يتم التحميل...

جمع القرآن

مفاهيم قرآنية

لا ريب في أن القرآن الكريم متواتر حفظاً وتدويناً منذ زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وإلى يومنا هذا باعتراف الجميع. وما ذلك إلا لإهتمام المسلمين بأمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وتوجيهه بحفظ القرآن ومدارسته وتدوينه كما لم يهتموا بأمر آخر وكانت الآيات والسور دائرة على ألسن المسلمين يتداولونها بينهم،

عدد الزوار: 31

لا ريب في أن القرآن الكريم متواتر حفظاً وتدويناً منذ زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وإلى يومنا هذا باعتراف الجميع. وما ذلك إلا لإهتمام المسلمين بأمر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وتوجيهه بحفظ القرآن ومدارسته وتدوينه كما لم يهتموا بأمر آخر وكانت الآيات والسور دائرة على ألسن المسلمين يتداولونها بينهم، وقد كان واضحاً وجلياً إهتمام النبي صلى الله عليه وعلى آله بالقرآن وتعليمه للناس وحثه لهم على قراءته وحفظه وختمه، واستمر هذا الاهتمام بعد وفاته جيلاً بعد جيل حتى انتشر قراء القرآن وصاروا يُعدُّون بالآلاف.

فقد لازم النبي صلى الله عليه وعلى آله جماعة من أصحابه عرفوا بكتاب الوحي، كانوا يكتبون ما ينزل عليه من وحي، وتشير بعض مصادر التأريخ إلى أن القرآن كان مدوّناً على "الأكتاف والأقتاب والرقاع والعسب واللخاف والكرانيف والأسيار وغير ذلك"1، في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله. مضافاً إلى روايات جمع القرآن على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله حيث صرحت بذكر أسماء من جمعوه آنذاك. فكان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله يدرّس ويحفظ جميعه حتى أنه صلى الله عليه وعلى آله عيّن جماعة من المسلمين لهذه الغاية، فعن عبادة بن الصامت: "كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلى الله عليه وعلى آله إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا" وكان القرآن يعرض على النبي صلى الله عليه وعلى آله ويتلى عليه.

كل هذا وغيره يدل بصراحة على تواتر القرآن حفظاً وتدويناً منذ زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله بلا خلاف في ذلك بين المسلمين. ولكن رغم اتفاقهم هذا فقد وقع الاختلاف بينهم في أن القرآن هل كان مجموعاً على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله بين دفتي كتاب مرتباً غير مبثوث، أم لا؟

المشهور عند أهل السنّة أن القرآن لم يجمع في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وإنما جمعه أبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله. وفي المقابل ذهب جمع من علماء الشيعة إلى أنه جمع في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله.

وذهب بعضهم إلى أنه جمع بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله مباشرة بوصية منه إلى علي عليه السلام الذي قام بجمعه بنفسه. وزبدة القول في هذا المجال أنه وبمراجعة الروايات التي تتحدث عن جمع القرآن، وبمراجعة أحداث التاريخ ومجرياته يمكن الحديث عن مفاصل رئيسة في تاريخ جمع القرآن الكريم وهي:

جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله

قال السيد المرتضى رحمهم الله: "كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدّرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عيّن جماعة من الصحابة في حفظهم له وأنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه وعلى آله ويُتلى عليه. وأن جماعة من الصحابة ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وعلى آله عدة ختمات وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث"2.

وقد أحصى بعض المحققين أربعة وعشرين شخصاً ممن جمعوا القرآن آنذاك، وبعض هؤلاء كان قد عرضه على النبي صلى الله عليه وعلى آله.

وقد استْدلّ بهذه النصوص وغيرها على أن القرآن كان مجموعاً على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله بين دفتي كتاب.

ويصرح الشهيد الصدر رضوان الله عليه بأن القرآن كان مجموعاً مدوناً في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله ويقول: "وهذه العناصر الخمسة: أهمية القرآن الكريم، والخطر في تعرضه للتحريف بدون التدوين، وإدراك النبي صلى الله عليه وعلى آله لهذا الخطر، ووجود إمكانات التدوين، وحرص النبي صلى الله عليه وعلى آله على القرآن والإخلاص له هي التي تكوّن اليقين بأن القرآن الكريم قد تم جمعه وتدوينه في زمن الرسول صلى الله عليه وعلى آله.

مصحف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

لقد تصدى علي عليه السلام لجمع القرآن مع تفاسيره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وبوصية منه3، حيث التزم بيته مشتغلاً بجمع القرآن وترتيبه بحسب النزول، مع شروح وتفاسير، وبيان أسباب النزول ومواقعه، والناسخ والمنسوخ.. حتى أكمله في ستة أشهر.

كيف لا؟ وهو الأذن الواعية كما في الرواية عن الأصبغ بن نباتة قال: قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة، صلى بهم أربعين صباحاً يقرأ بهم: "سبح اسم ربك الأعلى"، فقال المنافقون: لا واللَّه ما يحسن ابن أبي طالب أن يقرأ القرآن، ولو أحسن أن يقرأ القرآن لقرأ بنا غير هذه السورة؟ قال: فبلغ ذلك علياً عليه السلام فقال:

"ويلهم، واللَّه أنا الذي أنزل اللَّه فيّ: "وتعيها أذن واعية"4. فإنما كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟"5.

فعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال:

"إن رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله قال لعلي يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة فانطلق علي عليه السلام فجمعه في ثوب أصفر وختم عليه في بيته وقال لا أرتدي حتى أجمعه. فانقطع عنهم مدة إلى أن جمعه، ثم خرج إليهم به في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد.. فلما توسطهم وضع الكتاب بينهم، ثم قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله قال: إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، وهذا الكتاب وأنا العترة.. فقام إليه الثاني وقال له: إن يكن عندك قران فعندنا مثله، فلا حاجة لنا فيكما. فحمل عليه السلام الكتاب وعاد بعد أن ألزمهم الحجة"6.

وفي ما عندنا من روايات نجد أن مصحف أمير المؤمنين كان مرتباً على حسب النزول فقدم المكي على المدني، واشتمل على بيان أسباب نزول ايات القرآن والمكان والزمان اللذين نزلت فيهما وأسماء الذين نزلت فيهم، كما اشتمل على التفسير والتأويل والناسخ والمنسوخ وغير ذلك..

ونُقل عن ابن سيرين أنه قال: بلغني أنه كتبه على تنزيله ولو أجيب إلى ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير.

قال عليه السلام:

"ما نزلت آية على رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله إلا أقرأنيها وأملاها عليّ فأكتبها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها. ودعا اللَّه لي أن يعلمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب اللَّه، ولا علماً أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي ما دعا"7.

واختلاف مصحف علي عليه السلام مع المصحف الموجود بين أيدينا إنما هو من حيث الترتيب، ومن حيث وجود إضافات أخرى فيه، هي تأويلات للنص القرآني، بمعنى ما يؤول إليه الشي‏ء أو أنها تنزيل من الوحي الإلهي نزلت على صدر رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله في تفسير وشرح القرآن وعلّمها أخاه علي بن أبي طالب عليه السلام.

يقول الشهيد الصدر ره: وليست كلمتا التأويل والتنزيل تعنيان في ذلك الوقت ما يراد منهما في اصطلاح علماء القرآن، حيث يقصد من التأويل حمل اللفظ القرآني على غير ظاهره والتنزيل خصوص النص القرآني، وإنما يراد منهما المعنى اللغوي الذي هو في الكلمة الأولى ما يؤول إليه الشي‏ء ومصداقه الخارجي، وفي الثانية ما أنزله اللَّه وحياً على نبيه سواء كان قراناً أو شيئاً آخر.

جمع الصحابة

قام جمع من الصحابة بجمع القرآن الكريم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله بين دفتي كتاب، منهم سالم مولى حذيفة، وابن مسعود وأبيّ بن كعب، وأبو موسى الأشعري، والمقداد بن الأسود، ومعاذ بن جبل.

وقد انتشرت بعض هذه المصاحف في البلاد، فكان أهل الكوفة يقرؤون

على مصحف عبد اللَّه بن مسعود، وأهل البصرة يقرؤون على مصحف أبي موسى الأشعري، وأهل الشام على مصحف أبيّ بن كعب، وأهل دمشق خاصة على مصحف المقداد بن الأسود، وفي رواية الكامل أن أهل حمص كانوا على قراءة المقداد8.

وتميزت هذه المصاحف بتقديم السور الطوال على القصار..

جمع عثمان بن عفان:

وفي عهد عثمان تفرّق الصحابة والقراء في الأمصار فكان ابن مسعود في الكوفة وأبو موسى الأشعري في البصرة، والمقداد بن الأسود في دمشق وأخذ عنهم أهل تلك البلاد وجوه القراءة والترتيل مما أدى إلى تعدد القراءات واختلاف المسلمين في قراءة القرآن اختلافاً كثيراً. فقام عثمان بتأليف لجنة مؤلفة من أربعة أشخاص، كانت مهمتها كتابة قران ليكون إماماً للناس، ثم توسعت هذه اللجنة إلى اثني عشر شخصاً يرأسهم أبيّ بن كعب، فجمعوا القرآن من مصحف أبيّ واستظهروا به في الاملاء9. وأرسل عثمان إلى كل أفق من يجمع المصاحف أو الصحف التي فيها قران، وأمر بها أن تحرق10 وقيل سلقها بالماء الحار والخل11. بعد ذلك قاموا باستنساخ عدد من المصاحف من النسخة الأم عددها ستة12 حسب الأمصار المهمة آنذاك وهي: مكة والكوفة والبصرة والشام والبحرين واليمن، وحبس السابعة وهي الأم أو الإمام في المدينة. وهذا المصحف هو المصحف المتداول اليوم بين المسلمين.

المصحف الموجود اليوم

المصحف الموجود بين أيدينا اليوم هو قران كله، يدل على ذلك أمور:

1- موقف الأئمة عليه السلام من توحيد المصحف:

فقد أقرّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عثمان على ما فعله من توحيد القراءة في المصحف وكان يقول فيه:
"إن القرآن لا يهاج اليوم ولا يحوّل"13.

وسار على هذا المنهج الأئمة من ولده، فقد روي أن رجلاً قرأ عند الإمام الصادق عليه السلام حروفاً غير المعروفة في القرآن الكريم، فقال له الإمام عليه السلام:
"مه مه كفّ عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس".

وقال عليه السلام في جواب من سأله عن الترتيل في القرآن:
"اقرأوا كما علّمتم"14.

2- تواتر القرآن حفظاً وتدويناً منذ عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله.

3- عدم تيسّر الزيادة والنقصان في القرآن لأحد، حتى للخلفاء الذين توالوا على الحكم بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وغيرهم، كقول عمر بن الخطاب: "لولا أن يقول الناس أن عمر زاد في كتاب اللَّه لكتبت آية الرجم بيدي" 15.

* دوس قرآنية. سلسلة المعارف الاسلامية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط:6، آب 2009م-1430ه. ص: 21-26.


1- الأكتاف: أي عظام الأكتاف. العسيب: جريدة النخل إذا كشط. اللخاف واللخف: حجارة بيض رقاق. الرقاع: جمع رقعة، وهي القطعة من الورق يكتب عليه. الكرانيف: أصول السعف الغلاظ العِراض إذا يبست.
2- مجمع البيان، مقدمة التفسير، ص15.
3- راجع تفسير القمي، ص745، والبحار، ج92، ص48 و52.
4- الحاقة: 12.
5- تفسير العياشي، ج1، ص14.
6- مناقب ابن شهر اشوب: ج2، ص41 40. والبحار، ج92، ص52 51.
7- تفسير البرهان، ج1، ص16.
8- الكامل في التاريخ، ج3، ص55.
9- فتح الباري، ج9، ص15.
10- صحيح البخاري، ج6، ص226.
11- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص159.
12- المصاحف لابن أبي داود، ص34.
13- مجمع البيان، ج9، ص218.
14- وسائل الشيعة، ج4، ص821.
15- الاتقان للسيوطي، 26 25 2.

2010-06-09