها وردت في سياق آياتها، فقد ورد قبلَها: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾(النمل:87).
ويلاحظ عليه: أنّ الآية المتقدمة على هذه الآية، تبحث عن الحياة الدنيوية، يقول سبحانه: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ﴾(النمل:86). فَتَوَسُّطُ الآيةِ الراجعةِ إلى يوم القيامة، لا يمنع صلة الآية بالحياة الدنيوية، إذا كان هناك صلة وتناسب بين الآيات، هذا.
مع أَنّ القرائن الموجودة في نفس الآية تؤيّد خلافه.
أَمّا أَوّلاً: فإنّه سبحانه يقول: (تَحْسَبُهَا جَامِدَةً)، مع أنّ يوم القيامة، يوم ظهور الحقائق وكشف البواطن، وليس هناك ظَنٌّ وحسبان، بل كلُّ ما هناك إذعان ويقين، يقول سبحانه: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد﴾(ق:22).
وثانياً: فإنّ الآية تبحث عن الجبال الموجودة، مع أنّ يوم القيامة يوم تبدلّ النظام وتغيّره، يقول سبحانه: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّموَاتُ﴾(إبراهيم:48).
ويقول سبحانه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً﴾(طه:105 ـ 106).
ويقول سبحانه: ﴿وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت﴾(التكوير:3).
ويقول سبحانه: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾(القارعة:5).
فالكل يدل على زوال النظام بما فيه الجبال، فكيف تكون الآية ناظرة إلى يوم القيامة؟
وثالثاً: إنّ قوله سبحانه في ذيل الآية (صُنْعَ اللهِ الذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء)، دليل على أنّه لا صلة للآية بالقيامة، إذ الصنع يناسب حياتنا الدنيوية، وأمّا يوم القيامة، فهو يوم إبادة نظام الحياة فالجبال تتلاشى وتتمزق، فلا يناسبه التركيز على إتقان الصنع.
ورابعاً: فإنّ قوله في ذيل الآية: (إنّه خبيرٌ بِما تَفْعَلونَ)، صريح في أنّ الآية راجعةٌ إلى الحياة الدنيوية، ولو كانت ناظرة إلى يوم القيامة، لكان المناسب أن يقول: "خبير بما فعلتم".
فهذه القرائن تؤيّد كون الآية راجعة إلى حياتنا الدنيوية.
وأمّا دلالتها على حركة الأرض، فلا شكّ أنّ حركة الجبال متّصلة بحركة الأرض وتابعة لها، لرسوخها فيها، وتَشَعُّب أُصولها في بواطنها، فحركتها تلازم حركة الأرض. ومعنى الآية: إنّ الأرض والجبال وما عليها وما فيها، في حركة مستمرة كحركة السحاب. وأمّا تخصيص الجبال بالذكر، فلأجل ما فيها من الوزن والثقل والارتفاع، وقدرة الله تسيرها كالسحاب. والقرآن ذكر الجبال لعظمتها وثقلها، ليبرهن بها على أنّ قدرة الله نافذة في كل موجود، ووسعت كل شيء.
وأمّا تشبيه حركتها بحركة السَّحاب، فلإفهام أمرين:
1ـ كما أنّ حركة السَّحاب تكون بسكون وهدوء، بدون صخب واضطراب، فكذلك حركة الجبال تتحقق بسكون وطمأنينة.
2ـ سرعة الحركة، حيث تتحرك كتحرك السحاب حين تهب الريح. فإنّ حركة السُّحب عند هبوب الرياح والعواصف حركة سريعة، ولأجل ذلك يشبهون مرور الفُرَص بمرّ السحاب، كما يقولون: "الفرصة تَمُرُّ مَرّ السحاب".
6ـ القرآن وزوجية الموجودات
إنّ القرآن يدعو المسلمين عامة إلى التدبّر في الآيات الكونية، ويجعل ذلك علامة للإيمان، ويقول: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾(الفرقان:73).
ويقول سبحانه: ﴿يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران:191).
فالتدبُّر في الآيات الكونية، وكشف السنن السائدة عليها، آية الإيمان، ورمزُ العبودية.وعلى ذلك، فَهَلُمَّ نتدبر في آي الذّكر الحكيم الّتي تصف النباتات بالزوجية.
يقول سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج كَرِيم﴾(الشعراء:7)10.
وفي آية أُخرى يُعمّم وصف الزوجية إلى جميع الموجودات، ويقول: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(الذاريات:49).
وقد شغلت الآيتان، وما ورد في مضمونهما، بال المفسّرين. ففسّروا الزوجية في النباتات بالأنواع والأصناف المتشابهة. قال الراغب: "قوله: (أَزْوَاجاً مِنْ نَبَات شَتَّى) أي أنواعاً متشابهة".
كما فسّروا الزوجية في الموجودات بتركّبها من جوهر وعرض، أو مادة وصورة، قال الراغب: "قوله: (مِنْ كُلِّ شَيئْ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) تنبيهٌ على أنّ الأشياء كلَّها مركبة من جوهر وعرض، ومادة وصورة ن وأنْ لاَ شيء يتعرى من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً، وأنّه لا بدّ له من صانع، تنبيهاً على أنّه تعالى هو الفرد، فبيّن أنّ كلَّ ما في العالم زوج، حيث إِنّ له ضداً، أو مثلاً ما، أو تركيباً ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب وإنّما ذكر هاهنا زوجين، تنبيهاً على أنّ الشيء وإن لم يكن له ضِد ولا مِثْل، فإنّه لا ينفك من تركيبِ جوهر وعرض، وذلك زوجان"11.
وما ذكره الراغب هو عصارة ما في التفسير، فترى أنّ تفسيرهم لا يخرج عن كونِ ملاك الزوجية، هو وجود الأصناف المتشابهة، أو التركب من جوهر وعرض، أو مادة وصورة، أو كون الشيء ذا ضد.
وكان في وسع هؤلاء المفسّرين، مكان التفكر فيما ورثوا من العلوم الطبيعية من الأُمم السالفة، سلوك طريق التجربة والاختبار في المختبرات. ولو سلكوا هذا الطريق لربما كشفوا عن الزوجية الحقيقية في عالم النبات.
لقد توصل أحد علماء النبات، وهو"لينه"، إلى تلك الحقيقة، فأعلن أنّ في كل فصل ونوع من أنواع النباتات ذكراً وأُنثى، وأنّ إنتاج الأثمار رهن هذه الزوجية، وقد يستقلّ الزوجان عن بعضهما فيحصل اللقاح بينهما بواسطة الريح أو الحشرات كالنحل، وقد يجتمعان في نبتة واحدة، وزهرة واحدة، كما هو مفصَّل في الكتب العلمية. وكان لإظهار هذه النظرية ردّ فعل من أصحاب الكنائس، فأصدروا بياناً حكموا فيه بضلالة كُتُبه.
نعم، كان سكنة المناطق الحارة ملمّين بوجود الزوجية في النخيل، فأدركوا أنّه إذ لم يُلَقَّح ويُطَّعَّم بمادة الذُّكورية، لا يثمر، ولكن الحالة العامة لم تتجاوز هذه المعرفة، حتى اكتشف ذاك الناموس العام.
وأمّا في جانب الزوجية في عامة الموجودات، فقد توصّل العلم إلى أنّ المادة وجود متكاثف من الذّرات، وكل ذرّة تشتمل على نواة مكوّنة من جُسَيْمات تحمل شحنات كهربية موجبة تسمّى البروتونات، وجُسَيْمات محايدة لا تحمل شحنات كهربية باسم النيوترونات، ويدور حولها جُسَيْمات تحمل شحنات كَهْرَبية سالبة تعرب بالإلكترونات وعددها يساوي عدد البروتونات لتتعادل الذرّة كهربياً. فذرّة الأوكسجين، مثلاً، في نواتها ثمانية بروتونات يدور حولها ثمانية الكترونات.
وقد عبّر القرآن عن هذين الجزءين الحاملين للشحنتين المختلفتين، بالزوجية، حتى لا يقع موقع التكذيب والردّ، إلى ان يكشف الزمان مغزى الآية ومفادها.
وبذلك يتجلّى إعجاز القرآن، حيث كشف عن هاتين الزوجيتين، قبل قرون من الزمن، في عصر متخلّف، منحط، تنعدم فيه كل وسائل التجربة والاختبار.
والعجب أنّ تلميذ النبي الأعظم، وربيبه، ووصيَّه، علي بن أبي طالب عليه السَّلام، يفسرّ الآية بقوله: "مُؤَلِّفٌ بين متعادياتها ياتها، مفرقٌ بين متدانياتها، داّلةٌ بتفريقها على مُفَرِّقِها، وبتأليفها على مُؤَلِّفها، وذلك قوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)"12.
7ـ القرآن والحياة في الأجرام السماوية
لا يزال التحقيق والبحث مستمراً للتيقن من وجود حياة حيوانية في غير الكرة الأرضية، بعد أن كشف العلم عن وجود مظاهر للحياة النباتية على بعض الكرات، هذا. مع أنّ القرآن الكريم قد أخبر عن وجود الدوابّ في السموات والأرض بقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّة وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِم إذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾(الشورى:29).
والدَّابَّة، عبارة عن كل ما يدبّ ويتحرك، وبحكم عود ضمير التثنية (فيهما) إلى السموات والأرض، نستكشف أنّ الحياة ليست مقصورة على الكرة الأرضية، وأنّها توجد أيضاً في السموات والأجرام العُلْوية.
وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب عليه السَّلام بقوله: "هذِهِ النُّجُومُ الّتي في السماء مدائن، مثل المدائن الّتي في الأرض"13.
8ـ القرآن ودور الجبال في ثبات القشرة الأرضية
القرآن الكريم يبحث عن أسرار الجبال، والآثار المترتبة عليها في آيات شتّى، تكشف لنا دورها في ثبات القشرة الأرضية، وتأثيرها في جريان الأنهار الكبيرة.
قال سبحانه: ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(النَّحْل:15).
وقال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَات وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا﴾(المرسلات:27).
وقال سبحانه:﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾(النبأ:6 ـ 7).
ويستفاد من هذه الآيات أنّ للجبال دوراً عظيماً في الأُمور التالية:
1ـ الجبال هي الحافظة لقطعات القشرة الأرضية، تقيها من التفرق والتبعثر، كما أنّ الأوتاد والمسامير تمنع القطعات الخشبية عن الانفصال.
2ـ الجبال تمنع المواد السائلة الملتهبة الواقعة تحت الأرض، من الإنفجار والاندلاع، حسب طاقات المواد، ولولاها لكانت الأرض على غير هذه الصورة، ولوجدتها إِثْر الضغط المستمر الناتج بسبب المواد الكامنة في جوفها، في مَيَدان دائم واضطراب، وإذا كنا نجد في بعض المواضع جبالاً تتدفق منها الحِمَم فما ذلك إلاّ لبلوغ الضغط مبلغاً عظيماً في الشدّة، يفوق قدرة الجبال، وتنوء عن تحمّله.
3ـ وجود علاقة بين الجبال وتوفير الماء، حيث عطف قوله : (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا)، على قوله: (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَات).
وذلك لأنّ ارتفاع الجبال يوجب انخفاض الحرارة فيها، وقلّة تأثير الشمس عليها. فعندئذ تجتمع عليها الثلوج ثم تذوب في الفصول الحارّة، وتجري المياه الذائبة على وجه الأرض بهدوء وسكون، لتتشكل بعدها الأنهار والجداول، ويرتوي منها الإنسان، ويروي دوابَّه ومزارعه، ولولا الجبال لانجذبت المياه إلى باطن الأرض، ولما استفاد منها الإنسان إلاّ بالمكائن والأدوات الصناعية المعقّدة، وربما لا تكون الآبار مفيدة ولا تسدُّ حاجة المزارع وعموم الناس من الماء.
هذا بعض ما يرجع إلى فوائد الجبال الّتي يذكرها القرآن الكريم، ألمعنا إليها بصورة مبسطة. وأساتذة الفيزياء، والتضاريس الأرضية، يفسّرون كون الجبال أوتاداً للأرض بشكل علمي خاص، لا يقف عليه إلاّ المتخصص في تلك العلوم، والمطّلع على قواعدها، ولأجل ذلك اكتفينا بما ذكرنا14.
وفي الختام نؤكّد ما سبق في صدر البحث من أنّ القرآن ليس كتاباً يعالج قضايا العلوم الطبيعية والرياضية والهندسية، وإنّما يتعرض لبعض القوانين السائدة على الكون لأجل الاهتداء بها إلى المعارف والأُصول العقلية، كالتعرف على الله وصفاته وأفعاله، وعلى ذلك فلا يصحّ لنا الإكثار من هذا النوع من الإعجاز، وتطبيق الآيات على القوانين الكونية، حتى وإن لم يكن ظاهراً فيها. فما يرى من الإسراف في بعض التفاسير في هذا المجال، ليس بِمَرْضيٍّ عند من يقف في تفسير القرآن الكريم على باب النصّ من نفس الكتاب، على اختلاف وجوهه وأقسامه، أو الأثر المأثور من صاحب الشريعة وآله، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص418-433
1- حكاه شيخنا المغفور له العلامة الشيخ محمد جواد مغنية عن مفتي موصل العبيدي في كتابه «النواة».
2- البرهان في تفسير القرآن، للعلاّمة البحراني، ج 1، ص 28.
3- البرهان، ج 2، ص 278.
4- سفينة البحار، مادة نجم، ج 2، ص 574. وراجع مجمع البحرين، مادة «كوكب»، ولعلّ المراد من عمودين، القوّتان الساريتان في الكون، الجاذبة والطاردة.
5- الوسائل، ج 3، كتاب الصلاة، الباب 13، أبواب المواقيت، الحديث 22.
6- الوسائل، ج 3، كتاب الصلاة، الباب 20، من أبواب المواقيت، الحديث 2.
7- مفردات الراغب، مادة فلك، ص 385.
8- مفردات الراغب، مادة سبح، ص 221.
9- لاحظ برهان حدوث المادة الّذي أشرنا إليه في الجزء الأول من كتاب الإلهيات، ص 73 الطبعة الأُولى.
10- وبهذا المضمون طه:53، ولقمان :10، والشعراء:7، ويس:36، وق: 7، والرحمن:53.
11- مفردات الراغب، مادة زوج، صفحة 216.
12- التوحيد، للصدوق، الباب 43، الحديث الثاني، ص 308. وقد نقله في ص 37، باب التوحيد ونفي التشبيه، والحديث الثاني عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السَّلام.
13- سفينة البحار، مادة نجم، 2، ص 574.
14- ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الأُستاذ دام ظلّه على سورة الرعد: "القرآن وأسرار الخلقة". وهو فارسي، لم يترجم بعد.