الحجر الأسود بين الإمام العابد والسلطان الزائف
الحجر الأسود
عندما ينتصر المضمون على الشكل. ويتفوق المعنى على اللفظ وتسود الحقيقة، ويتضاءل الخيال والسراب، عند ذلك ماذا يعني؟ لا شك يعني أن الواقع والمعقولية لا زالا بين أيدينا، يجريان بيننا، نعيشهما، وإن لم يتوافرا بانتظام.
عدد الزوار: 439
عندما ينتصر المضمون على الشكل. ويتفوق المعنى على اللفظ وتسود الحقيقة، ويتضاءل الخيال والسراب، عند ذلك ماذا يعني؟
لا شك يعني أن الواقع والمعقولية لا زالا بين أيدينا، يجريان بيننا، نعيشهما، وإن لم يتوافرا بانتظام. فتارة حاضران واضحان، وتارة أخرى غائبان بعيدان، بعيدان هناك بيد الهوى والجهل. لكنهما في كلّ الحالات موجودان. بالفعل أو بالقوة.
وهاهنا صورة تاريخية أدبية فريدة من نوعها، عرفها التاريخ الإسلامي على نطاق واسع عرفها من خلالها رجالها الثلاثة: الإمام العابد الساجد زين العابدين عليه السلام، والشاعر العربي المسلم الفرزدق، و السلطان الخليفة الأُموي هشام بن عبد الملك، ولكلّ واحد من هؤلاء الثلاثة دور معين ومحدد ومعروف في هذه الصورة الأدبية التاريخية الفريدة. فالإمام العابد زين العابدين عليه السلام الطرف الأول الدور السامي. وهشام بن عبد الملك الطرف الثاني المقابل. وبينهما الواسطة الشاعر العربي المسلم الفرزدق. كاشف الصورة ومجليها أو مظهرها إن صح التعبير.
ولكن أين حدثتْ تلك الصورة الفريدة الرائعة؟ أين تحركت، فرسمت تاريخاً لقضية تاريخية نادرة سجلتها الأجيال جيلا بعد جيل، وصارت موضع فخر واعتزاز لكلّ المؤمنين الموالين لأهل البيت عليهم السلام وكلّ محبي الحقّ والحقيقة؟
لقد وقعت الحادثة الفريدة في أقدس بقعة على الكرة الأرضية، وقعت في مكّة التي كرمها الله، وفي البيت الحرام بالذات، وكان الشاهد أقدس شاهد، كان الشاهد هو الحجر الأسود أو الحجر الأسعد، ذلك الحجر المقدس الذي وضعَهُ النبي إبراهيم عليه السلام في الركن الشرقي من الكعبة عندما رفع قواعدها، وأعاد وضعه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين، حين أعادت قريش بناء الكعبة الشريفة. ذلك الحجر الذي يتجه نحوه كلّ المسلمين في الكرة الأرضية.
عند تلك النقطة المقدسة حدثت الحادثة، وتلونت الصورة، وخلدت في ذاكرة الزمن. ولا زالت حية إلى اليوم لقوتها وحيويتها وصدقها.
موقف تاريخي مثير
التاريخ الإسلامي المجيد حافل بالمواقف والبطولات، مواقف مختلفة ومتنوعة، مواقف طيبة، مواقف سامية مواقف فريدة، مواقف بالسيف، وأخرى بالقلم وثالثة بالسيف والقلم معاً، ورابعة، بموقف آني أملاه طرف معين وحالة خاصة.
وقد سجل لنا التاريخ عدداً كبيراً من المواقف والبطولات المختلفة. نُسي بعضها. وبقي البعض الآخر في ذاكرة الكتب والرسائل. بقي على الزمن رغم كلّ ملابسات التاريخ ومنعطفاته وحالاته المتذبذبة. بقي لقوة في الموقف نفسه.
ومن تلك المواقف الطيبة والخالدة. ذلك الموقف الثلاثي المذكور آنفاً. الموقف الذي دار بين الإمام زين العابدين عليه السلام والشاعر العربي المسلم الفرزدق، والخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. في حضرة قصيدة عربية إيمانية رائعة. خلّدت الموقف. خُلدت لأنها ذكرت حقيقة جريئة لا يقولها إلاّ جريء، يتوقع كلّ شيء من الحاكم. الحبس والقتل والتعذيب، وما إلى ذلك.
لقد خُلدت تلك القصيدة الرائعة، التي حملت ذلك الموقف الجريء وانتشرت وامتدت مدة طولها ثلاثة عشر قرناً من الزمان ووصلت إلينا، لنعرف من خلالها أن الحق والمعقولية والقوة الذاتية الحقيقية تعيش في كلّ زمان ومكان، تعيش حتى في ظل السلطان الجائر، بل وتتحدى كلّ السلاطين القساة العتاة في التاريخ الطويل. ولنقرأ ذلك الموقف العظيم. تلك القصيدة الرائعة.
لما حجّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه عبد الملك. طاف بالبيت الحرام. وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه، فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام، فَنُصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان الشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل الإمام الكريم زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فطاف بالبيت. فلما انتهى إلى الحجر الأسود تنحّى له الناس حتى استلم الحجر. فقال رجل من أهل الشام لهشام بن عبد الملك: مَن هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الشاعر العربي المسلم المعروف الفرزدق حاضراً في ذلك الموقف، فقال بقوة واعتداد أنا أعرفه، ثم اندفع بقصيدته المشهورة:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته… التي سنأتي على ذكرها.
الشاعر والقصيدة
وأبو فراس همام بن غالب بن صعصعة من دارم ثم من تميم، لقب بالفرزدق لغلظ وجهه وشبهه بالرغيف.
ولد في الكاظمة وهي اليوم تقع شرق مدينة الكويت. ولد نحو سنة 20 هجرية في خلافة عمر بن الخطاب، ونشأ هناك نشأة بدوية.
نشأ الفرزدق على حبّ آل البيت عليهم السلام وعلى الاعتقاد بحقهم في الخلافة، ولكنه كان أحياناً يتظاهر بغير ما يتعقد، يقول المقرم في تشيعه "وهو الشيعي الصميم المتفاني في ولاء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم". وبعد استشهاد الإمام الحسين بن علي عليه السلام ومقتل عبد الله بن الزبير سنة 73 هجرية -كان العلويون قد خسروا جاههم السياسي وخسروا معه أموالهم التي كانوا يجيزون فيها الشعراء- انضم الفرزدق إلى الأمويين تكسباً لا اعتقاداً. توفي الفرزدق سنة 110 هجرية حسب ما ذكر أحمد حسن الزيات.
والفرزدق، بعد ذلك، شاعر مشهور، مقتدر، ألفاظه جزلة كثيرة الغريب، له ديوان مطبوع في جزأين. نشر أكثر من مرّة.
"عدّه ابن سلام في الطبقة الأولى من الإسلاميين. وقدمه في الذكر على جرير والأخطل. وقال: "كان يونس يُقدّم الفرزدق بغير إفراء وكان المفضّل يقدّمه تقدمة شديدة" وقال جرير: "الفرزدق نَبعة الشعر" وقال أبو عبيدة: "كان الفرزدق يشبّه من شعراء الجاهلية بزهير"، وقال أيض: "لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب"، وقال أبو الفرج الأصفهاني: "والفرزدق مقدّم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل، ومحله في الشعر أكبر من أن ينبّه عليه بقول، أو يدلّ على مكانه بوصف. أما من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق، وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريراً". وقال الفرزدق نفسه: "قد علم الناس أني أفحل الشعراء، وربما أتت عليّ الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون عليَّ من قول بيت". وقال مالك بن الأخطل: "جرير يغرف من بحر والفرزدق ينحت في صخر... "
وبعد أن عرفنا شيئاً من حياة الشاعر الفرزدق ومنزلته الأدبية والشعرية، لنقرأ قصيدته الشهيرة، لنرى كم هي جريئة ومثيرة في حضرة السلطان هشام بن عبد الملك. وكم تتضمن من المعاني القيمة في حقّ الإمام زين العابدين عليه السلام.
يقول شاعرنا الفرزدق في ديوانه:
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأته والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحرم
هذا ابن فاطمة إنْ كنتَ جاهله بجدّه أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك مَن هذا بضائره العُرْبُ تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عَمّ نفعهما يُسْتَوْكفان لا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره يزينه اثنان: حسن الخلق والشِيمُ
حمّال أثقال أقوام، إذا افتُدحوا حلو الشمائل تحلو عندِه نَعَمُ
ما قال لا قط إلاّ في تشهده لولا التشهدُ كانت لاؤه نَعَمُ
عمّ البرية بالإحسان، فانقشعت عنها الغياهب والاملاق والعدم
إذا رأتهُ قريش قال قائلها: إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يغضي حياءً ويُعضى من مهابته فما يكلم إلاّ حين يبْتسمُ
بكفه خيزران ريحه عبق من كف أروف في عرنينه شَهَمُ
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
الله شرفه قدماً وعظّمه جرى بذلك له في لوحة القلم
أيّ الخلائق ليست في رقابهم لأولية هذا أو له نِعَمُ
من يشكر الله يشكر أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الأُممُ
ينمي إلى ذروة الدين التي قصرت عنها الاكف وعن ادراكها القدم
مَنْ جده دانَ فضل الأنبياء له وفضل أمته دانت لها الأُمَمُ
مشتقة من رسول الله نبعته طابت مغارسه والخيم والشيم
ينشق ثوب الدجى عن نور عزته كالشمس تنجاب عن اشراقها الظُلم
من معشر حبّهم دين وبغضُهُمُ كفرٌ وقربُهُمُ منجىً ومعتصمُ
مقدم بعد ذكر الله ذِكرُهُمُ في كل بدء ومختوم به الكَلِمُ
إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل:من خير أهل الأرض قيل هُمُ
لا يستطيع جواد بعد جودهم ولا يدانيهم قوم، وإن كرموا
هم الغيوث، إذا ما أزمة ازمت والأسدُ أسد الشرى والباس مختدم
لا ينقص العسر بسطاً من اكفهم، سيان ذلك: إنْ أثروْا وان عدِموا
يستدفع الشر والبلوى بحبهم ويُستربّ به الإحسان والنعمُ
لقد قالها الفرزدق صراحة في حقّ الإمام عليه السلام، أعلنها علناً على الملأ دون خوف ولا وجل.
يقول السيد عبد الرزاق المقرم: "فقد حداه إيمانه الخاص المتغلغل في صدره، وولاؤه المتوغل في لبة قلبه إلى أداء أجر الرسالة المأخوذ على الأسود والأبيض والحر والعبد، فأقام أكبر برهان على تشيعه الذي لا يختلف فيه اثنان، وشكل أجلى قياس انتج اقتصاص أثر عترة الوحي، فباح بما أوحته إليه سريرته المحمودة وخصاله المستحسنة وطينته الطاهرة ونفسه الزاكية غير مبال بغضب المرواني ومما يلمّ به بعد ذلك من سجن وقطع صلة وغيرها، فاستسهل كلّ صعب دون الإشادة بذكر الحق والهتاف به خشية أن تتحكم الأغراض المستهدفة في النفوس الضعيفة فيروج الضلال".
لقد وقعت هذه القصيدة كالصاعقة على رأس الخليفة السلطان!!! هشام بن عبد الملك، ابن السلطان، ابن الملك، وابن تلك الهيبة التي ظن أن الدنيا كلّها تحت يديه، تحت طوع بنانه.
لقد غضب هشام غضباً شديداً. ومنع جائزته إلى الفرزدق، وقال: ألاّ قلت فينا مثلها؟ وكان الرد ذكياً خارجاً من قلب الحقيقة، وقال لهشام متحدياً: هات جدّاً كجد الإمام زين العابدين وهات أباً كأبيه وأماً كأمه حتى أقول فيكم مثلها. فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة. فبلغ ذلك الإمام علي بن الحسين عليه السلام فبعث إليه باثني عشر ألف درهم، وقال: اعذرنا يا أبا فراس. فلو كان عندنا أكثر لوصلناك به، فردّها وقال: يا بن رسول الله ما قلت الذي قلته إلاّ غضباً لله ولرسوله، وما كنت لأرزق عليه شيئاً، فردها إليه وقال: بحقي عليك لمّا قبلتها فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك قبلها، فجعل الفرزدق يهجو هشاماً وهو في الحبس. فكان مما هجاه به قوله:
أيحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس يهوى مُنيبها
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد وعيناً له حولاء باد عيوبها
وهذه القصيدة الفرزدقية رائعة وجميلة لفظاً ومضموناً، تقرؤها مرة فترغب في قرائتها مرات ومرات ولا تملّ، ترى الشاعر المسلم فيها صادقاً، مستخدماً عقله وعاطفته معاً، منبثقة من عقله وقلبه، مندفعاً اندفاعاً حقيقياً باتجاه من يحب، وهو الإمام زين العابدين والساجدين، وأهل بيته وآبائه الكرام البررة. فلا تكلّف في القصيدة ولا استجداء، ولا طلب لمنصب ولا لجاه، ولا ولا.... إنه الحبّ لإنسان أهل للحب والتقدير والثناء. يقول بطرس البستاني: "وأنّى يكون التكلّف في قصيدة جاشَ بها صدر الشاعر، فقذفها بيتاً إثر بيت، والتأثر النفسي يملك عليه"، ثم يقول البستاني أيض: "فهو لا يسأل زين العابدين ولا يستجديه، ولكنه يبثُ عاطفة متقدة بحب آل البيت، عاطفة نفس تؤمن بكرامتهم وترجو بهم الثواب في الآخرة".
ولم يكن الشعر بهذه المتانة والجمال لو لم يكن الممدوح ذلك الإمام التقي الورع زين العابدين عليه السلام. ولم يكن الشعر بهذه القوة لو لم يكن الممدوح أهلا للمدح والثناء.
ونحن لا نشك -لحظة واحدة- في أن الفرزدق الشاعر المسلم المؤمن كان قد تأثر بشخصية الإمام سيد العابدين علي بن الحسين عليه السلام، ولم لا يتأثر بتلك الشخصية وهو الإمام ابن الإمام الشهيد الحسين بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وجدَّته الزهراء سيدة نساء العالمين، وجدّه النبي الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم لمَ لم يتأثر به وهو أي الإمام ابن هذه السلالة الطاهرة المتصلة بالوحي وبالله وبالسماء؟
وهو من هو، وألقابه -وحدها- كافية للدلالة عليه وعلى عبادته الربانية وسلوكه الإلهي. فقد لقبَ بزين العابدين وسيد الساجدين، وسيد العابدين، والزكي، والأمين. وذي الثفنات وغيرها. أيّ ألقاب هذه التي اتصف بها الإمام الكريم؟! ومَنْ هو أفضل ممن همّه الأول والأخير، الاتصال بالله والوقوف بخضوع بين يديه وتحت رحمته وعدله؟!
لقد كان إماماً صامداً صابراً شهد مأساة كربلاء وواكب مسيرة العائلة الكريمة بعد الفاجعة المؤلمة إلى الكوفة، ومنها إلى الشام، شاهد كلّ ذلك بكلّ تفاصيله وكلّ مفرداته. وكان فوق كلّ ذلك، وكان المثل الأعلى في القيادة بعد استشهاد والده الإمام الحسين عليه السلام، وكان خير من وظّف الفاجعة لمصلحة الإسلام والمسلمين وتاريخ الإسلام.
لقد كان عالماً زاهداً خلّف آثاراً وإرشادات رائعة وأدعية سامية معروفة جمعت في كتاب بأسم الصحيفة السجادية، وكان وكان، ويطول الحديث عن هذا الإمام الصابر.
إنه الموقع الطبيعي للمدح والثناء، والمناسبة الرائعة لقول الحقّ، خاصة في حضور سلطان زمني يملك القتل والتعذيب وأنواع الشرور.
وإنه المكان المناسب والمؤثر، في حضرة البيت الحرام، وقرب الحجر الأسود، ذلك الحجر المقدس، وذلك الجو الإلهي.
لقد قال الفرزدق قوله قصيدته متحدياً القوة الزمنية، متوقعاً النتائج المترتبة عليها، مهما كانت، وكان الحبس كما ذكرنا.
وبذلك سجل بموقفه هذا، بتحديه الخليفة صاحب السلطة الزمنية المؤقتة، وباهتمامه وثنائه على الإمام الخالي من السلطة الزمنية، سجل نقطة مضيئة في سجل التاريخ الإسلامي.
* راجع: مجلة ميقات الحج، العدد الخامس، عبد المطلب محمد، ص 94-103.
2012-10-10