وجهه سبحانه
صفات وأسماء الخالق
الإِمام الأشعري قال في كتابه الإِبانة: بأنَّ لله وجهاً بلا كيف كما قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّـكَ ذُو الْجَلالِ وَالاِْكْرَامِ الرحمن:27. وهو يريد بذلك إثبات الوجه لله سبحانه بمعناه الحرفي ولكن فراراً عن التشبيه يذيله بالبلكفة ويقول بلا كيف. والمُؤَوِّلة يعتقدون بلزوم التأْويل في الآية ويقولون تأْويلها الذات
عدد الزوار: 260
الإِمام الأشعري قال في كتابه (الإِبانة): "بأنَّ لله وجهاً بلا كيف كما قال: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّـكَ ذُو الْجَلالِ وَالاِْكْرَامِ﴾(الرحمن:27). وهو يريد بذلك إثبات الوجه لله سبحانه بمعناه الحرفي ولكن فراراً عن التشبيه يذيله بالبلكفة ويقول "بلا كيف".
والمُؤَوِّلة يعتقدون بلزوم التأْويل في الآية ويقولون تأْويلها الذات، ولكن ما قالت به المؤوّلة وإن كان صحيحاً نتيجة، إلاّ أنَّ الآية لا تحتاج إلى التأويل، وإِنما تحتاج إليه لو فرضنا أنَّ الوجه ظاهر في العضو الخاص. وأما لو كان ظاهراً "بسبب القرينة التي سنذكرها" في ذات الشيء وشخصه، فلا تحتاج إليه، ويكون الظاهر المتبادر هو المتبع.
والدليل عليه هو أنَّ الوجه، كما يأتي بمعنى العضو الخاص، يأتي بمعنى الذات. قال ابن فارس: "ربما عبر عن الذات بالوجه، قال:
اَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيهِ رَبَّ العِبادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ"1.
ولعل وجه التعبير عن الذات بالوجه، أنَّ وجه الإِنسان أو وجه كل شيء تمام حقيقته عند الناظر، ولأجل ذلك إذا رأى شخص وجه إنسان آخر يقول رأيته، كأنه رأى الذات كلها. وعلى ذلك فيحتاج حمل اللفظ على واحد من المعنيين الرائجين إلى قرينة، لأَن المعنى الثاني بلغ بكثرة الإِستعمال إلى حد الحقيقة.
والقرينة تعين المعنى الثاني، حيث وصف الوجه بقوله: (ذُو الْجَلاَلِ وَ الإِكْرَام) ومن المعلوم أنَّها من صفات الرب، أي ذاته سبحانه، لا من صفات الوجه، أعني الجزء من الكل. ولو كان الوجه هنا بمعنى العضو المخصوص، لوجب أن يجعل "الجلال والاكرام"، وصفاً للربّ (المضاف إليه)، ويقول "ذي الجلال والاكرام".
ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه جعله وصفاً للمضاف إليه، (الرب) لا المضاف، في آية أخرى وقال سبحانه: ﴿تَبَارَكَ اْسمُ رَبِّكَ ذي الجَلالِ والإِكرامِ﴾(الرحمن:78)، ومن المعلوم أنَّ الإِسم ليس صاحب هذا الوصف، وإِنما صاحبه هو نفس الرب، وسيوافيك توضيح وافر عند البحث عن كونه سبحانه ليس بجسم في الصفات السلبية.
وهناك كلمة مروية عن الرسول الأعظم وهي:"إِنَّ الله خلق آدم على صورته" فاستدل به المشبهة على أَنَّ لله سبحانه صورة وخلق آدم على طبقها. ولكن القوم لو رجعوا إلى أئمة أَهل البيت لوقفوا على أنَّ الحديث نقل مبتوراً، فقد رَوَى الصدوق بسنده عن علي عليه السلام قال: "سمع النبيُّ رجلا يقول لرجل: قبح الله وجهك ووجه من يشبهك. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: مَهْ، لا تقل هذا، فإِن الله خلق آدم على صورته"2.
أي على صورة هذا الرجل الذي تسبه وتسب من يشبهه وهو آدم.
ورَوَى أيضاً عن الحسين بن خالد أنَّه قال للرضا عليه السلام:"يا ابن رسول الله:إِنَّ الناس يروون أنَّ رسول الله قال إِنَّ الله خلق آدم على صورته، فقال:قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث: إِنَّ رسول الله مرّ برجلين يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه:قبح الله وجهك، ووجه من يشبهك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبدالله، لا تقل هذا لأخيك، فإِنَّ الله عزوجل خلق آدم على صورته"3.
• يده سبحانه
قال الإِمام الأشعري:"إِنَّ الله سبحانه يدين بلا كيف، كما قال ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾(ص:75). وهو يريد حمل اليد على معناها الحرفي والظهور الإِفرادي، ولكن فراراً عن التشبيه يردفه بقوله "بلا كيف".
لا شك أَنَّ اليد أو اليدين إذا أطلقتا مفردتين، يتبادر منهما العضو الخاص. ولكن هذا ظهوره الإِفرادي، ولا يُتَّبع إلاّ إذا كان موافقاً لظهوره التصديقيّ. وأمَّا إذا كانا متخالفين فالمتبع هو الثاني، فربما يكون ظاهراً في غير هذا، وإليك البيان:
1- ربما يكون ظاهراً في القوة:قال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الاَْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾(ص:17).ولا شك أنَّه ليس المراد منه العضو الخاص، بل المراد هو القوة، كما يقال: "لفلان يَدٌ على كذا"، أو يقال "مالي بكذا يد" قال الشاعر:
فَاعْمَد لِما تَعْلُو فَمَالَكَ بالذي لا تَسْتَطيعُ مِنَ الأُمورِ يَدانِ
وبهذا الإِعتبار شبه الدهر والريح فجعل لهما اليد، ويقال:"يَدُ الدَّهر" وقال الشاعر "بيد الشمال زمامها"، لما لهما من القوة.
2- وربما يكون ظاهراً في النعمة:يقال "لفلان عندي أيادي كثيرة" أي فواضل وإِحسان، "وله عندي يد بيضاء" أي نعمة. قال الشاعر: "فإِنَّ له عندي يَدَيّا وأنْعُماً". فهل يصح أنْ نحمل اليد في هذين الموضعين على العضو الخاص، ونتهم من فسّرها بالقوة في الموضع الأول، والنعمة في الموضع الثاني، بالتأويل وتحريف الآيات؟ كلا، لا.
وبذلك يظهر صحة ما قلناه من أنَّ المتبع ليس هو الظهور الأفرادي بل الظهور التصديقي. ألاترى أنَّه سبحانه ينسب الخدعة والمكر والنسيان إلى نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾(الانفال:30).
والظهور الإِفرادي والمعنى الحرفي لهذه اللفظة (المكر) هو الخدعة، ومن المعلوم أنَّ الخدعة، وسيلة العاجز، تعالى عنه سبحانه. بينما الظهور التصديقي يمنع من حمله على المعنى الإِفرادي، لأَنَّ الآية وما يضاهيها وردت من باب المشاكلة، وهو متوفر في كلام العرب وغيرهم. فليس لنا الحمل على المعنى الحرفي بحجة أنَّه يجب حمل كلام الله على ظاهره، وليس لنا تأُويله وتحريفه. ونحن نقول أَيضاً، يجب علينا حَمْل كلام الله على ظاهره. لكن ما يدعونه من الظاهر ليس ظاهراً للآية وإنما هو ظاهر كلمة من الآية، والمتبع هو ظهورها التصديقي والجمَلي، وهو القوة في الموضع الأَول والنعمة في الموضع الثاني.
إذا وقفت على ما ذكرنا، فيجب إِمعان النظر في قوله سبحانه: (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) فإِنَّ للمفسرين فيه آراء.
أ- اليد بمعنى القدرة.
ب - اليد بمعنى النعمة.
وأُورد عليهما أَنَّ قدرة الله واحدة فما وجه التثنية في قوله "بِيَدَيَّ"؟ كما أَنَّ نِعَمَهُ سبحانه لا تُحصى، فلماذا ثنَّاها؟.
ج - اليدان بمعنى القدرة والنعمة، وبه يرتفع الإِشكال المتقدم.
أقول: لو دلت القرائن على أنَّ الآية ظاهرة فيما ذكر لوجب الأخذ به، لما عرفت من أنَّ المتبع هو الظهور التصديقي لا الإِفرادي، ولكن لم تتحقق القرائن عندنا.
د - الحمل على المعنى اللُّغوي لكنه كناية عن كونه سبحانه متولياً لخلقه لا غيره، فإِنَّ أكثر الأعمال التي يقوم بها ذواليدين، فإِنما يباشرها بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما. حتى قيل في عمل القلب "هو مماعملت يداك".ولو سبَّ إِنسان إنساناً آخر وجُزي بعمله، يقال له:"هذا ما قدَّمت يداك".حتى قيل لفاقد اليدين:"يداك أوْكَتاوَفُوك نَفَخ". ولأَجل ذلك ليس فرق بين قولك:"هذا مما عَمِلْتَه" و"هذا ما عملته يداك".و منه قوله سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ﴾(يس:71).
والكل ظاهر في كونه سبحانه هو المتولي للخلقة، والمبدع لا غيره.
إذا عرفت ذلك، يتبين مرمى الآية وهو أنَّه سبحانه بصدد التنديد بالشيطان قائلا: بأَنك لماذا تركت السجود لآدم مع انّي توليت خلقه وإِيجاده، وأنا أعلم بحاله، والمصالح التي دعت إلى أمرك وأمر الملائكة بالسجود له. فهل استكبرت علي، أم كنت من العالين.
والدليل على أَنَّ الخلق باليدين كناية عن توليه سبحانه لخلقه بذاته وشخصه لا عن توليه وتصديه لخلقه بالعضوين، هو أَنَّ ملاك التنديد إعراض إبليس عن السجود لمصنوعه سبحانه من غير مَدْخَلِيَّة لخلقه بالعضو الخاص (اليد) بحيث لو خلقه بغيرها "ومع ذلك أعرض ابليس عن سجوده" لما توجه إليه لوم.
فالملاك هو الإِعراض عن السجود لما قام به سبحانه من الخلق من دون دخالة لأداة الخلقة.
فإنْ قيل: إذا كان هو المُبدع والمُتَولي لخلق سائر الأَناسي، فلماذا خص خلقه آدم بنفسه؟ قلنا: إِنَّ الإِضافة والتخصيص لبيان كرامته وفضيلته وشنيع فعل إبليس. ومثله قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾(الحجر:29). فتخصيص الإِضافة لبيان تشريفه سبحانه، كما يقول: ﴿أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّـائِفِينَ وَالْعَـاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾(البقرة:125).
ومثل ما تقدم، الكلام في قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَـاهَدَ عَلَيْه اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيماً﴾(الفتح:10) فهل عندما نزلت الآية فهم منها السلف الصالح ما ينسبه إليهم ابن تيمية من أنَّ المراد هو المعنى اللغوي لكن ليست يده كيد المخلوقات وهي فوق أيدي الصحابة، أو أنهم فهموا أنَّ المراد سلطان الله وقدرته، بدليل ما فيها من تهديد لمن ينكث، بأنَّ مغبَّة النكث تعود عليه.
فلو تكاثفت الجهود على تشخيص الظواهر، سواء أكانت معان حقيقية أم مجازية، لارتفعت جميع التوالي فلا يلزم تمثيل ولا تشبيه، ولا تعطيل ولا تجهيل، ولا تأويل وخروج عن الظواهر، بل كان أخذاً بالظواهر بالمعنى المتبادر عند أهل اللغة أَجمعين.
ونحو ذلك لو تدبروا في قوله سبحانه: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾(المائدة:64)، لأذعنوا بأنَّ المراد من إثبات بسط اليد لله سبحانه ليس هو البسط الحسي، بل المراد بيان سعة جوده وبذله. كما يذعنون به عند الوقوف على قوله سبحانه: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً﴾(الإِسراء:29).
فعندئذ نتساءل: أي فرق بين الآيتين بحيث أن المثبتين للصفات يحملون الآية الأولى على المعنى المتبادر من اليد عند الإِفراد، ثم لأجل الفرار من التجسيم يعقبونه بقولهم "بلاكيف". وفي الوقت نفسه لا يشك هؤلاء أنفسهم في أنَّ المراد من الآية الثانية هو البذل والجود أو التقتير والبخل؟!!
إلى هنا ظهر أَنَّ ما تمسكت به الحنابلة والأشاعرة في إثبات الصفات الخبرية لله سبحانه، يبتني على التمسك بالظهورات الحرفية والمعاني الإِفرادية، غافلين عن أنّ المتبع في المحاورات هو الظهور التصديقي برعاية القرائن المتصلة بالكلام والمفهومة عند العرب سواء أوافقت المعاني الإِفرادية أم لا. ولو مشوا على تلك الضابطة لوقفوا على تنزيهه سبحانه عن إثبات هذه الأَعضاء والمعاني له. وقد اكتفينا في هذا المقام بتبيين الأَلفاظ الثلاثة: العرشُ واستواؤه عليه، الوجه، اليد.و على ضوء ما بيناه من الضابطة تقدر على تبيين سائر الأَلفاظ الواردة في الذكر الحكيم والسنَّة الصحيحة.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص339-347.
1- المقاييس، ج 6، ص 88، مادة "وجه".
2- التوحيد للصدوق، الباب 12، الحديث 10، ص 152.
3- التوحيد للصدوق، الباب 12، الحديث 11، ص 153.