التقليد والاجتهاد والمجتهد
المعرفة
نعتقد: أن الله تعالى لمّا منحنا قوة التفكير ووهب لنا العقل، أمرنا أن نتفّكر في خلقه وننظر بالتأمل في آثار صنعه، ونتدبر في حكمته وإتقان تدبيره في آياته في الافاق وفي أنفسنا، قال تعالى: سَنُريِهم آياتنَا في الافاقِ وَفي أنفُسِهِم حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنَّهُ الحَقُّ.وقد ذم المقلّدين لآبائهم...
عدد الزوار: 426
عقيدتنا في النظر والمعرفة
نعتقد: أن الله تعالى لمّا منحنا قوة التفكير ووهب لنا العقل، أمرنا أن نتفّكر في خلقه وننظر بالتأمل في آثار صنعه، ونتدبر في حكمته وإتقان تدبيره في آياته في الافاق وفي أنفسنا، قال تعالى: ﴿سَنُريِهم آياتنَا في الافاقِ وَفي أنفُسِهِم حتّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أنَّهُ الحَقُّ﴾1.
وقد ذم المقلّدين لآبائهم بقوله تعالى: ﴿قالُوا بَل نَتَّبِعُ ما ألفَينا عَليهِ آباءَنا أوَلَو كانَ آباؤهُم لا يَعقِلُونَ شيئاً﴾2.
كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال: ﴿إن يَتَّبِعونَ إلاّ الظنَّ﴾3.
وفي الحقيقة أن الذي نعتقده: إنّ عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدّعي النبوة وفي معجزته، ولا يصح عندها تقليد الغير في ذلك مهما كان ذلك الغير منزلة وخطراً.
وما جاء في القرآن الكريم من الحث على التفكير وإتباع العلم والمعرفة فإنما جاء مقرّراً لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وجاء منبّهاً للنفوس على ما جبلت عليها من الاستعداد للمعرفة والتفكير، ومفتّحاً للأذهان وموجِّهاً لها على ما تقتضيه طبيعة العقول.
فلا يصح ـ والحال هذه ـ أن يهمل الإنسان نفسه في الأمور الاعتقادية، أو يتّكل على تقليد المربين، أو أي أشخاص آخرين، بل يجب عليه ـ بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية ـ أن يفحص ويتأمّل وينظر ويتدبّر في أصول اعتقاداته4 المسماة بأصول الدين التي أهمّها: التوحيد، والنبوة والإمامة، والمعاد.
ومن قلّد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الأصول فقد ارتكب شططاً، وزاغ عن الصراط المستقيم، ولا يكون معذوراً أبداً.
وبالاختصار عندنا هنا ادّعاءان
الأول: وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد، ولا يجوز تقليد الغير فيها.
الثاني: إنّ هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوباً شرعياً، أي لا يستقى علمه من النصوص الدينية، وإن كان يصح أن يكون مؤيّداً بها بعد دلالة العقل.
وليس معنى الوجوب العقلي إلاّ إدراك العقل لضرورة المعرفة، ولزوم التفكير والاجتهاد في أصول الاعتقادات.
عقيدتنا في التقليد بالفروع
أمّا فروع الدين ـ وهي أحكام الشريعة المتعلّقة بالأعمال ـ فلا يجب فيها النظر والاجتهاد، بل يجب فيها ـ إذا لم تكن من الضروريات في الدين الثابتة بالقطع، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة ـ أحد أمور ثلاثة:
إمّا أن يجتهد وينظر في أدلة الأحكام إذا كان أهلاً لذلك.
وإمّا أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط.
وإمّا أن يقلّد المجتهد الجامع للشرائط، بأن يكون من يقلّده: عاقلاً، عادلاً "صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه"5.
فمن لم يكن مجتهداً ولا محتاطاً ثم لم يقلّد المجتهد الجامع للشرائط فجميع عباداته باطلة لا تقبل منه، وإن صلّى وصام وتعبّد طول عمره، إلاّ إذا وافق عمله رأي من يقلّده بعد ذلك، وقد اتّفق له أنّ عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى.
عقيدتنا في الاجتهاد
نعتقد: أنّ الاجتهاد في الأحكام الفرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور غيبة الإمام، بمعنى أنّه يجب على كلّ مسلم في كلّ عصر، ولكن إذا نهض به من به الغنى والكفاية سقط عن باقي المسلمين، ويكتفون بمن تصدّى لتحصيله وحصل على رتبة الاجتهاد وهو جامع للشرائط، فيقلّدونه
ويرجعون إليه في فروع دينهم.
ففي كلّ عصر يجب أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم، فإن وجدوا من بينهم من تبرّع بنفسه، وحصل على رتبة الاجتهاد ـ التي لا ينالها إلاّ ذو حظ عظيم ـ وكان جامعاً للشرائط التي تؤهّله للتقليد، اكتفوا به وقلّدوه، ورجعوا إليه في معرفة أحكام دينهم.
وإن لم يجدوا من له هذه المنزلة وجب عليهم أن يحصّل كل واحد رتبة الاجتهاد، أو يهيّئوا من بينهم من يتفرّغ لنيل هذه المرتبة، حيث يتعذّر عليهم جميعاً السعي لهذا الأمر أو يتعسّر.
ولا يجوز لهم أن يقلّدوا من مات من المجتهدين.
والاجتهاد هو: النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، وهي لا تتبدّل ولا تتغيّر بتغيّر الزمان والأحوال "حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة"6.
والأدلة الشرعية هي: الكتاب الكريم، والسنّة، والإجماع، والعقل، على التفصيل المذكور في كتب أصول الفقه.
وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيّأ إلاّ لمن جد واجتهد، وفرّغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها.
عقيدتنا في المجتهد
وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط: إنّه نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الإمام، والراد على الإمام راد على الله تعالى، وهو على حدّ الشرك بالله، كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم السلام7.
فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعاً في الفتيا فقط، بل له الولاية العامة، فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء، وذلك من مختصّاته، لا يجوز لأحد أن يتولاّها دونه إلاّ بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلاّ بأمره وحكمه.
ويرجع إليه أيضاً في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصّاته.
وهذه المنزلة أو الرئاسة العامّة أعطاها الإمام عليه السلام للمجتهد الجامع للشرائط، ليكون نائباً عنه في حال الغيبة، ولذلك يسمّى "نائب الإمام".
*عقائد الامامية، الشيخ محمد رضا المظفر، ص: 19-23.
1- فصّلت: 53.
2- البقرة: 170.
3- الانعام: 116.
4- ليس كل ما ذكر في هذه الرسالة هو من أصول الاعتقادات، فانّ كثيراً من الاعتقادات المذكورة ـ كالقضاء والقدر والرجعة وغيرها ـ لا يجب فيها الاعتقاد ولا النظر، ويجوز الرجوع فيها إلى الغير المعلوم صحة قوله، كالانبياء والائمة، وكثير من الاعتقادات من هذا القبيل: كان اعتقادنا فيها مستنداً إلى ما هو المأثور عن ائمتنا عليهم السلام من صحيح الاثر القطعي "منه قدس سره".
5- التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري عليه السلام: 300، الاحتجاج 2/511.
6- الكافي 1/58، المحاسن 1/420.
7- الكافي 1/54، الاحتجاج 2/260.