إِشكال على برهان النَّظم
أدلة إثبات الخالق
إِعترض الفيلسوف الإِنكليزي ديفيد هيوم على برهان النَّظم بما حاصله أنَّ أساس برهان النَّظم - كما توهمه هيوم وفلاسفة الغرب قائم على أنَّنا شاهدنا أنَّ جميع المصنوعات البشرية المنظَّمة لا تخلو من صانع ماهر، فالبيت لا ينشأ بلا بنّاء، والسفينة لا توجد بلا عمال، فلا بدَّ للكون المنظّم من صانع خالق أيضاً لشباهته بتلك المصنوعات البشرية...
عدد الزوار: 342
إِعترض الفيلسوف الإِنكليزي ديفيد هيوم1 على برهان النَّظم بما حاصله أنَّ أساس برهان النَّظم كما توهمه هيوم وفلاسفة الغرب قائم على أنَّنا شاهدنا أنَّ جميع المصنوعات البشرية المنظَّمة لا تخلو من صانع ماهر، فالبيت لا ينشأ بلا بنّاء، والسفينة لا توجد بلا عمال، فلا بدَّ للكون المنظّم من صانع خالق أيضاً لشباهته بتلك المصنوعات البشرية.
ثم انتقد هذا الإِستدلال بأَنَّه مبني على التَّشابه بين الكائنات الطبيعية، والمصنوعات البشرية. ولكن هذا التشابه بمجرده لا يكفي لسحب وتعدية حكم أَحدهما إلى الآخر لاختلافهما، فإِنَّ مصنوعات البشر موجود صناعي بينما الكون موجود طبيعي فهما صنفان لا تسانخ بينهما، فكيف يمكن أَنْ نستكشف من أَحدهما حكم الآخر؟
وصحيح أنَّنا جرَّبنا مصنوعات البشر فوجدناها لا توجد إِلا بصانع عاقل، ولكننا لم نجرّب ذلك في الكون، فإِنَّ الكون لم يتكرر وجوده حتى يقف الإِنسان على كيفية خلقه وإِيجاده، بل واجهه لأول مرة، وبهذا لا يمكن أَنْ يثبت له علّة خالقة على غرار مصنوعات البشر إِلا إِذا جرّبه من قبل عشرات المرات، وشهد عملية الخلق والتكوّن كما شاهد ذلك وجرَّبه في المصنوعات البشرية، حتى يقف على أَنَّ الكون بما فيه من النّظام لا يمكن أَنْ يوجد من دون خالق عليم وصانع خبير. هذا هو محصل إِشكاله أَوردناه بغاية الوضوح.
إِنَّ ماذكره من الإِشكال ينم عن فهم ساذج وسطحي للغاية لبرهان النَّظم، ويعرب عن فقدان الغرب لمدرسة فلسفية متكاملة تدرك وتستوعب برهان النَّظم بصورته الصحيحة، فإِنَّ هذا البرهان لا يرتبط أَبداً بالتشابه والتمثيل والتجربة، وإِنَّما هو برهان عقلي تام، يحكم العقل فيه بعد ملاحظة طبيعة النظام وماهيته بأَنَّه صادر من فاعل عاقل وخالق قدير.
توضيح ما ذكرناه :أَنَّ برهان النَّظم ليس مبنياً على التشابه بين مصنوعات البشر والموجود الطبيعي كما جاءَ في اعتراض «هيوم»، حتى يقال بالفرق بين الصنفين، ويقال هذا صناعي وذاك طبيعي ولا يمكن إِسراء حكم الأَول إلى الثاني.
ولا على التماثل "الذي هو المِلاك في التجربة" حتى يقال إِنَّا جربنا ذلك في المصنوعات البشرية ولم نجرّبه في الكون لعدم تكرر وقوعه وعدم وقوفنا على تواجده مراراً، فلا يصح سحب حكم الأَول على الثاني وتعديته إليه.
وإِنَّما هو قائم على ملاحظة العقل للنَّظم والتناسق والإِنضباط بين أَجزاء الوجود، فيحكم بما هو هو، من دون دخالة لأَية تجربة ومشابهة، بأَنَّ موجد النَّظم لا محالة يكون موجوداً ذا عقل وشعور، وإليك البيان:
إِنَّ برهان النَّظم مركَّب من مقدمتين، إِحداهما حسّية والأَخرى عقليَّة ودور الحسّ ينحصر فى إِثبات الموضوع، أَيْ وجود النظام في الكون والسنن السائدة عليه، وأَمَّا دور العقل فهو يرجع إلى أَنَّ هذا النّظام بالكيفيَّة والكميَّة المحددة، لا يمكن أنْ يكون نتيجة الصّدفة أَو أَيِّ عامل فاقد للشعور.
أَمّا الصغرى، فلا تحتاج إلى البيان. فإِنَّ جميع العلوم الطبيعيَّة متكفلة ببيان النُّظُم البديعة السائدة على العالم من الذرة إلى المجرة، وإِنَّما المهم هو بيان الكبرى، وهي قضاء العقل بأَنه وليد دخالة عقل كبير في حدوثه من دون استعانة في حكمه بمسألة التشابه أَو التجربة. بل يستقل به مجرداً عن كل ذلك فنقول:
1- الإِرتباط المنطقي بين النظام ودخالة الشعور
إِنَّ العقل يحكم بوجود رابطة منطقية بين النظم ودخالة الشعور، وذلك لأَنَّ النظم ليس في الحقيقة إِلاّ أُمور ثلاثة:
أ - الترابط بين أَجزاء متنوعه مختلفة من حيث الكمية والكيفية.
ب - ترتيبها وتنسيقها بنحو يمكن التعاون والتفاعل فيما بينها.
ج - الهادفية إلى غاية مطلوبة ومتوخاة من ذلك الجهاز المنظم.
والنظام بهذا المعنى موجود في كل أَجزاء الكون من ذرته إلى مجرته، فإذا نظر العقل في كل جوانب الكون ابتداءً من الذرة ومروراً بالإِنسان والحيوان والنبات وانتهاءً بالنجوم والكواكب والمجرّات ورأى فيها أجزاءً مختلفة في الكمية والكيفية أَولا، ومنسقة ومرتبة بنحو خاص ثانياً، ورأى كيف يتحقق بذلك الهدف المنشود من وجودها ثالثاً، حكم من فوره بأَنَّ ذلك لا يمكن أَنْ يصدر إِلاّ من فاعل عاقل، وخالق هادف شاعر، يوجد الأجزاء المختلفة كمّاً وكيفاً، ويرتبها وينسّقها بحيث يمكن أَنْ تتفاعل فيما بينها وتتعاون لتحقيق الهدف المطلوب من وجودها.
وهذا الحكم الذي يصدره العقل لا يستند إلى شيء غير النظر إلى ماهية النظام وطبيعة الآبية للتحقق بلا فاعل عاقل مدبر. وهو لا يستند لا إلى التشابه ولا إلى التجربة كما تخيل (هيوم) وأَضرابه.
إِنَّ ملاحظة العقل لما في جهاز العين أَو الأذن أَو المخ أَو القلب أو الخلية من النظام، بمعنى وجود أَجزاء مختلفة كمّاً وكيفاً، أولا، وتناسقها بشكل يمكنها من التفاعل فيما بينها ثانياً، وتحقيق الهدف الخاص منها ثالثاً، يدفع العقل إلى الحكم بأنها من فعل خالق عليم، لاحتياجها إلى دخالة شعور وعقل وهادفية وقصد.
وبهذا تبين أَنَّ بين الجهاز المنظّم، ودخالة العقل والشعور رابطة منطقية. وإِنْ شئت قلت: إِنَّ ماهية نفس النظام بمقوّماته الثلاثة (الترابط، والتناسق، والهادفية) تنادي بلسانها التكويني: إِنَّ النظام مخلوق عقل واسع وشعور كبير.
2- تقرير الرابطة المنطقية بين النظام ودخالة الشعور بشكل آخر
إِنَّ العقل عندما يرى اجتماع ملايين الشرائط اللازمة لاستقرار الحياة على الأرض بحيث لو فقد بعضها لاختلت الحياة، أو عندما يرى اجتماع آلاف الأَجزاء والعناصر اللازمة للإِبصار، في العين، بحيث لو فقد جزء واحد أو تقدم أو تأخر عن مكانه المعين لاختلت عملية الرؤية واستحال الإِبصار، يحكم أَنَّ هناك عقلا جباراً أرسى مثل هذا النظام، وأوجد مثل هذا التنسيق والإِنسجام والترتيب والتوفيق، ويحكم بدخالة الشعور في ذلك ونفي حصوله بالصدفة والإِتفاق، لأنَّ اجتماعها عن طريق الصدفة كما يمكن أن يكون بهذه الصورة المناسبة كذلك يمكنه أن يكون بما لا يعدّ ولا يحصى من الصور والكيفياتْ الأُخرى غير المناسبة، وحينئذ يكون احتمال استقرار هذه الصورة من بين تلكم الصور الهائلة، احتمالا ضعيفاً جداً يكاد يبلغ الصفر الرياضي في ضآلته، وهو ما لا يذهب إليه الإِنسان العادي فضلا عن العاقل المحاسب.
أَجل، إِنَّ هذه المحاسبة الرياضيَّة التي يُجريها العقل إِذا هو شاهد النظام السائد في الكون، تدفعه إلى الحكم بأَنَّ هناك علة عاقلة اختارت هذه الصورة من بين تلك الصور الهائلة بقصد وإِرادة، وجمعت تلك الشرائط اللازمة بهذا الشكل المناسب للحياة.
وبهذا يبقى برهان النظم قوياً صامداً سليماً عن أَيَّ نقد ولا يرتبط بشيء من التمثيل أَوْ التجربة كما تصور "هيوم"، وإِنما هو العقل وحده ينتهي إِليه عن طريق ملاحظة نفس ماهية النظام من دون تنظيرها بشيء، وبهذا يتساوى الموجود الطبيعي والمصنوع البشري. فالعقل إذا رفض الإِذعان بأَنَّ الساعة وجدت بلا صانع أَو أنَّ السيارة وجدت بلا علة، فإِنما هو لأَجل ملاحظة نفس الظاهرة (الساعة والسيارة) حيث يرى أَنَّها تحققت بعد ما لم تكن، فيحكم من فوره بأَنَّ لها موجداً. وليس هذا الحكم إِلا لأَجل الإِرتباط المنطقي بين وجود الشيء بعد عدمه، ولزوم وجود فاعل له، وإِنْ شئت قلت لأَجل قانون العلية والمعلولية الذي يعترف به العقل في جميع المجالات.
كما أَنَّ حكم العقل في المقام بأَنَّ الموجود المنظم مخلوق عقل كبير، ناشئ من الإِرتباط المنطقي بين النظام ودخالة الشعور، أَو استحالة ظهور النظام صدفة للمحاسبة الرياضية التي مرّت، لا لأَن العقل مثل أَو جرّب فتوصل إلى هذه النتيجة.
وحصيلة الكلام: إِنَّ طبيعة النظام وماهيته في الأشياء التي نراها تنادي بلسان تكوينها أَنَّها صادرة عن فاعل شاعر وخالق عاقل، وهذا هو الذي يجعل العقل يذعن بوجود مثل هذا الخالق وراء النظام الكوني، من دون النَّظر إلى شيء آخر.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج 1 . ص55-59.
1- وهو اسكتلندي المولد، ولد عام 1711 م وتوفي عام 1776 م. وكان يعد من أَكبر الفلاسفة المشككين، وقد أورد هذا الإِشكال في كتابه المسمى بـ«المحاورات» وهو مؤلف على شكل حوار بين شخصين افتراضيين أَحدهما يمثل مشككاً في برهان النَّظم باسم «فيلون» والآخر يمثل المدافع عنه باسم «كلثانتس».