بُرهانُ حدوث المادة
أدلة إثبات الخالق
إنَّ الأُصول العلمية أَثبَتَتْ نفاد الطاقات الموجودة في الكون باستمرار، وتَوَجُّهَها إلى درجة تنطفئُ معها شعلةُ الحياة وتنتهي بسببه فعالياتُها ونشاطاتُها (أثبت العلم بكل وضوح أَنَّ هناك انتقالا حرارياً مستمراً من الأَجسام الحارة إِلى الأَجسام الباردة ولا يمكن أَنْ يَحْدُثَ العكسُ بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارةُ فترتَدُّ من الأَجسام الباردة إلى الأَجسامِ الحَارة.
عدد الزوار: 372
إنَّ الأُصول العلمية أَثبَتَتْ نفاد الطاقات الموجودة في الكون باستمرار، وتَوَجُّهَها إلى درجة تنطفئُ معها شعلةُ الحياة وتنتهي بسببه فعالياتُها ونشاطاتُها1. وهذا (نفاد الطاقات وانتهاؤها) يدل على أَنَّ وصفَ الوجود والتَّحقّق للمادة ليس أَمراً ذاتياً لها، إذ لو كان الوجود والتحقُّق أَمراً ذاتياً لها، لزم أَنْ لا يفارقها أَزلا وأَبداً، فنفادها وزوال هذا الوصف عنها خيرُ دليل على أَنَّ الوجودَ أَمرٌ عرضي للمادة، غيرُ نابع من صميم ذاتها. ويلزم من ذلك أَنْ يكونَ لوجودها بدايةٌ، لأنَّ لازمَ عدمِ البداية كونُ هذا الوصفِ أَمراً ذاتياً لها كما هو شَأْنُ كُلِّ ذاتيٍّ، ولو كان ذاتياً لها لوجب أَنْ لا يكون لها نهاية، مع أَنَّ العلم أثبتَ لها هذه النهاية.
وبعبارة أخرى: إِنَّ الوجودَ للمادة المتحولةِ إِلى الطّاقة ليس أَمراً ذاتياً لها، وإِلاَّ لوجب أَنْ لا يفارقَها أبداً وأَنْ لا تسير المادة إِلى الفناءِ وانعدام الحياة والفعالية، والحال أَنَّ العلوم الطبيعية اعترفت بأنَّ المادة سينتهي سلطانُها وتفنى قوَّتُها وطاقاتها وتموت وتبرد. فالمفارقة في جانب النهاية دليل على عدم كونِ الوجود ذاتياً للمادة، وكونُه غيرَ ذاتيٍّ يلازم أَنْ يكونَ لها بداية، وهذا هو ما نقصده من حدوث المادَّة.
بقيت هنا نكاتٌ يجب التنبيهُ عليها:
الأُولى: "العلة عند الإِلهي والعلة عند المادي.
إِنَّ كُلاًّ من الإِلهي والمادي يستعمل كلمة العلّة وكلٌّ يريد منه معنى مُغَايراً لما يريدُه الآخر.
فالعلّة عند الإِلهي هي مفيضُ الوجودِ على الاشياءِ ومُخرِجُها من العدم، ومصيِّرها موجودةً بعد أَنْ كانت معدومة" فعند ذلك يكون المعلولُ بمادته وصورته وبجميع شؤونه منوطاً بها، فالعلة هي التي تعطي المادة وجودها وصورتها وكل شؤونها وهي التي "بالتالي" تخرجها من ظلمة العدم إلى حيّز التحقّق.
وللتوضيح نمثل لذلك بالصور الذهنية والنفسِ الإِنسانية. إِنَّ النفسَ تُوجِد الصورَ في الذهن وتُكَوِّنُها فيه. نعم، النفسُ تستعين في خلقها لبعض الصور بأَمثلة خارجية محسوسة ولكنها قد تخلق أَحياناً صوراً في الذهن لا مثيل لها في الخارج كالمفاهيم الكليّة مثل مفهومي الإِنسان والإِمكان.
وعلى ذلك فالعلّة التي يقصدها الإِلهي هي ذلك. وبالتالي إنَّ الخالق خَلَقَ المادة وأَفاض عليها صُوَرَها وأَحاطها بشبكة من النظام البديع الذي لم يكن قبل ذلك قط.
وأَما العلةُ عند المادي فهي المُوجِد للحركة والتفاعلات في المادة، كالنجار الّذي يجمع الأخشاب من هنا وهناك ويضم بعضها إلى بعض بنحو خاص فتصيرُ على هيئة الكرسي، أو كالبنّاء الذي يجمع الأحجَار والطين من هنا وهناك ويرتِّبُها بهندسة خاصة فتصير جداراً وبناءً، أو كالنَّار التي توجب غليان الماء وتُحَوِّلُه إلى بخار.
وربما يتوسع الماديّ في استعمال كلمة العلّة فيطلقُها على نفس المادة المتحولة إِلى مادة أخرى كالحطب إلى الرماد، والوَقود إلى الطاقة، والكهرباء إلى الضوء والصوت والحرارة.
فبذلك عُلِمَ أَنَّ بين المصطلحين بوْناً شاسعاً، فأَين العلة التي يستعملها الإِلهي في مفيض الوجود بمادته وصورته، من العلة التي يستعملها المادي في موجد الحركة في المادة أَو في المادة القابلة للتحول إِلى شيء آخر!!.
والذي دعى المادي إلى تفسير العلَّة بهذا المعنى هو اعتقادُه بِقدَمِها وقِدَمِ الطاقاتِ الموجودة فيها وغناها عن مُوجِدِها. وهذا بخلاف الأِلهي المعتقد لحدوث المادة وسَبْقِها بالعدَم، فلها علّة فاعلية مخرجة لها من العدم إِلى الوجود.
وإِلى ذينك الإِصطلاحين أَشارَ الحكيم الإِلهي السبزواري بقوله:
معطي الوجود في الإِلهي فاعل معطي التحرك الطبيعي قائل
نعم ربما يستعمل الإِلهي لفظة العلّة في معطي الحركة ومُوجِدِها وإِنْ لم يُوجِد المادةَ وصورتَها، فيقول: إِنَّ النجارَّ علةٌ للسرير، والنارَ للإِحراق، توسعاً في الإِصطلاح.
وإلى ما ذكرنا يشير قوله سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَـالِقُونَ *... أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *... أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِـؤُونَ﴾(الواقعة:58-72).
ولا شك أنَّ للإِنسان دوراً في تكوُّن الإنسان والزرعِ والشجرِ، ولله سبحانه أيضاً دوراً. ولكنَّ دورَ الإِنسان لا يتجاوز كونَه فاعلا بالحركة حيث يلقي النطفة في الرحم وينثر البذور في الأرض ويغرس الأشجار ويُجْري الماء عليها، فأين هو من إفاضة الوجودِ على الإِنسان والزرع.. والشجرة، مادة وصورة.
الثانية: إِنَّ في الكتاب الكريم نصوصاً على حدوثِ الكون أَرضاً وسماءً وما بينهما وما فيهما.
والآيات في هذا الشأن كثيرة نشير إلى القليل منها.
قال سبحانه: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُو وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء﴾(الأنعام:101).
وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ...﴾(الطلاق:12). فصرَّح في الآية الأُولى بِخَلْقِ كُلِّ شيء. وفي الآية الثانية بخلق السماء والأرض، ولكن صرَّحَ في الآيتين التاليتين بخلق كلِّ دابة ونفس الإِنسان.
قال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة﴾(النور:45).
وقال سبحانه: ﴿هَلْ أَتى على الإِنْسانِ حِينٌ من الَّدَهْرِ لم يَكُنْ شَيْئاً مذكوراً﴾(الدهر:1). إِلى غير ذلك من الآيات.
• حدوثُ الكون في الأَحاديث
قال الإِمامُ أَمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب عليه السَّلام في خطبة له:
"الحمد لله الدالِّ على وجودِه بخَلْقِهِ، وبمُحْدَثِ خَلْقِه على أَزَلِيَّتهِ"2.
وقال عليه السَّلام أيضاً: "الحمد لله الواحدِ الأَحدِ الصَّمدِ المتفردِ الذي لا مِنْ شيء كَانَ، ولا منْ شَيء خَلَقَ ما كَانَ"3.
وقال عليه السَّلام : "لم يَخْلُقِ الأَشياءَ مِنْ أصول أَزلية، ولا مِنْ أوائلَ كَانَتْ قَبْلَه أَبَدِيَّةٌ، بَلْ خَلَقَ ما خَلَقَهُ وَ أَتقن خَلْقَه، وَ صَوَّرما صَوَّر فأَحْسَنَ صورَتَه"4.
وقال عليه السَّلام: "لا يجري عليه السّكونُ والحركةُ، وكيفَ يَجْري عَلَيْهِ ما هُو أَجراه ويَعُودُ فيه ما هو أَبداهُ ويحدُثُ فيه ما هو أَحْدَثَه"5.
وقال الإِمام الحسن بن علي عليه السَّلام: "خَلَقَ الخَلْقَ فكان بديئاً بديعاً، إبتدأَ ما ابتَدَعَ، وابتَدَعَ ما ابتَدَأَ"6.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص73-78.
1- أثبت العلم بكل وضوح أَنَّ هناك انتقالا حرارياً مستمراً من الأَجسام الحارة إِلى الأَجسام الباردة ولا يمكن أَنْ يَحْدُثَ العكسُ بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارةُ فترتَدُّ من الأَجسام الباردة إلى الأَجسامِ الحَارة. ومعنى ذلك أنَّ الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأَجسام ويَنْضُبُ فيها مَعينُ الطاقة. ويومئذ لن تكون هنالك عملياتٌ كيميائية أو طبيعيةٌ، ولن يكون هنالك أَثَر للحياة نفسِها في هذا الكون. ولما كانت الحياة لا تزال قائمة، ولا تزال العمليات الكيميائية والطبيعية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أَنْ نستنتج أَنَّ هذا الكون لا يمكن أَنْ يكون أَزلياً وإِلا لاستهلك طاقاته منذ زمن بعيد وتوقف كلّ نشاط في الوجود. وهكذا توصَّلت العلومُ دونَ قصد إلى أَنَّ لهذا الكونِ بِدايةٌ وباختصار: إِنَّ قوانين الدّيناميكا الحرارية تدلّ على أنَّ مكوناتِ هذا الكونِ تفقد حرارتها تدريجياً وأنَّها سائرةٌ حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الإِنخفاض هي الصّفر المطلق. ويومئذ تنعدمُ الطاقة وتستحيلُ الحياة.
2- نهج البلاغة: الخطبة 152.
3- التوحيد للصدوق: ص 41.
4- نهج البلاغة: الخطبة 163.
5- نهج البلاغة: الخطبة 186.
6- التوحيد للصّدوق، ص 46، الحديث 5.