الإمام الجواد عليه السلام ويحيى بن أكثم
ولادة الإمام محمد الجواد(ع)
بعدما عارض العباسيون زواج الإمام الجواد عليه السلام من ابنة المأمون، قائلين له: "إنه صبي لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدب ويتفقه في الدين، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك". فقال لهم المأمون: ويحكم! إني أعرف بهذا الفتى منكم، وإن هذا من أهل بيت علمهم من الله،
عدد الزوار: 1153بعدما عارض العباسيون زواج الإمام الجواد عليه السلام من ابنة المأمون، قائلين له: "إنه صبي لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدب ويتفقه في الدين، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك". فقال لهم المأمون: ويحكم! إني أعرف بهذا الفتى منكم، وإن هذا من أهل بيت علمهم من الله، ومواده وإلهامه، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر عليه السلام بما يتبين لكم به ما وصفت من حاله.
قالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة، فإن أصاب الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم. فخرجوا من عنده، واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك، فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، فأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر عليه السلام دست – وسادة- ويجعل له فيه مسورتان - متكأ من أدم -، ففعل ذلك. وخرج أبو جعفر عليه السلام وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم، والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر عليه السلام.
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أتأذن لي يا أمير المؤمنين! أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك. فأقبل عليه يحيى بن أكثم، فقال: أتأذن لي جعلت فداك، في مسألة؟ قال له أبو جعفر عليه السلام: سل إن شئت. قال يحيى: ما تقول جعلني الله فداك، في محرم قتل صيدا؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: قتله في حل أو حرم؟ عالما كان المحرم أم جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ حرا كان المحرم أم عبدا؟ صغيرا كان أم كبيرا؟ مبتدئا بالقتل أم معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كباره؟ مصرا على ما فعل أو نادما؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهارا؟ محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟ فتحير يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، ولجلج – تردد في الكلام - حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره.
فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي. ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم: أ عرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم أقبل على أبي جعفر، فقال له: أ تخطب يا أبا جعفر!؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين! فقال له المأمون: اخطب جعلت فداك لنفسك! فقد رضيتك لنفسي، وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي، وإن رغم قوم لذلك. فقال أبو جعفر عليه السلام: الحمد لله إقرارا بنعمته، ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته، وصلى الله على محمد سيد بريته، والأصفياء من عترته. أما بعد: فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ النساء: 3، ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد عليهما السلام وهو خمسمائة درهم جيادا، فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور؟ قال المأمون: نعم! قد زوجتك يا أبا جعفر! ابنتي على هذا الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: قد قبلت ذلك، ورضيت به. فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة. قال الريان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه أصوات الملاحين في محاوراتهم، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من الفضة مشدودة بالحبال من الأبريسم على عجل مملوة من الغالية، فأمر المأمون أن يخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية، ثم مدت إلى دار العامة، فطيبوا منها، ووضعت الموائد فأكل الناس، وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم.
فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي، قال المأمون لأبي جعفر عليه السلام: إن رأيت جعلت فداك! أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم الصيد لنعلمه ونستفيده؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: نعم! إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل، وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها، فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا. فإذا قتل فرخا في الحل، فعليه حمل قد فطم من اللبن. وإذا قتله في الحرم، فعليه الحمل، وقيمة الفرخ. وإن كان من الوحش، وكان حمار وحش، فعليه بقرة. وإن كان نعامة، فعليه بدنة. وإن كان ظبيا، فعليه شاة. فإن قتل شيئا من ذلك في الحرم، فعليه الجزاء مضاعفا، هديا بالغ الكعبة. وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، وكان إحرامه بالحج، نحره بمنى. وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكة. وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ. والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة. فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر! أحسن الله إليك! فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك؟ فقال أبو جعفر عليه السلام ليحيى: أسألك؟ قال: ذلك إليك جعلت فداك! فإن عرفت جواب ما تسألني عنه، وإلا استفدته منك. فقال له أبو جعفر عليه السلام: أخبرني عن رجل: نظر إلى امرأة في أول النهار، فكان نظره إليها حراما عليه. فلما ارتفع النهار، حلت له. فلما زالت الشمس، حرمت عليه.
فلما كان وقت العصر، حلت له. فلما غربت الشمس، حرمت عليه. فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة، حلت له. فلما كان انتصاف الليل، حرمت عليه. فلما طلع الفجر، حلت له. ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلت له وحرمت عليه؟ فقال له يحيى بن أكثم: والله! ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: هذه أمة لرجل من الناس، نظر إليها أجنبي في أول النهار، فكان نظره إليها حراما عليه. فلما ارتفع النهار، ابتاعها من مولاها، فحلت له. فلما كان عند الظهر، أعتقها، فحرمت عليه. فلما كان وقت العصر، تزوجها، فحلت له. فلما كان وقت المغرب، ظاهر منها، فحرمت عليه. فلما كان وقت العشاء الآخرة، كفر عن الظهار، فحلت له. فلما كان في نصف الليل، طلقها واحدة، فحرمت عليه. فلما كان عند الفجر، راجعها، فحلت له.
قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته، فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن المسألة بمثل هذا الجواب، أو يطرف القول فيما تقدم من السؤال؟ قالوا: لا والله! إن أمير المؤمنين أعلم بما رأى. فقال لهم: ويحكم! إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال. أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون ست سنين، ولم يبايع صبيا غيرهما، أفلا تعلمون الآن ما اختص الله به هؤلاء القوم، وأنهم ذرية طيبة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم. قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين! ثم نهض القوم. فلما كان من الغد، حضر الناس وحضر أبو جعفر عليه السلام، وصار القواد والحجاب والخاصة والعامة لتهنئة المأمون وأبي جعفر عليه السلام، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق مسك وزعفران، معجون في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة، وعطايا سنية وإقطاعات- اسم لما لا ينقل من المال كالقرى والأراضي والأبراج والحصون-. فأمر المأمون بنثرها على القوم في خاصته، فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له، ووضعت البُدُر- الأطباق -، فنثر ما فيها على القواد وغيرهم، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا.
*راجع: موسوعة الامام الجواد ع، السيد الحسيني القزويني، مؤسسة ولي العصر عليه السلام للدراسات الأسلامية قم المشرفة، ط1، ج1، 397-401 وج2، ص402-403.
2011-10-26