عبادة الإمام علي بن الحسين عليهما السلام
ولادة الإمام السجاد (ع)
الوضوء هو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الأولى للصلاة، وكان الإمام عليه السلام دوماً على طهارة، وقد تحدّث الرواة عن خشوعه لله في وضوئه، فقالو: " إنّه إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيبهم قائلاً...
عدد الزوار: 153
ـ وضوؤه:
الوضوء هو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الأولى للصلاة، وكان الإمام عليه السلام دوماً على طهارة، وقد تحدّث الرواة عن خشوعه لله في وضوئه، فقالو: " إنّه إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيبهم قائلاً: "أتدرون بين يدي مَن أقوم؟! ".
ـ صلاته:
أمّا الصلاة فمعراج المؤمن وقربان كلّ تقيّ كما في الحديث الشريف، وكانت الصلاة من أهم الرغبات النفسية للإمام عليه السلام، فقد اتّخذها معراجاً ترفعه إلى الله تعالى، وكانت تأخذه رعدة إذا أراد الشروع في الصلاة، فقيل له في ذلك فقال: "أتدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟!". ونعرض لبعض شؤونه في حال صلاته:
أ ـ تطيّبه للصلاة:
وكان الإمام إذا أراد الصلاة تطيّب من قارورة كان قد جعلها في مسجد صلاته.
ب ـ لباسه في صلاته:
وكان الإمام عليه السلام إذا أراد الصلاة لبس الصوف وأغلظ الثياب، مبالغةً منه في إذلال نفسه أمام الخالق العظيم.
ج ـ خشوعه في صلاته:
كانت صلاته تمثّل الانقطاع التامّ إلى الله جلّ جلاله والتجرّد من عالم المادّيات، فكان لا يحسّ بشيء من حوله، بل لا يحسّ بنفسه فيما تعلّق قلبه بالله تعالى، ووصفه الرواة في حال صلاته، فقالو: " كان إذا قام إلى الصلاة غشي لونه بلون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان يصلّي صلاة مودِّع يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبداً ".
وتحدّث الإمام الباقر عليه السلام عن خشوع أبيه في صلاته فقال: " كان عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة كأنـّه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلاّ ما حركت الريح منه ".
ونقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادق عليه السلام صلاة جدّه الإمام السجاد عليه السلام فقال له: " إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة غشي لونه بلون آخر، فقال له الإمام الصادق عليه السلام: والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه...".
وكان من مظاهر خشوعه في صلاته أنّه إذا سجد لا يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً أو كأنّه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه، ونقل عن أبي حمزة الثمالي أنّه رأى الإمام قد صلّى فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه فسأله أبو حمزة عن ذلك فقال له: "ويحك، أتدري بين يدي مَنْ كنتُ؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه".
د ـ صلاة ألف ركعة:
وأجمع المترجمون للإمام عليه السلام أنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وأنّه كانت له خمس مئة نخلة، فكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين، ونظراً لكثرة صلاته، فقد كانت له ثفنات في مواضع سجوده، وكان يسقط منها في كلّ سنة، فكان يجمعها في كيس، ولمّا توفّي عليه السلام دفنت معه.
هـ ـ كثرة سجوده:
إنّ أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو في حال سجوده كما في الحديث الشريف، وكان الإمام عليه السلام كثير السجود لله تعالى خضوعاً وتذلّلاً له، وروي: أنّه خرج مرّةً إلى الصحراء فتبعه مولىً له فوجده ساجداً على حجارة خشنة، فأحصى عليه ألف مرّة يقول: " لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً ".
وكان يسجد سجدة الشكر، ويقول فيها مئة مرّة: " الحمد لله شكراً "، ثمّ يقول: " يا ذا المنّ الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا الجود الذي لا ينفد أبداً، يا كريم، يا كريم "، ويتضرّع بعد ذلك ويذكر حاجته.
و ـ كثرة تسبيحه:
وكان دوماً مشغولاً بذكر الله تعالى وتسبيحه وحمده، وكان يسبّح الله بهذه الكلمات: "سبحان من أشرق نوره كلّ ظلمة، سبحان من قدّر بقوته كلّ قدرة، سبحان من احتجب عن العباد بطرائق نفوسهم فلا شيء يحجبه، سبحان الله وبحمده".
ز ـ ملازمته لصلاة الليل:
من النوافل التي كان لا يَدَعُها الإمام عليه السلام صلاة الليل، فكان مواظباً عليها في السفر والحضر إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
ح ـ دعاؤه بعد صلاة الليل:
وكان عليه السلام إذا فرغ من صلاة الليل دعا بهذا الدعاء الشريف، وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وإليك بعض مقاطعه:
" اللهمّ يا ذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعزّ الباقي على مرّ الدهور وخوالي الأعوام ومواضي الأزمان والأيام، عزّ سلطانك عزاً لا حدّ له بأوّلية ولا منتهى له بآخرية، واستعلى ملكك علوّاً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده ولا يبلغ أدنى ما استأثرت من ذلك أقصى نَعت الناعتين، ضلّت فيك الصفات وتفسّخت دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت الله الأوّل في أوّليّتك، وعلى ذلك أنت دائمٌ لا تزول، وأنا العبد الضعيف عملاً الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الوصلات إلاّ ما وصله رحمتك، وتقطّعت عنّي عصم الآمال إلاّ ما أنا معتصم به من عفوك، قلّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر عليّ ما أبوء به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفوٌ عن عبدك، وإن أساء فاعف عنّي...".
"اللهمّ إنّي أعوذ بك من نار تغلّظت بها على مَن عصاك، وتوعّدت بها على من صدف عن رضاك، ومن نار نورها ظلمة، وهيّنها أليم، وبعيدها قريب، ومن نار يأكل بعضها بعضٌ، ويصول بعضُها على بعض، ومن نار تذر العظام رميماً، وتسقي أهلها حميماً، ومن نار لا تبقي على مَن تضرّع إليها، ولا ترحم من استعطفها، ولا تقدر على التخفيف عمّن خشع لها واستسلم إليها، تلق سكانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال وشديد الوبال...".
وذبل الإمام عليه السلام من كثرة العبادة وأجهدته أيّ إجهاد، وقد بلغ به الضعف أنّ الريح كانت تميله يميناً وشمالاً بمنزلة السنبلة التي تميلها الريح.
وقال ابنه عبد الله: كان أبي يصلّي بالليل فإذا فرغ يزحف إلى فراشه.
وأشفق عليه أهله ومحبّوه من كثرة ما بان عليه من الضعف والجهد من كثرة عبادته، فكلّموه في ذلك، لكنّه عليه السلام أصرّ على شدّة تعبّده حتى يلحق بآبائه، قال له أحد أبنائه: يا أبت كم هذا الدؤوب، يعني الصلاة، ؟ فأجابه الإمام عليه السلام: "أتَحَبّبُ إلى ربّي".
ـ صومـه:
وقضى الإمام معظم أيام حياته صائماً، وقد قالت جاريته حينما سئلت عن عبادته: "ما قدّمتُ له طعاماً في نهار قطّ" وقد أحبَّ الصومَ، وحثَّ عليه إذ قال عليه السلام: "إنّ الله تعالى وكّل ملائكة بالصائمين"، وكان عليه السلام لا يفطر إلاّ في يوم العيدين وغيرهما ممّا كان له عذر.
وكان له شأن خاص في شهر رمضان، أنّه لم يترك نوعاً من أنواع البِرّ والخير إلاّ أتى به، وكان لا يتكلم إلاّ بالتسبيح والاستغفار والتكبير، وإذا أفطر قال: "اللّهم إن شئت أن تفعل فعلت".
وكان عليه السلام يستقبل شهر رمضان بشوق ورغبة لأنه ربيع الأبرار، وكان يدعو لدى دخول شهر الله تعالى بدعاء نقتطف منه بعض الفقرات، قال عليه السلام:
"الحمد لله الذي هدانا لحمده وجعلنا من أهله، لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين.
والحمد لله الذي حبانا بدينه، واختصّنا بملّته، وسَبَّلَنا في سُبُلِ إحسانه، لنسلكها بمنّه إلى رضوانه... والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر القيام...
اللّهم صلّ على محمد وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفّظ ممّا حظرت فيه، وأعِنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نُصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلاّ ما أحلَلْت، ولا تنطق ألسنتنا إلاّ بما مثّلت، ولا نتكلّف إلاّ ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلاّ الذي يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كلّه من رئاء المرائين وسُمعة المسمعين، لا نُشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغي فيه مراداً سواك...
اللهمّ اشحنه بعبادتنا إيّاك، وزيّن أوقاتنا بطاعتنا لك، وأعنّا في نهاره على صيامه، وفي ليله على الصلاة والتضرع اليك والخشوع لك والذلّة بين يديك حتى لا يشهد نهاره علينا بغفلة ولا ليله بتفريط.
اللهمّ واجعلنا في سائر الشهور والأيام كذلك ما عمّرتنا...".
وكان الإمام زين العابدين عليه السلام في كلّ يوم من أيام شهر رمضان يأمر بذبح شاة وطبخها... فإذا نضجت يقول: "هاتوا القصاع"، ويأمر بأن يُفرَّق على الفقراء والأرامل والأيتام حتى يأتي على آخر القدور ولا يبقي شيئاً لإفطاره، وكان يفطر على خبز وتمر.
ومن مَبَرّات الإمام عليه السلام في شهر رمضان المبارك كثرة عتقه وتحرير أرقّائه من رقّ العبودية، على أنهم كانوا يعيشون في ظلاله محترمين، فكان يعاملهم كأبنائه، وكان عليه السلام لا يعاقب أمةً ولا عبداً إذا اقترفا ذنباً، وإنّما كان يسجّل اليوم الذي أذنبوا فيه، فإذا كان آخر شهر رمضان جمعهم وأظهر الكتاب الذي سجّل فيه ذنوبهم، ويقول:
" إرفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليّ بن الحسين! إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّ ما عملتَ، كما أحصيت علينا ما عملناه، ولديه كتاب ينطق بالحقّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلاّ أحصاها، وتجد كلّ ما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً، فاعف واصفح، كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عَفُوّاً، وبك رحيماً ولك غفوراً، ولا يظلم ربّك أحداً... كما لديك كتاب ينطق بالحقّ علينا، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناه إلاّ أحصاها، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك الحَكَم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح، فإنّه يقول: وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
وكان يلقّنهم بتلك الكلمات التي تمثّل انقطاعه التامّ إلى الله تعالى واعتصامه به، وهو واقف يبكي من خشيته تعالى ويقول: "ربِّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سُؤّالاً ومساكين، وقد أنَخْنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك فامنن بذلك علينا، ولا تخيّبنا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كَرُمتَ فأكرِمني، إذ كنت من سُؤّالك وجُدْتَ بالمعروف فأخلطني بأهل نوالك يا كريم...".
ثم يُقبِلُ عليهم بوجهه الشريف وقد تبلّل من دموع عينيه قائلاً لهم بعطف وحنان: "قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عنّي؟ وممّا كان منّي من سوء ملكة، فإنّي مليك سوء لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل..." وينبري العبيد قائلين له: قد عفونا عنك يا سيّدنا، فيقول لهم: "قولوا: اللهمّ اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق".
فيقولون ذلك، ويقول بعدهم: "اللهمّ آمين ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي" فإذا كان يوم عيد الفطر أجازهم جائزة سنيّة تغنيهم عمّا في أيدي الناس.
ـ دعاؤه:
أ ـ دعاؤه في الأسحار:
وكان الإمام عليه السلام يناجي ربّه ويدعوه بتضرّع وإخلاص في سحر كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان بالدعاء الجليل الذي عرف بدعاء أبي حمزة الثمالي، لأنّه هو الذي رواه عنه، وهو من غرر أدعية أهل البيت عليهم السلام وهو يمثّل مدى إنابته وانقطاعه إلى الله تعالى كما أنّ فيه من المواعظ ما يوجب صرف النفس عن غرورها وشهواتها، كما يمتاز بجمال الأسلوب وروعة البيان وبلاغة العرض، وفيه من التذلّل والخشوع والخضوع أمام الله تعالى ما لا يمكن صدوره إلاّ عن إمام معصوم.
وقد احتلّ هذا الدعاء مكانة مهمّة في نفوس الأخيار والصلحاء من المسلمين، إذ واظبوا على الدعاء به، وممّا قاله الإمام عليه السلام في دعائه:
"إلهي، لا تؤدّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، من أين لي الخير يا ربّ ولا يوجد إلاّ من عندك؟ ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلاّ بك؟ لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يرضك خرج عن قدرتك...
بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولو لا أنت لم أدر ما أنت.
الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنتُ بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني...
أدعوك يا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه، ربّ أناجيك بقلب قد أوبقه جرمه، أدعوك يا ربّ راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعتُ، وإذا رأيت كرمك طمعت...
يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، فوعزّتك يا سيّدي لو نهرتني ما برحتُ من بابك ولا كففت عن تملّقك لما انتهى إليّ من المعرفة بجودك وكرمك...
اللهمّ إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيت عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ما لي كلّما قلتُ قد صلُحت سريرتي وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي وحالت بيني وبين خدمتك. سيدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني...
إلهي، لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ودللت على فضايحي عيون العباد وأمرت بي إلى النار وحلت بيني وبين الأبرار، ما قطعتُ رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي...
ارحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي، وإذا نُشرتُ للحساب بين يديك ذلّ موقفي، واغفر لي ما خفي على الآدميّين من عملي، وأدم لي ما به سترتني، وارحمني صريعاً على الفراش، تقلّبني أيدي أحبّتي، وتفَضَّل عليّ ممدوداً على المغتسل يقلّبُني صالح جيرتي، وتحنّنْ عليّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجُد عليّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي، حتى لا أستأنس بغيرك...".
وكان الإمام عليه السلام يتأثّر إذا انطوت أيام شهر رمضان، لأنّه عيد أولياء الله تعالى، وكان يودّعه بدعاء جليل نقتطف منه ما يلي:
"السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه.
السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيام والساعات.
السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال.
السلام عليك من قرين جلّ قدره موجوداً، وأفْجع فقده مفقوداً، ومرجوٍّ آلم فراقه.
السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضّ.
السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب.
السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان.
السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك، وأشدّ شوقنا غداً إليك.
اللهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر من خطايانا، وأخرجنا بخروجه من سيئاتنا، واجعلنا من أسعد أهله به، وأجزلهم قسماً فيه، وأوفرهم حظّاً منه...".
دعاؤه في يوم عرفة:
وكان الإمام عليه السلام في عرفات يقوم بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، وكان يدعو بدعاء جليل وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وفيما يلي بعض المقتطفات منه:
"الحمد لله ربّ العالمين، اللهمّ لك الحمد بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام، ربّ الأرباب، وإله كلّ مألوه، وخالق كلّ مخلوق، ووارث كلّ شيء ليس كمثله شيء، ولا يعزب عنه علم شيء، وهو بكلّ شيء محيط، وهو على كلّ شيء رقيب.
أنت الله لا اله إلاّ أنت الأحد المتوحّد الفرد، وأنت الله لا اله إلاّ أنت الكريم المتكرّم العظيم المتعظّم الكبير المتكبّر، وأنت الله لا اله إلاّ أنت العليّ المتعال الشديد المحال.
أنت الذي قصرت الأوهام عن ذاتيتك، وعجزت الأفهام عن كيفيتك، ولم تدرك الأبصار موضع أينيّتك، أنت الذي لا تُحدّ فتكون محدوداً، ولم تمثل فتكون موجوداً، ولم تلد فتكون مولوداً.
لك الحمد حمداً يدوم بدوامك، ولك الحمد حمداً خالداً بنعمتك، ولك الحمد حمداً يوازي صنعك، ولك الحمد حمداً يزيد على رضاك، ولك الحمد حمداً مع حمد كلّ حامد.
ربّ صلّ على محمد وآله صلاةً زاكيةً لا تكون صلاةٌ أزكى منها، وصلّ عليه صلاةً ناميةً لا تكون صلاةٌ أنمى منها، وصلّ عليه صلاةً راضيةً لا تكون صلاةٌ فوقها... ربِّ صلِّ على أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك، وجعلتهم خزنة علمك وحفظة دينك، وخلفاءَك في أرضك، وحججك على عبادك، وطهّرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بإرادتك، وجعلتهم الوسيلة إليك والمسلك إلى جنّتك.
اللهمّ إنّك أيّدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ومناراً في بلادك، بعد أن وَصَلْت حبله بحبلك، وجعلته الذريعة إلى رضوانك، وافترضت طاعته، وحذّرت معصيته، وأمرت بامتثال أوامره والانتهاء عند نهيه، وألاّ يتقدّمه متقدّم ولا يتأخّر عنه متأخّر، فهو عصمة اللائذين، وكهف المؤمنين، وعروة المتمسّكين، وبهاءُ العالمين.
وانزع من قلبي حبّ دنيا دنية تنهى عمّا عندك، وتصدّ عن ابتغاء الوسيلة إليك، وتذهل عن التقرّب منك، وزيّن لي التفرّد بمناجاتك بالليل والنهار، وهب لي عصمة تدنيني من خشيتك، وتقطعني عن ركوب محارمك، وتفكّني من أسر العظائم، وهب لي التطهير من دنس العصيان، وأذْهِب عنّي درن الخطايا، وسربلني بسربال عافيتك.
ولا تكلني إلى حولي وقوّتي دون حولك وقوّتك، ولا تخزني يوم تبعثني للقائك، ولا تفضحني بين يدي أوليائك، ولا تنسني ذكرك، ولا تُذهب عنّي شكرك... واجعل رغبتي إليك فوق رغبة الراغبين، وحمدي إيّاك فوق حمد الحامدين، ولا تخذلني عند فاقتي إليك.
اجعل هيبتي في وعيدك، وحذري من إعذارك وإنذارك، ورهبتي عند تلاوة آياتك، واعمر ليلي بإيقاظي فيه لعبادتك، وتفرّدي بالتهجّد لك، وتجرّدي بسكوني إليك وإنزال حوائجي بك ومنازلتي إيّاك في فكاك رقبتي من نارك، وإجارتي ممّا فيه أهلها من عذابك، ولا تذرني في طغياني عامهاً ولا في غمرتي ساهياً حتى حين، ولا تجعلني عظةً لمن اتّعظ، ولا نكالاً لمن اعتبر، ولا فتنةً لمن نظر، ولا تمكر بي فيمن تمكر به، ولا تستبدل بي غيري... واجعل قلبي واثقاً بما عندك، وهمّي مستغرقاً لما هو لك، واستعملني بما تستعمل به خالصتك، وأشرب قلبي عند ذهول العقول طاعتك... وصن وجهي عن الطلب إلى أحد من العالمين، وذبّني عن التماس ما عند الفاسقين ولا تجعلني للظالمين ظهيراً ولا لهم على محو كتابك يداً ونصيراً...".
دعاؤه يوم عيد الأضحى:
كان الإمام زين العابدين عليه السلام يستقبل يوم عيد الأضحى بالابتهال إلى الله والتضرّع إليه، طالباً منه أن يتفضّل عليه بقبول مناسكه وسائر طاعاته وعباداته، وأن يمنحه المغفرة والرضوان، ومن دعائه في هذا اليوم المبارك:
"اللهمّ هذا يوم مبارك ميمون والمسلمون فيه مجتمعون.
اللهمّ إليك تعمّدت بحاجتي، وبك أنزلتُ اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإنّي بمغفرتك ورحمتك أوثق منّي بعملي، ولمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ على محمد وآل محمد، وتولّ قضاء كلّ حاجة هي لي بقدرتك عليها، وبتيسير ذلك عليك، وبفقري إليك، وغناك عنّي، فإنّي لم أصِبْ خيراً قطُّ إلاّ منك، ولم يصرف عنّي سوءاً قط أحد غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك.
اللهمّ فصلّ على محمد وآل محمد، ولا تخيّب اليوم ذلك من رجائي، يا من لا يُحفيه سائل ولا ينقصه نائل، فإنّي لم آتك ثقةً منّي بعمل صالح قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته إلاّ شفاعة محمد وأهل بيته صلواتك عليه وعليهم وسلامك، أتيتك مقرّاً بالجرم والإساءة إلى نفسي، أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به عن الخاطئين ثمّ لم يمنعك طول عكوفهم على عظيم الجرم أن عدت عليهم بالرحمة والمغفرة.
اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها وأنت المقدّر لذلك، لا يغالب أمرك، ولا يُجاوز المحتوم من تدبيرك، كيف شئت وأنّى شئت...".
ـ حجّه عليه السلام:
وكان يحثّ على الحج والعمرة بقوله: حجّوا واعتمروا تصح أجسادكم، وتتّسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالكم".
وقال عليه السلام: "الحاج مغفور له، وموجوب له الجنّة، ومستأنف به العمل، ومحفوظ في أهله وماله".
وقال عليه السلام: "الساعي بين الصفا والمروة تشفع له الملائكة".
وكان عليه السلام يدعو إلى تكريم الحجّاج إذا قدموا من بيت الله الحرام ويقول: "استبشروا بالحجّاج إذا قدموا وصافِحوهم، وعظّموهم تشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوب".
وحجّ عليه السلام غير مرّة ماشياً كما حج أبوه وعمّه الحسن عليهم السلام، وحج على ناقته عشرين حجّة وكان يرفق بها كثيراً.
وقال إبراهيم بن عليّ: حججتُ مع عليّ بن الحسين فتلكّأتْ ناقته فأشار إليها بالقضيب، ثم ردّ يده، وقال: "آه من القصاص...".
وكان الإمام عليه السلام إذا أراد السفر إلى بيت الله الحرام احتفّ به القرّاء والعلماء، لأنّهم كانوا يتزوّدون منه العلوم والمعارف والحكم والآداب، وقال سعيد بن المسيب: " إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتى يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب ".
وإذا انتهى الإمام إلى إحدى المواقيت التي يحرم منه، يأخذ بعمل سنن الإحرام، وإذا أراد التلبية عند عقد الإحرام اصفرّ لونه واضطرب ولم يستطع أن يلبّي، فإذا قيل له: ما لك لا تلبّي؟ قال: "أخشى أن أقول: لبيك، فيقال لي: لا لبيك".
وإذا لبّى غُشي عليه من كثرة خوفه من الله تعالى، ويسقط من راحلته، ولا يزال يعتريه هذا الحال حتى يقضي حجّه.
وكان الإمام عليه السلام إذا أدّى مناسكه في البيت الحرام، أقبل على الصلاة تحت ميزاب الرحمة. ورآه طاووس اليماني في ذلك المكان قائماً وهو يدعو الله ويبكي من خشية الله، فلمّا فرغ من صلاته قال له طاووس: رأيتك على حالة من الخشوع ولك ثلاثة أمور، أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: أنّك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، الثاني: شفاعة جدّك، الثالث: رحمة الله.
فأجابه الإمام عليه السلام قائلاً: "يا طاووس، أمّا أنّي ابن رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يؤمنني وقد سمعت الله تعالى يقول: ﴿فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾، وأمّا شفاعة جدّي فلا تؤمنني، لأنّ الله تعالى يقول:{ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى}، وأمّا رحمة الله، فالله يقول: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ ولا أعلم أنّي محسن".
وقال طاووس: " رأيت عليّ بن الحسين يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فإذا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال: إلهي، غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد صلى الله عليه وآله في عرصات القيامة" ثم بكى وقال: " أما وعزّتك وجلالك ما أردتُ بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عنّي...". ثم خرّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته في حجري، فوقعتْ قطرات من دموعي على خدّه الشريف فاستوى جالساً، وقال بصوت خافت: " من هذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟ ".
فأجابه طاووس بخضوع وإجلال: أنا طاووس يا ابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون؟ أبوك الحسين بن عليّ وأمّك فاطمة الزهراء وجدّك رسول الله.
فأجابه الإمام عليه السلام: "هيهات هيهات يا طاووس، دع عنك حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون؟ والله لا ينفعك غداً إلاّ ما تقدّمه من عمل صالح".
* سلسلة أعلام الهداية-الإمام السجاد عليه السلام-، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، ط1، 1422هـ، ج6، ص123-153.
2010-07-15